مع مصطفى في سيرة المصطفى 4 +5

مع مصطفى في سيرة المصطفى

معمر حبار

[email protected]

الحلقة الرابعة

الحالات المختلفة لرسول الله: سيّدنا رسول الله بشر ويوحى إليه في نفس الوقت.. فهو القائد، والزوج، والأب، والقاضي، والصديق، فوجب التعامل مع كل حالة بما يناسبها ويناسب وضعية المتعامل.

فالمشكلة في هذه الحالة بالذات، ليست في النص، إنما في عدم فهم الظروف التي قيل فيها النص، وكذلك في الحالة التي كان عليها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء ذكر النص.

رسول الله الحاكم والقاضي: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضع الخاتم لضرورات يتطلبها القاضي والحاكم يومها، لأنه كان يختم بها المراسلات والعهود. فهي إذن سنة للقاضي والحاكم وكل من يمضي المراسلات والعهود، وليست سنة للإنسان للعادي. والآن بعد التطور الكبير الذي طرأ على وسائل الختم، يمكن للمجتهدين أن يجتهدوا في إطار هذا التطور، ويدلوا بما يناسب النص والوضع الجديد.

رسول الله الأب: إن استغلال حالة إنسانية تتعلّق بسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويفعلها كل البشر مع أبناء الأحباب وأبناء الأعداء، لأمر يتعلّق بالخلافة والملك، يسيء إلى الحالة بذاتها، وإلى سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكمثال على ذلك ..

إن سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزل من المنبر لأجل سيّدنا الحسن والحسين، رضوان الله عليهما، وكان يطيل في السجود، حتى ينزل الحسن والحسين من على ظهره. وسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، تصرّف في هذه الحالة، كأب وجد يحب الأبناء والأحفاد، ولا يصبر على بكاء الأطفال. فهي حالة إنسانية، يعرفها كل أب، ومن الأفضل أن تبقى في إطارها الإنساني، دون تحميلها مالا تطيق.

قريش والإمامة: الذي يقرأ كتاب "الأحكام السلطانية" للماوردي، يجده يركز على أن الخليفة لابد أن يكون قريش. ويمكن للمتتبع أن يجد العذر للأوائل الذين تبنوا هذا الرأي. فكيف يعقل بالمعاصرين وهم يقولون هذا الكلام، لأن الخلفاء من قريش. وهذا وجه من أوجه تحميل الواقعة مالا تطيق. فلا يعقل وبعد مرور 14 قرنا تجد من ينادي ويطالب، بأن يكون الحاكم من قريش.

 

رسول الله الزوج: وماكان يفعله في بيته مع أزواجه، فإنه كان تصرف زوج وفي حالات معينة، ولكل يختار الحالة التي تناسبه وتناسب أهله، ولا يمكن إلزام الناس بحالات معينة، كطريقة الضحك مع الأهل، وحالات خاصة جدا مع الزوج.

قال العلماء: للسنة 3 شروط .. القيام بالفعل قصد العبادة. والعلانية . والمداومة. فالتراويح ليست سنة، لأنه لم يداوم عليها. وجلسة الاستراحة ليست سنة، لأنه لم يفعلها- إن فعلها- بقصد العبادة. وما يقوم به داخل بيته وبين أهله، يعتبر عمل خاص به، لأنه لم يعلنه أمام الملأ.

إذن المسألة ليست في النص، إنما في الاختلاف والتضارب في شرح هذا الحديث أو ذاك، وفي احتكار فهم الحديث، ورفض الآخر، وفرض فهم على آخر.

الطريقة المثلى للتعامل مع النص: بين يدي الآن كتاب: "معجز محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، للشيخ التونسي عبد العزيز الثعالبي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة 1406 هـ - 1986، من 286 صفحة، يقول صاحب الكتاب في صفحة 11، وهو يتحدّث عن الطريقة المثلى في التعامل مع النص والسيرة والأحاديث النبوية  ..

"وقد سلكت في تخريج فصوله، وإثبات فرعه، وأصوله، على ماصح عندي من الرواية وتبينته من الدراية، سالكا في النقل مسلك الثقات المتقدمين، ومعتمدا في التخريج النّقاد المعاصرين، ليكون وسطا بين المذهبين، وجامعا لما تفرّق بين الموردين.".

مصيبة رفض فضائل الفضلاء والفضائل: إن رفض فضائل الأعمال، بحجة ضعف الأحاديث، حرم الأمة من فضائل، ونشر الغلظة والقسوة بين أفراد المجتمع، حتى أمسى الولد لايطيع الوالدين، لأن شيخه علّمه أن حديث: " الجنة تحت أقدام الأمهات" ضعيف، فلم يعد يكترث بطاعة الوالدين.

ونفس الكلام يقال بشأن كتاب "إحياء علوم الدين"، لأبي حامد الغزالي، رحمة الله عليه. فقد قرأه العلماء، ووجدوا فيه أحاديث موضوعة وضعيفة، وأعادوا كل حديث لزاويته الأصلية من حيث التخريج، وبقيت الأمة تستفيد من الكتاب والفضائل الحميدة التي تضمنها، حتى قالوا في شأنه ، من لم يقرأ الإحياء ، فليس من الأحياء.

والمتصفح لكتاب: " الروض الفائق في المواعظ والرقائق"، للشيخ شعيب بن سعد بن عبد الكافي المصري، المكي، الحريفيش، المتوفي سنة 810 هـ - 1407م،  تحقيق خالد عبد الرحمن العك، دار صادر لبنان، ودار البشائر سورية، الطبعة الأولى 1425 هـ - 2004، من 537 صفحة.  ويتحدث المحقق في مقدمته للكتاب عن كيفية التعامل مع النص الوارد في الكتاب، فيقول بشأنه ..

أنه كتاب يحتوي على كثير من الأحاديث المكذوبة ، والمنسوبة إلى سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقصص خيالية ومكذوبة. وقال بعدها، انحصر عملي في تنقيح الكتاب من الأحاديث المكذوبة والموضوعة، والقصص الخالية التي لاتناسب رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذه عيّنة من الكتب التي تحمل أحاديث مكذوبة، وعيّنة من كيفية تعامل العلماء معها.

تكمن المشكلة في رفض الأحاديث جملة وتفصيلا بحجج متعددة. فهذا يرفضها لأنها كتبت بعد قرنين، وفي العصر الأموي، وكانت لأغراض سياسية. وآخر يرفضها لأن الجهة التي يعاديها لاتعتمد على السند مثله، الذي لايعترف به الآخر، رغم أن كل فريق من هذا وذاك، يفتخر على الآخر بأنه صاحب السلسلة الذهبية، وفي نفس الوقت، لايعترف كل منهما للآخر بالسلسلة الذهبية.

مع العلم، يؤكد الأستاذ مصطفى في مداخلته الثالثة، أنه لايوجد سلسلة ذهبية لهذا ولا ذاك، لأنها كتبت بعد قرنين أو ثلاثة من الزمن. ويبقى المجال مفتوحا لمن يريد أن يناقشه في هذه النقطة.

في الحلقة الخامسة والأخيرة من سلسلة مقالات" مع مصطفى في سيرة المصطفى 5"، سيطرق صاحب الأسطر، بإذنه تعالى إلى علاقة النص بالسياسة.

الحلقة الخامسة الأخيرة

السياسة التي أفسدت الدين: يتحدث الأستاذ مصطفى العمري كثيرا عن أن الأسباب السياسية كانت وراء تأخير تدوين السنة قرنين من الزمن، وإلا لماذا تأخرت كل هذه المدة الطويلة جدا في نظره؟.

وبما أنه قد تمّت الإجابة على شطر من السؤال في الحلقات الأربع الماضية. وقد تكون إجابة شافية أو غير كافية، فإن صاحب الأسطر، يرى أن الصراعات السياسية، والجري وراء الكرسي، والسعي لإرضاء السلطان بأيّ ثمن،  كانت ومازالت من الأسباب الرئيسية للخلاف والاختلاف في فهم النصوص، وعدم قبول نص دون الآخر، أو رفض نص دون الآخر، ماأتبعه رفض الآخر مطلقا، بغض النظر عن مايقول ويملك من النصوص وسبل فهمها.

الاختلاف حول الخلافة:   حين يعود المرء للطفولة، حين كان في المرحلة التعليمية من المتوسط، يتذكر جيدا أنه قرأ بفطرته وبياضه للشيخ محمد الغزالي، رحمة الله عليه في بعض كتبه، أن الصراع القائم بين المذاهب الإسلامية هو صراع سياسي لاعلاقة له بالدين. ومن يومها بقيت الفكرة راسخة، ولم يتدخل في الصراع القائم، لأنه علم أنه صراع سياسي لاعلاقة له  بالاختلاف في النص وشرحه ..

هذا يعود للخمسة عشر قرنا إلى الوراء، ليثبت بالأحاديث والآيات أنه أحق بالخلافة، وآخر يعترضه بنفس الأحاديث والآيات أحيانا، ليثبت أنه أحق بالخلافة. ومازال الصراع والقتال يحصد الأرواح البريئة، ويزيل العمران، باسم من هو أحق بالخلافة، حتّى أن أحد الأمريكيين اندهش وضحك للأذقان، حين علم أن الأشخاص المذكورون يعودون لخمسة عشر قرنا، وهو الذي كان يعتقد أن هذا جمهوري والآخر ديمقراطي، فلم يصدق كيف يمكن لصراع على السلطة أن يمتد كل هذه القرون، ومازال يشتد ضراوة مع امتلاك الأسلحة والتحالفات.

وآخر من أجل أن يبرر للسلطان أن يفعل مايشاء، يقول إنه لايوجد أحاديث نبوية تؤكد على الانتخابات، ليبرر لسلطانه عدم أحقية الانتخابات.

وآخر ينفي وجود أحاديث تدل على الشورى، لأنه في نظره الملك والحكم له وحده دون غيره، ودون أن يشاور أحدا.

فالأول بالنسبة له التوريث في الحكم من القرآن، والثاني التوريث في الحكم من أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، التي ورثها من بعده فلان وفلان، لكن اغتصبه في نظره فلان وفلان.

ولأجل البقاء في السلطة والحكم بأيّ ثمن، وإزالة الآخر من الحكم بأيّ ثمن، طبعت كتب تحتوي على أحاديث نبوية تؤيد فريق دون الآخر بأحقيته في الملك والتسيير على حساب الآخر.

إن إستغلال الأحاديث النبوية لأغراض سياسية، جعل أصحابها يحتكرون الفهم والشرح، ويحصرونه في فئة قليلة من الأشخاص والكتب، ولا يعترفون بما دونهم. بل إن هذا الاستغلال السياسي للدين، أقام لنفسه دولة تنادي بأنها أحق بالملك والخلافة، وبالتالي أحق بفهم الأحاديث النبوية وتفسيرها، والويل بعدها لمن خالف شيخ السلطان.

إحتكار فهم الأحاديث: هناك فريق لم يتطرق إليه الأستاذ مصطفى إطلاقا، ونعاني من ويلاته، وكتبنا في شأنه الكثير والكثير من المقالات، أرجو من الأستاذ مصطفى أن يوافقني فيه، ويمد لي يد المساعدة في شأنها، والنصح لأجلها ..

هذه الفرقة بالنسبة لها، الحديث الصحيح ماصححه فلان بعينه، والحديث الضعيف ماضعفه نفس الشخص بعينه، ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال، مخالفته أو نقده أو تصحيح ضعيفه، أو تضعيف صحيحه. فهو بالنسبة لهم أفضل من البخاري ومسلم ورواة الحديث. وأثناء زيارتي هذا العام، للمعرض الدولي للكتاب، وجدت كتابا بعنوان: "صحيح صحيح البخاري". مايراه هذا الشخص هو الصحيح، سواء من ناحية الصحة أو الكذب. ونفس الأمر ينطبق على كتب التراث العريقة في الحديث.

منذ يومين، قال صاحب المكتبة، حين اقتنيت كتاب "الروض الفائق في المواعظ والرقائق"، أن الزائرين الجدد للمكتبة ، يختلفون عنكم كثيرا. فهو يسألك قائلا، هل الكتاب محقق!!. و"تحقيق!" الكتاب في نظره، أن الأحاديث المروية في الكتاب، لابد أن تكون حسب مايراه "الشيخ المحدث" من صحة وضعف.

فهؤلاء لايرفضون الأحاديث ولا يقبلونها ، إنما يرفضون مارفضه شيخهم، ويقبلون مايقبله شيخه. فأنا وأنت بالنسبة لهم ضالين منحرفين. وهذه الظاهرة تفشت وتغلغلت بين أفراد المجتمع، وألغت كل مايخالفها ، ولو كان حسنا نافعا.

الإمام مالك والأحاديث: إن التعصب لمذهب أو شخص ممقوت مذموم، وإليك سيّدنا الإمام مالك، كيف أنه لم يتعصب لرأي ولم يبع دينه لدنيا السلطان، حين طلب منه أن يفرض الموطأ على الناس. فيقول في شأنه العالم الفقيه المغربي سعيد الكملي في شرحه للموطأ، فيما ينقله عن سيدّنا الإمام مالك في طريقته الصارمة والدقيقة في البحث عن الأحاديث، وطريقة التعامل معها، قوله ..

رأيت في هذا البلد أهل فضل وصلاح، ولم آخذ منه شيئا ، لأنهم لايعرفون مايحدثون. وأدركت 70 رجلا، يُحدّثُ عن رسول الله، وليس بينهم وبين رسول الله إلا رجل واحد، لم آخذ منهم، لأنهم لم يكونوا من هذا الشأن. وحين جاء الزهري، كنا نزدحم عنده، لأنه من أصحاب الشأن. وكان الرجل يجلس يحدّث اليوم كلّه ولا نأخذ عنه شيئا، لأنه لم يكن من هذا الشأن.

 خلاصة: إن أيّ إختلاف في الأرض وعلى مدى الدهر، يمكن حلّه وإيجاد مخرج مشرف لأصحابه، لكن حين يلبس الخلاف عباءة الدين وبرنوس السياسة، فإن دمارا سيحل وخرابا سيقع وأنفسا طاهرة ستزهق.

والمتأمل في حياة الأمة على مدار القرون، يجد أن الخلاف صنيعة سلطان ، ومن رضي لنفسه أن يكون في فلكه وخادما له، لينال دنيا باسم الدين، ويحارب دينا باسم السياسة.

وأصبح واضحا عبر الحلقات الخمس من سلسلة " مع مصطفى في تعريف المصطفى"، أن خلاف قرون لايعالج بأسطر، لكن إتفاق يوم واحد تفسده الأطماع السياسية، ناهيك عن خلاف الأزمنة.  

هذه محاولة من صاحب الأسطر، سعى ليقرّب الفهم قدر استطاعته، ويفهم الآخر بالقدر الذي تسمح به قراءاته وثقافته ونشأته.

وإن التطرق لمواضيع مثيرة، يحتاج لجرأة معقولة ، وسعة صدر، وصفاء قلب، وإطّلاع لمصادر الذات ومرجع الآخر، ونية صادقة في الاستماع والتواصل. فتحية لك أيها الأستاذ مصطفى العمري، ووفقك الله لخدمة لما يقرّب ويزيد المبهم وضوحا.