الآثار السلبية المترتبة عن ظاهرة انتشار وسائل التواصل الاجتماعي
من المعلوم أن الظاهرة الاجتماعية هي عبارة عن انتشار سلوك جمعي بين الناس في مجتمع ما . وقد تكون الظاهرة الاجتماعية إيجابية كما قد تكون أيضا سلبية ، وفي هذه الحالة تطرح مشاكل ، وتحدث خللا في المجتمع يعود بالضرر على أفراده . ومعلوم أن الظاهرة الاجتماعية يقف وراء انتشارها سلوك التقليد والمحاكاة ،الشيء الذي يجعل انتشارها سريعا ، و فعلها في المجتمع كفعل النار في الهشيم ، ذلك أنه بمجرد ظهور سلوك من فرد أو مجموعة أفراد ينتشر بسرعة كبيرة بين أكبر عدد من الأفراد في المجتمع، وقد ينتهي باكتساح المجتمع برمته ، ويتعداه إلى مجتمعات أخرى . ومعلوم أيضا أن تطور التواصل بين البشر في هذا العصر عن طريق تطور وسائله يساهم بشكل كبير في انتشار الظواهر الاجتماعية الإيجابي منها والسلبي على حد سواء . ويوصف العالم اليوم بسبب تطور وسائل وتقنيات التواصل بأنه قد صار قرية صغيرة حيث طوى تطور تلك الوسائل والتقنيات مسافاته، وجعل الناس في العالم على مقربة من بعضهم البعض . ومع ما في هذا التقارب من إيجابيات، فإنه لا يخلو من سلبيات ، وشأن هذه السلبيات كشأن الأوبئة والأمراض المعدية التي تنتشر بسرعة بسبب تطور وسائل النقل اليوم، ذلك أنه لا يكاد إنسان موبوء يركب وسيلة نقل حتى يوزع وباءه على الذين يشاركونه ركوب تلك الوسيلة ، ولا يكاد يطأ أرضا حتى ينقل معه وباءه إلى أهلها ، لهذا تتخذ الاحتياطات في حال ظهور أوبئة . وكما تنتقل الأوبة عن طريق العدوى تنتقل أيضا الظواهر الاجتماعية السلبية . والفرق بين انتشار الأوبئة وانتشار الظواهر الاجتماعية السلبية هو أن الأولى تنتقل عن طريق الاحتكاك عن قرب بينما الثانية تنتقل عن بعد عبر وسائل التواصل التي غزت كل مكان في هذا العالم، وقد أغرت الجميع باستعمالها وهي تلبي حاجة الناس في التواصل خصوص وأن للناس ميلا فطريا إلى الفضول لمعرفة ما يكون عليه غيرهم من أحوال . و من المعلوم أيضا أنه لا يستطيع أحد أن يمنع اجتياح المواد المختلفة التي تحملها وسائل التواصل الاجتماعي للناس . وإذا كان الإنسان يستطيع أن يمنع غيره من أن يقتحم على وجه الحقيقة جدران بيته عليه ، فإنه لا يقوى على منعه من اقتحامه عليه عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي التي صارت بمثابة المفتاح السحري أو الذكي الذي يفتح كل الأبواب . والغريب أن الإنسان الذي يحرص على سرية حياته الخاصة هو نفسه الذي يهتكها حين يأذن بمحض إرادته لغيره اقتحام حماه بمجرد الانخراط في استعمال وسيلة التواصل الاجتماعي . ومع ازدياد استعمال وانتشار تلك الوسائل ازدادت مشاكل الناس وتعقدت بشكل جعلها تتحول إلى معضلات لا حل لها .
وسنحاول في هذا المقال الوقوف على بعض الآثار السلبية المترتبة عن ظاهرة انتشار وسائل التواصل الاجتماعي . ونبدأ أولا من أثر تقسيم أو تشتيت هذه الوسائل لأفراد المجتمع الواحد بدءا بنواته الأولى التي هي الأسرة ،ومرورا بغيرها من الكيانات الأخرى ،وانتهاء بالمجتمع ككل ، ذلك أن وسائل التواصل الاجتماعي فرقت أفراد الأسرة الواحدة بحيث يتعاطى كل فرد فيها بطريقته الخاصة في استعمالها ، فالوالدان لكل واحد منهما استعماله الخاص ، والأبناء ذكورا وإناثا لكل واحد منهما استعماله الخاص أيضا نظرا لاختلاف الاهتمامات . ومن المثير للسخرية أن أفراد الأسرة الواحدة الذين لا يستطيعون منع الغرباء من اقتحام أسوار حياتهم الخاصة يحرصون على فرض السرية التامة فيما بينهم، فلا يعرف الزوجان شيئا عما يجريه كل منهما من اتصال مع الغرباء ، كما أنهما لا يعرفان شيئا عن تواصل أبنائهما وبناتهما مع الآخرين . ويكفي أن يصير أمر الأسرة بهذه الحال لإدراك مدى سلبية أثر تعاطي وسائل التواصل الاجتماعي وخطورتها على الكيان الأسري . وغالبا ما يحدث التفكك الأسري بسبب انكشاف ما يخفيه أفراد الأسرة الواحدة عن بعضهما حين تعاطي وسائل التواصل الاجتماعي ، ذلك أن الزوجين قد يكتشف أحدهما الخيانة الزوجية التي تتأتى عن طريق تعاطي هذه الوسائل، الشيء الذي ينهي في الغالب العلاقة الزوجية ويفكك الأسرة، وقد يصاحب ذلك ارتكاب ما لا تحمد عقاباه فوق انهيار تلك العلاقة. ومن الآثار السلبية أيضا دخول وسائل التواصل الاجتماعي في بناء العلاقات حيث انتشرت ظاهرة الزواج بواسطة تلك الوسائل ، وهو زواج يحمل في طياته مجازفة ومخاطرة بالحياة والمصير . وقد يقع المستعملون لوسائل التواصل الاجتماعي لاختيار شريك أو شريكة الحياة ضحايا النصب والاحتيال والمتاجرة بالأعراض . فكم من فتاة خدعت بالزواج عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي لتجد نفسها متورطة في وحل الدعارة خصوصا الفتيات اللواتي يرغبن في الزواج من الأجانب في بلدان أجنبية ، وهي مجتمعات تغريهن بتحقيق أحلامهن في عيش الرفاهية التي لا توفرها لهن بلدانهن .ويوجد سماسرة للدعارة شغلهم هو الإيقاع بضحايا من الطامعات والراغبات في الزواج عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ومن الآثار السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي أيضا انتشار الانحلال الخلقي خصوصا بين فئات الشباب حيث توفر هذه الوسائل الخلوة التامة بينهم عن بعد بحيث يتبادلون الصور والفيديوهات التي تصورهم في وضعيات مخزية، وذلك في غفلة ودون علم الآباء والأمهات وأولياء الأمور وبعيدا عن أعينهم ، وفضلا عن ذلك يتبادل هؤلاء الشباب فيما بينهم الأشرطة والفيديوهات الإباحية ، وكل ذلك يساعد على انتشارالانحلال الخلقي ويجعله متفشيا في المجتمع ، وفي ذلك تدمير خطير للقيم الأخلاقية .ومن الآثار السلبية الناتجة عن وسائل التواصل الاجتماعي أيضا انتشار ثقافة العبث حيث يتعاطى المتواصلون من مختلف الأعمار النكت بما فيها خوصا تلك التي تخدش الأخلاق ،فضلا عن تبادل فنون السخرية والاستهزاء بالناس ، والتندر بأحوالهم الشخصية الخاصة، بل تعمد كشف أسرارهم لتشويهم سمعتهم وتلطيخها . وقد يتم ابتزاز بعض الناس من خلال تهديدهم بنشر صورهم وهم في وضعيات محرجة . وكم خرب ذلك من بيوت، وفكك من أسر، وشرد أفرادها، وشتت شملهم ، وكم هم ضحايا الابتزاز بواسطة وسائل التواصل الاجتماعي، ولم تبق للأسر أو الأفراد حرمة أو كرامة تحترم وتصان، ولا أسرار تحفظ بل صار كل شيء مستباحا في غياب آلية فعالة لمراقبة وضبط وسائل التواصل التي صارت أدوات اعتداء على الأعراض بل وسائل إجرام . ومن الآثار السلبية كذلك بسبب انتشار وسائل التواصل زعزعة قناعات ومعتقدات كثير من الناس وتشكيكهم فيها بسبب انتشار وتبادل مواد تنشر أفكارا ووجهات نظر لمختلف التيارات الفكرية والعقدية ، والتي تتصارع فيما بينها ،ويسفه بعضها بعضا ،وتستهدف التشويش على أتباع بعضها البعض . والخطير في الأمر أن الصراع بين بعضها يكون في المجال الديني، الشيء الذي يؤلب الناس على مذاهب تربوا عليها في بلدانهم، وصار ولاؤهم لمذاهب غريبة عنهم الشيء الذي يزرع الفتنة بين أبناء المذهب أو العقيدة الواحدة . ويستهدف العلماء والدعاة عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، ويشكك في مصداقيتهم لزعزعة ثقة الناس فيهم ، فلا يعود لتوجيههم دور أو تأثير، وهو أمر خطير يجعل الناس كالقطعان التائهة دون رعاة ودون توجيه وإرشاد ، و يحل محل العلماء الرؤوس الجهّال الذين يفتون بدون علم، فيضلون ويضلون كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومن الآثار السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي أيضا ترويج المعلومات غير الصحيحة في المجال الديني من قبيل نشر الأحاديث الموضوعة والمكذوبة، والدعوة إلى ترويجها واستغلال سذاجة البعض وإغرائهم بنشرها إطماعا لهم في الأجر والثواب ،وهم في الحقيقة آثمون بذلك، الشيء الذي يفتح الباب واسعا على مصراعيه للافتراء والكذب على الله عز وجل وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم . ومن الآثار السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي أيضا انتشار الأراجيف بشكل غير مسبوق ، ذلك أنه لا يكاد الخبر ينشر عبرها حتى يسري بين المتواصلين سريان النار في الهشيم، والمؤسف أن المستقبلين للخبر يتلقونه دائما على أساس أنه صدق لا يحتمل كذبا كما تقول القاعدة في الخبر عند البلاغيين، الشيء الذي يجعل المتواصلين على درجة فظيعة من السذاجة والغفلة ، وقد تبلد حسهم النقدي أو تعطل تماما .ومن الآثار السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي أيضا انشغال الناس بها وهدر الوقت الثمين فيما لا طائل وراءه وفيما لا يعود بنفع عليهم بل يعود عليهم بضرر وإثم . ومن الآثار السلبية أيضا شغل وسائل التواصل الاجتماعي المتواصلين عبرها عن الدراسة وتحصيل المعارف والقراءة والمطالعة ، فلم يعد الناس يتصفحون الكتب والمجلات والجرائد بل يكتفون بتحريك سبابتهم على بلورات الهواتف واللوحات والحواسيب الشيء الذي يعمق كسلهم وبلادتهم .ومن الآثار السلبية أيضا انصراف أفراد الأسرة الواحدة عن بعضهم البعض في سهراتهم العائلية بسبب الانشغال بالتواصل عن بعد مع الغير بدلا من التواصل الحميمي عن قرب فيما بينهم ، كما أن المتواصلين يبدون منشغلين في الأماكن العمومية ،وعبر وسائل النقل العمومي، وفي المنتديات، وحتى في أماكن العبادة بحيث لا يحفل بعضهم ببعض ،ولا بما يدور حولهم . ومن الآثار السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي أيضا استعداد جميع المتواصلين في كل وقت وحين لتسليط عدسات هواتفهم على كل ما يدور حولهم من أحداث مثيرة لفضولهم ليجعلوا منها مواد استهلاك توظف التوظيف السيء الذي يكون في الغالب عبثا أو هتكا للأعراض وابتذالا للكرامة ،وموضوعا للسخرية بالغير والتندر به. ومن الآثار السلبية أيضا التغريدات عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تجني على أصحابها جناية براقش على أهلها كما يقول المثل العربي ، فكم من مغرد عرّض نفسه لمتاعب كان في غنى عنها بإطلاق العنان لتغريده دون أن يقدر عواقب ذلك ، وكم من مغرد فتّان أضرم نار الفتن بتغريداته المتهورة .
ونختم أخيرا بالإشارة إلى أخطر الآثار السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي وهي أن جميع الذين يستعملونها يوجدون تحت رقابة دائمة سواء من طرف الهاكرز أو من طرف أجهزة الاستخبارات، بحيث يكفي أن يفتح الواحد جهاز تواصله ليكون تحت الرقابة الدقيقة التي تطلع على رسائله المختلفة، وعلى كل ما في جهازه من معلومات مخزنة سواء كانت مصورة أو مكتوبة ، وهذا كاف لجناية وسائل التواصل الاجتماعي على أصحابها الذين هم في غفلة عن توظيف غيرهم لها لاستباحة ما يعتقدون أنه في مأمن من أحوالهم وأسرارهم .فهل سيعي مستعملو وسائل التواصل مخاطر آثار السلبية ؟ أم الأمور ستسير في اتجاه تعقيد تلك الاثار لتصير معضلات مستعصية على المعالجة والحل ؟
وسوم: العدد 738