مصر: بين تآكل الدولة وخطر ثورة الجياع

رأي القدس

بينما ينصب الاهتمام الاعلامي على الصراع السياسي في قمة الدولة المصرية، ربما لا يقدر كثيرون خطورة ما يحدث في قواعدها العتيدة من تآكل وغياب للادوات التنفيذية نتيجة تراكم ميراث من الفساد والاهمال والبيروقراطية، يجعل تطبيق اي برامج اصلاحية محل شكوك واسعة. 

ويفسر هذا الوهن او الارهاق الذي يصل احيانا الى حد العجز في القاعدة البيروقراطية للدولة، والتي يبلغ قوامها نحو ستة ملايين موظف، عدم قدرة التغييرات السياسية في قمة السلطة وحدها على احداث اي انجاز حقيقي يشعر به المواطنون.

ومن السهل على زائر القاهرة هذه الايام ان يرى ذلك النزف البطيء، لكن القاتل بوضوح في احوال العديد من المرافق الحيوية للبلاد، حتى انه اصبح يشكل الخطر الحقيقي ليس فقط على النظام السياسي الجديد، لكن على تماسك الدولة وقدرتها على الصمود في وجه غضب شعبي متنام من ضعفها.

وتاريخيا ارتبطت اغلب هبات المصريين الغاضبة بعجز الدولة عن توفير الخبز والوقود، وهو ما بدأت بوادره في الازدياد مؤخرا مع عودة الطوابير الطويلة امام محطات الوقود طلبا لشراء ‘بنزين 80 الرخيص بسبب الدعم الهائل الذي توفره الدولة، الا ان مافيا التهريب لا تترك اغلبه يصل الى مستحقيه. وبالضرورة تؤدي ازمة الوقود الى ازمات في العديد من الخدمات الحيوية، وبينها تشغيل المخابز والمستشفيات ووسائل النقل. 

اما اجهزة الحكم المحلي التي يبلغ عدد موظفيها نحو ثلاثمئة الف شخص، فقد شكلوا ‘دولة داخل الدولة’ يتلخص دستورها في كلمة واحدة: الفساد.

ومن امثلة ذلك تواطؤ تلك الاجهزة في التغاضي عن آلاف المخالفات القانونية يوميا مقابل رشاوى، ما يفسر الانهيار المستمر في بنايات حديثة البناء، واستيلاء الباعة الجائلين على الطرق الرئيسية التاريخية في وسط القاهرة، ما حولها الى اسواق شعبية بعد ان كانت تشبه شوارع باريس لرقيها ونظافتها. وادى ذلك الى تفاقم مشكلة المرور في المدينة المزدحمة اصلا، ناهيك عما يشكله من ظلم لاصحاب المحلات ما اشعل مواجهات عنيفة احيانا. 

وادى انهيار اداء تلك الاجهزة المحلية الى تراكم القمامة بشكل غير مسبوق في انحاء العاصمة بما في ذلك بعض الاحياء الراقية، وهي مع ذلك لا تتورع عن جباية ‘مقابل للنظافة’ مع فواتير الكهرباء متكررة الانقطاع.

واذا اضفنا الى ذلك كله تدهور في الخدمات الصحية والصرف الصحي والتعليم، لا يمكن الهروب من حقيقة ان الدولة المصرية تواجه خطرا غير مسبوق في تاريخها السحيق.

اما ردود افعال هكذا التآكل في قواعد الدولة فكان استئسادا من العصابات الاجرامية ادراكا منها ان الاجهزة الامنية اما ضعيفة او منشغلة في مواجهة المظاهرات او الهجمات الارهابية. ولم يعد غريبا ان تحدث حالات ‘تثبيت’ كما يسميها المصريون اي سرقة مسلحة باستخدام رشاشات آلية في وضح النهار، اما في الطريق العام او داخل سيارات النقل الجماعي (الميكروباص).

كما قرر بعض المواطنين ان يحموا انفسهم بانفسهم، فانتشرت الاسلحة الشخصية والشركات الامنية الخاصة بعد ان كانت شبه غير معروفة اصلا عند المصريين.

ويبقى هذا قليلا من كثير مما وصلت اليه الاحوال المعيشية للمواطنين المصريين، وكثير منهم اصبح يعتبر ان ‘للصبر حدودا’، خاصة بعد كل ما قدموا من تضحيات. وهذا هو الخطر الحقيقي الذي تسعى وسائل الاعلام جاهدة الى التعتيم عليه، الا ان الحقيقة انه موجود ويتصاعد يوميا.

وللاسف فان الحملات الانتخابية للمرشحين الرئاسيين حتى الان بدت غير مهتمة اصلا بهذه القضايا، وهو ما يجب تداركه قبل اندلاع ‘ثورة الجياع التي قد تجعل كل ما شهدته مصرخلال الاعوام الثلاثة الماضية يبدو وكأنه مجرد ‘نزهة في حديقة.