الربيع الإيراني لم يُزهر بعد

 مرّت ثمانيةُ أعوام على اندلاع الحركة الإصلاحية الخضراء التي كانت أضخم تحدي للثورة الإيرانية منذ قيامها عام 1979، وجاءت عقب تزوير الانتخابات لصالح الرئيس الإيراني (محمود احمدي نجاد) لفترة رئاسة ثانية في 12 يونيو 2009 , تلك الاحتجاجات السياسية ركزت على شعار "أين ذهب صوتي?" تعبيراً عن التزوير الواسع لنتائج الانتخابات لجهة إبقاء الرئيس نجاد رئيساً للجمهورية لفترة ثانية .

 النسخة الثانية من الربيع الإيراني انطلقت منذ أقل من خمسة أيام، جاء ت بشعارات سياسية مختلفة هذه المرة مثل « الموت للدكتاتور »... «الموت لروحاني»... «لا سوريا لا لبنان روحي فداء إيران » ... شعارات رنانة قديمة جديدة طورها الشعب القابع في الفقر والذلّ منذ أكثر من ثمانية وثلاثين عاماً، وهو عمر الثورة، بعد أن كان يهتف بشعار "الموت لطالبان إيران" في إشارة ضمنية إلى المرشد وزبانيته، بدأت التظاهرات عبر ثلاثة مدن رئيسية، ثم اتسعت تباعاً لتصل إلى أكثر من 34 مدينة إيرانية، في خطوة "عفوية شعبية شجاعة " هي الأخطر منذ ربيع إيران في العام 2009.

 التبؤ باندلاع التظاهرات بحدّ ذاته لم تكن مفاجئة بالمطلق، لكن المفاجأة الحقيقية "عفوية المشهد" واندفاع المتظاهرين بعزيمة، دون قيادة أو كاريزما توجهم ، في الوقت الذي لا زالت فيه هذه الاحتجاجات في أطراف المدن وهوامشها، بشكل متشرذم مفتقدة إلى أبسط قواعد التنظيم، دون أن تنتقل بقوة إلى جغرافية المركز الذي تمثله العاصمة طهران بثقلها السياسي والاقتصادي والمعنوي ومركز الولايات الأخرى مثل أصفهان وفارس .... على غرار الثورة الخضراء في العام 2009، هذا عدا عن جلوس الأقليات في إيران على مقعد المشاهد لمراقبة ما يجري دون أن تحرك ساكناً، اللهم الأقلية العربية التي تعيش حالة حراك دائم منذ أكثر من عشرة أشهر دون عون أو مساندة من أحد حتى هذه اللحظة .

 من يقرأ ويتابع سيل الأخبار، وتدفقها الجارف والتحليلات والتقارير الإخبارية يُدرك أن مصير النظام الإيراني قد شارف على الانتهاء، وأن قادة إيران قد حزموا حقائبهم، واستعدوا للرحيل من مطار مهر آباد الدولي لوجه غير معلومة .

 ما هو واضح اليوم أن مساحة العرض الإعلامي وفائض التغطية لحدث الاحتجاجات مبالغ فيه لدرجة كبيرة، وأنه قد غطى على كل القضايا بامتياز بحيث بات موضوع القدس، وما يجري تباعاً من تطورات عميقة في سورية، واليمن في ذيل الاهتمام الإعلامي، إن لم يكن مغيباً عنها بشكل كامل، وهذا له مغزاه ودلالاته وأهدافه الخطيرة، وهي تدرك تماماً أن النظام الإيراني ما زال في أوج قوته، وأن ساعة الصفر لم تدق بعد، وأن (ترامب) ما زال جالساً في غرفة نومه ، و يُوجه " حرب تويترية" بلا هوادة ضدّ إيران .

 الواقع أن الاحتجاجات الجديدة, والتي يتم قمعها تباعاً, قد أخذت في زرع بذور الشك في ركائز الدولة الإيرانية, ولاية الفقيه والمرشد وسياسات النظام، إلى جانب التشكيك بالدور الذي جسدته الثورة الإسلامية في إيران، والأدوار التي اضطلعت بها، والسياسات التي تبنتها .

 هذه الاحتجاجات المتتالية أضحت موضع تساؤل لدى الشعب الإيراني الذي بدأ يُعلن صراحة رفضاً لولاية الفقيه وسياساته, وهذا أحد المكاسب الكبيرة لما يتحقق حالياً, لأن الثورة الإسلامية منحت النخبة السياسية والعسكرية والدينية حق السطو على المال العام دون ادني محاسبة، أو خوف من انتقاد الشعب، أو الجهاز القضائي لدرجة أن الرئيس السابق نجاد جاهر للإعلام عن وجود اختلاسات بالمليارات ارتكبته النخبة القريبة جداً من خامنئي .

 بموازاة تمثل هذه الاحتجاجات نقطة فارقة، حيث تتزامن، وتتقاطع مع أزمات معقدة داخلياً وإقليمياً ودولياً لإيران، فنظام (ولاية الفقيه) لا يملك ترف الوقت، ولا الحلول السحرية لتحسين أو لنقل تغيير أي شيء في الأمر الواقع، وبالتالي سيبقى يرقب موجة أو سلسلة جديدة من توالي الاحتجاجات خاصة مع قرب إقرار الموازنة الإيرانية التي باتت تحتاج إلى مداخيل إضافية لتغطية العجز الحاصل ، والتي سوف تعتمد على رفع الضرائب، وإزالة الدعم عن معظم السلع الأساسية، الأمر الذي ينذر بانفجار الأوضاع بقوة من جديد .

 كذلك فإن إرهاصات هذا الربيع بالرغم من تواضعه لا شك بأنها تُضعف النظام الإيراني بفعل السياسات المتتالية الحمقاء للنظام الإيراني الذي انخرط حتى النخاع بمشاكل المنطقة، وسعى لبناء المصدات وشبكات الأمان التي تضمن بقاء الحريق الإقليمي بعيداً عن ثوبه المتسخ بدماء الشعوب المقهورة في سورية، والعراق، ولبنان، واليمن ....منذرة بأن السحر سينقلب على الساحر، وأن الجزاء من جنس العمل، فدشن هذا الربيع الإيراني على الرغم من تواضعه صحوة شعبية طالَ انتظارها لتدك معقل الولي الفقيه القابع في حي باستور في العاصمة طهران، والذي تحقق وزارة الخزانة الأميركية بأرصدة مالية شخصية تجاوزت عشرات المليارات .

 رغم التأييد الشعبي في إيران لحركة الاحتجاجات إلا أنها كشفت عن ضعف واضح ، مما قد يؤدي إلى التشكيك بجذب المزيد من التأييد الشعبي خشية من تداعيات رفع سقف الشعارات . بموازاة ذلك لن تستطع مواجهة حملات القمع التي سيشنها مؤسسات الثورة الصلبة كالحرس الثوري والبسيج وحركة أنصار الله ، استنادا للتجربة التاريخية .

 لا شك بأننا لا نقلل بأي حال من الأحوال من موضوع الاحتجاجات التي انفجرت في إيران، ولا نتفق مع هذا النظام القمعي الذي يحاول توصيفها باعتبارها مؤامرة خارجية من عملاء ومندسين، ونُحيي صمود الشعوب والأقليات التي عانت من ويلات نظام ولاية الفقيه وسياساته العبثية في المنطقة .  الأمر المؤسف أن ترد حكومة طهران بذات الطريقة البائسة، وتلجأ إلى أساليب دموية لمواجهة المتظاهرين والاستعانة بأدوات الدولة القمعية ، لوقف هذه المظاهرات، إلى جانب نعتهم بأبشع وأقذر الصفات وأقلها تهمة العمالة والتأمر .

 استمرت الاحتجاجات أو توقفت، لا فرق فالأمر سيان . لأن البيئة الداخلية الإيرانية بمتغيراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية منهارة تماماً ، ومسارات الأزمة باتت على صفيح ساخن، وهذا ما يتوجب أن يفهمه صانع القرار السياسي والأمني الإيراني، فما يجري لا يلغي عمق المشكلة والمأساة التي باتت تعيشها إيران، ولا يعني أن الحريق لن يتجدد وبقوة قريباً .

د. نبيل العتوم

رئيس وحدة الدراسات الإيرانية

مركز أميه للبحوث والدراسات الإستراتيجية

وسوم: العدد 753