حصار النظام للشعب السوري
لقد انتهى الحصار الذي كان يفرضه النظام على الشعب بأكمله، ليمنع عنه النور والرؤية والتفكير المشترك والتواصل. وعلى الهوامش وفي المغتربات وداخل مخيمات اللاجئين وصفوف المشردين والمنكوبين، وفي مئات الجامعات العالمية التي يدرس فيها عشرات آلاف الطلبة السوريين في كل الاختصاصات، يتكون مجتمع سوري جديد، خارج عن سلطة النظام ونقيض لها. وعندما نتكلم عن مجتمع، فنحن نعني نشوء المؤسسات التي حرم منها السوريون نصف قرن، من أحزاب ونقابات وجمعيات مدنية حرّة على مختلف أشكالها، بهدف أن يظلوا أفرادا منفصلين ومتعادين وشاكين بعضهم ببعض، متساوين، كذرّات الرمل، أو كجسد هلامي من دون عمود فقري يمكّنهم من الوقوف والسير. في عالمهم الجديد الحر، يعيد السوريون تواصلهم المقطوع في ما بينهم، ويتعرّفون على ذاتهم ومناقبهم ونقائصهم أيضا، ويطورون وعيا أكثر موضوعيةً وعقلانية بوجودهم الجمعي، ويعترفون أكثر فأكثر باختلافاتهم ويستوعبونها ويتمثلونها، بل يحتفون بها، ويعيدون أيضا تواصلهم الذي انقطع مع العالم، ويكتشفون إرادتهم الحرة وينسجون علاقاتهم المدنية والسياسية التي مزقها الاستبداد عبر آلاف الجمعيات والمنظمات الأهلية والسياسية والإنسانية التي تخضع لإرادتهم، ويطوّرون قدراتهم في البحث والتنظيم والمبادرة والعلاقات الدولية.
لم يولد هذا المجتمع بإرادة أحد، ولكنه كان نتيجة طبيعية وعفوية لانفجار الدولة القديمة، وتطاير أشلائها في كل الأنحاء. لقد ولد في الكارثة، كما ولد الشعب الفلسطيني في النكبة. وهو يسير حتما نحو التواصل والتلاقي وتجميع القوى وإنتاج وعي موحد ومستقل. وسيكون قسم كبير منه جاهزا للانخراط في إعادة بناء وطنه الأصلي والدائم، سواء جاء ذلك بمناسبة انتفاضة قادمة، أو من خلال الضغوط المتراكمة والمستمرة.
كل ما نحتاج إليه اليوم لنسرع في انتقال آثار هذه الثورة الحقيقية إلى داخل سورية القديمة والمتفسخة القائمة، وعلى الرغم منها، أن يعمل من تبقى على قيد الحياة السياسية والفكرية من قوى المعارضة التقليدية الماضية على تنشيط التفاعل بين هذه القوى ومساعدتها على تعميق التواصل في ما بينها، وإنشاء الروابط التي تجمع بين الأفراد، على مستوى التجمعات المهنية والجمعيات الأهلية، والمجالس المحلية، والمؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية. ووسائل ذلك تنظيم الحوارات واللقاءات والندوات التي تجمع السوريين، وربما تطوير نوع من البوصلة التي تعنى بالتوجهات الفكرية والسياسية، وتطلق عبر الإعلام الأفكار الجديدة والمبادرات وتعمم نتائج التقدم في أي ميدان على الميادين الأخرى. ومن صلب هذا المجتمع الجديد، سوف يولد النظام البديل، بمؤسساته وأساليب عمله وتنظيماته الجديدة، وتتطوّر قيم التعاون والتضامن المطلوبة للارتقاء بسلوك الأفراد ونوعية تطلعاتهم، وتتخلق قوى النظام الجديد.
من مقال الضياع السوري
وسوم: العدد 839