شبح الخريف
شبح الخريف
جبل الأربعين: أريحا 1380-1960
عمر بهاء الدين الأميري
تلامح الخريف...
لغيومه في الآفاق تشكلات رائعة الجمال...
على الأشجار حمرة مصفرة، ودفء يثير في النفوس شعورا ً مبهما ً، كأنه حزن الوداع...
كانت حقول القطن، في السهل المنساب بعيدا ً من «جبل الأربعين» تتفتح عن ثمرها الناصع، كأنه نجوم تتلألأ، في ليلة ساجية... لقد كان يلمع في البون البنفسجي، تحت أشعة الشمس المسددة إليه من فجوات الغيوم...
وكنا نستعد للرحيل إلى «حلب» حيث تنتظرنا شؤون الحياة وشجونها...
شبح الخريف
شـبـح الخريف أطل عن حـيـرى وقـد فترتْ حرارتها وعـلـى أشـعتها التي عبرتْ مـدَّتْ لـهـا الأشـجار أيديها وعـلى الغصون رمت غلائلها والـسهل مغرور المُنى طمِحَتْ لـلـقـطـن ِ ألقٌ في مزارعه والـمُخمَلُ المنقوش، قد نُشِرَتْ وتـبـوَّأت أنـحـاء سـاحته ألـوانـه شـتـى، وأخضرُها سـهـل مـن الفردوس مُختلسٌ كِـسَـفُ* الغمام علتْ مسارحه وظـلالـهـا الـغبراء راسمة ٌ قـد لاح مـنـهـا وجه بسطته وذكـاء فـي كـبـد الغيوم لها وعـلـى السماء مصوراتُ دنىً وعـوالـمٌ كـالـحـلـم شاردة سـفـنٌ وراء البون ِ* مُشرعة ٌ ووحـوش غـابٍ ثـار ثائرها وولائـدٌ فـي الـجو قد سرحتْ والـشـمـس ترسلُ من أشعتها صُـوَرٌ مـنـورة الجمال زهتْ سُـحُـبٌ يـراكـضها وينفخها فـتـظـل تـفتلُ* في مُداورة بـتـعـثـراتٍ* لا انتهاء لها * * * والأفـق حـيـران المدى ثملتْ وتـمـطـتْ الآمـال غـافية ً وكـأنـمـا أعـتـابه افترشتْ * * * أمـا أنـا فـلـزمـتُ زاويتي مُـتـنـاسيا ً يأس الهوى ولظى فـي هـدأةٍ، والـكون منبسط ُ وعـلـى المدى النائي منازلُ قد وتصاغرتْ في العين ِ إذ بعُدتْ وأخـذتُ، والأهـدابُ مرسلة ٌ، والـريـح تـدفـعـها وتجذبها فـيـطـيـر من أوراقها نثرٌ* وأمـد طـرْفـي دونـما هدفٍ تـزهـو مـعالمها وتغمض في وكـأنـمـا ألـوانـها اختلجتْ والـكـرمة السمراء ترجف من والـعـصف حفَّ لحية نسلتْ* والـهـرة الـشـقراء تنطحني كـسـلـى تـشـم أناملي ملقا ً وتـعـضـهـا هـونا وتلعقها وتـعـوق خـطـوي في تدللها فـإذا جـلستُ جثتْ على قدمي * * * وسـكـنـتُ والأفـكار هائمة وكـأن فـي عـيـنـي أخيلة والـنـفس شاردة الهوى ذهلت يـبـنـي عـلى الآمال نشوَته تـحـيـا دقـائق وهي مغفلة ٌ ودُهِـشـتُ مـن نفسي وهدأتِها الـدهـر عـودني على صخب خـلـس كومض البرق خاطفة يـا سـاعـة عـبرت بلا نكد مـاذا تـعـجُـلنا إلى «حلب» كـم رمتُ منها لو رجعتُ سدىً أو أنـنـي فـي المجد ما علقتْ أو أن قـلـبـي، والـهوى دمه أو أنـنـي لا عـبء يرهقني لـكـنـهـا الأقـدار قد قذفتْ فـمـضيتُ في دربي على جَلدٍ وأنـا أبٌ فـي أضلعي مُزَع ٌ* هـل فـي حنان ِ الناس منزلة ٌ وإذا الإبـاء مـضى بذي شمم ٍ ومُـرُوءة الإنـسـان تـقـحمه والـحُـر لا يـجـفو مروءَته * * * شـبـح الخريف أطل من كثبٍ أم إنـه سـيـطـل بـعـد غدِ وَدَّعْـتُ أيـام الـشـباب وقد وكـهـولتي تمضي على أمل ٍ؛ لـم تجن ِ عمري بهجة ً وهوىً لـو أن دهـري مُـسْعِفٌ لبنى الـهـولُ في دربي وفي هدفي مـا كنتُ من نفسي على خَوَر ٍ مـا فـي الـمـنـايا ما أحاذرُهُ | كثبوالشمس لاحتْ من كوى تـرنـو إلى بحر الدنى اللجبِ ثـغـرَ* الـغيوم، أمائرُ التعبِ فـتـرنـحتْ كالمُدْنفِ الطربِ وعـقـيـقها المُخضَّل ِ بالذهبِ أحـلامـه الـظمأى إلى الشهبِ فـكـأنـمـا يـفتر عن حببِ* طـيـاتـهُ، عـرضا ً بلا طلبِ وتـمـددتْ فـيـها على رُتبِ فـي زهـوه، مـتفاوتُ النِّسبِ تـحـنـو عليه مدارجُ الرَّتبِ* تـحـبو مُشعَّثة ً* على الرُكبِ بـقـعـا ً عـلى أثوابه القشبِ مـا بـيـنَ مـبـتسِم ٍ ومكتئبِ مـد وجـزرٌ دونـمـا صخبِ سـحـريـة مـجـهولةِ النسبِ أخـبـارهـا لم ترْوَ في الكتبِ وعـجـائزٌ عكفتْ على حدبِ* فـتـواثـبتْ في وقدة الغضبِ وتـضـاربت في سَورة اللعبِ شَـعرا ً لها قد صيغ من قصبِ مـا بـيـن مـنطلق ٍ ومنقلبِ عـبـث الـرياح لغير ما سببِ حِـيـنـا ً وتهرب دونما رَهَبِ تـعْـيـي يراعَ مُصَوِّر ٍ دَربِ * * * فـي نـاظـريه مشاهد الحُقبِ فـي ساعديه على رؤى النشبِ قـنـن الـجبال ورغوة السحبِ * * * مـن غـير ما رغبٍ ولا رهبِ هـمـي، ومـشكلتي تطوِّفُ بي حـولـي، يُـلطفُ دِفؤه نصبي لاحـتْ كـأكـداس ٍ من العلبِ فـبـدتْ كـأشـتاتٍ من اللعَبِ أرنـو إلى الأغصان والشذبِ* فـعـلَ الـغلام ِ الناقم ِ الشغِبِ ويـدور فـوق التربِ في لغبِ حـيـنا ً إلى الأوداء* والكثبِ* وهـمـي، ولم تظهر ولم تغِبِ فـي العين من صهبٍ إلى شهبِ نـقـر الـهـزار ِ بقية العنبِ كـالـسهم فزعى دونما حَرَبِ* وتـمـد أيـديـهـا على رُكبِ وتـمـوء فـي رفق ٍ وفي أدبِ ولـسـانـها كالمخمل ِ الزغِبِ وتـسـيـر إما سرتُ في طلبي والـرأس مـعكوف على الذنبِ * * * وغفوتُ عن ظمئي وعن سغبي* سـكـرى الظلال لمعهدٍ خربِ عـن ذاتـهـا في حلم مُغترِبِ وكـأنـهـا خلوٌ من الوصبِ* أعـبـاءهـا كـمُـجَنح ٍ عَزَبِ ووَدِدْتُ لـو جُـمِّدتُ في أهبي* فـإذا تـهـدَّأ كـان من عَجَبِ ونـؤوبُ للضوضاء والسخبِ* مـهـلا ً، ومـا للرحْل ِ والقتبِ ومـنصغات العيش في «حلب» أو أنـني في «الأربعين» صَبي نـفـسـي وفي الإقدام والغَلبِ لـم يَـكـوه الـحرمانُ باللهبِ أحـيـا خـديـنَ الفن والأدبِ بـي فـي دنـى حمالة الحطبِ وحـمـلتُ عبئي حملَ ذي دأبِ تـسـع مـن الأطفال تهتف بي أهـدى وأرفـعُ من حنان ِ أبِ لـم يـخـشَ حملَ الهمِّ والتعبِ فـي الـهول واللأواء* والكرَبِ ومـروءة الأحـرار فـي نسبي * * * هـل في الخريف طلائع العطبِ ألْـقُ الـربـيع كصفقة الطربِ ولـتْ، بـدمـع غـير منسكبِ فـي الـغـيبِ أحداث لمُرْتقبِ! والله أعـلـمُ كـيـف مـنقلبِ ركـنـي لديه على ذرى الشهبِ وأظـل أمـضي غير مضطربِ أو كـنـتُ من ربي على ريَبِ الله مـلء الـقـصـد والأربِ | السحبِ
شبح الخريف
ثغر: الثغرة: الفجوة، وجمعها ثغر
يفتر: يبتسم
حبب: الحبب تنضد الأسنان وبياضها
الرَّتب: الصخور المتقاربة وبعضها أعلى من بعض
كِسَفُ: الكسفة: القطعة من الشيء، وجمعها كِسَف
مشعّثة: شعث: انتشر
البون: البعد، المدى
حدب: الحَدَب، المرتفع من الأرض
تفتلُ: فتِلَ يفتل فتلا ً: تباعد جنبا كأنهما فتِلا
بتعثرات: تعثر وعثر: زلّ وكبا ، والتعثرات: السقطات المتلاحقة
النشب: المال والعقار
الشذب: قطع العيدان والأغصان
نثر: النثر: ما تناثر من الشيء
الأوداء: جمع وادي
الكثب: جمع الكثيب
العصف: ورق الشجر اليابس
نسلت: مرت بسرعة، ومرقت
حَرَب: الحرب: الويل والخطر
الوصب: التعب والوجع
أهبي: الإهاب الجلد، وجمعه أهب
السَّخِب: الصخب
القتب: الرحل، عدة السفر
حمالة الحطب: الساعية بالشر
مُزَع ٌ: جمع مزعة، وهي القطعة
اللأواء: الشدة
ألق: الألق: اللمعان