قطوف وخواطر
أرقامها من 541 إلى 560.
عبد المنعم مصطفى حليمة
"أبو بصير الطرطوسي"
[email protected]
أكثر الناس انسجاماً مع الطبيعة
وتآخياً لها هو المسلم .. فالطبيعة بسمائها ونجومها، وبحارها، وأنهارها، وجبالها،
وسهولها، وشجرها، ونباتها، وأزهارها، وحيواناتها، وطيورها .. كلها تشترك مع المسلم
في الغاية والمقصَد من الوجود، وفي خاصية عظيمة نبيلة؛ ألا وهي خاصية توحيد الخالق
سبحانه وتعالى .. خاصية عبادة الله تعالى، والتسبيح بحمده، والسجود له .. والمسلم
وهو يقلب بصره في عوالم السماوات والأرض .. يدرك هذا المعنى، وينتابه هذا الشعور
الأخوي النبيل العظيم .. أنعِم به من شعورٍ وأكرِم.
كما قال تعالى:)
وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً
وَكَرْهاً (الرعد:15.
وقال تعالى:)
وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ
مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ
(النحل:49.
وقال تعالى:)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ
وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ
(الحج:18.
وقال تعالى:)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ
وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ
(النور:41.
وقال تعالى:)
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ
(الرحمن:6.
وقال تعالى:)
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن
فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ
تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً
(الإسراء:44.
وغيرها كثير من الآيات القرآنية الدالة
على هذا المعنى العظيم .. وفي الحديث:" سبحان الله وبحمد؛ فإنها صلاة كل شيء، وبها
يُرزَق كل شيء ".
وقال
r:"
ما من مسلم يَغرسُ غرساً أو يزرعُ زرعاً، فيأكل منه طيرٌ، أو إنسانٌ، أو بهيمة، إلا
كان له به صدقة " البخاري.
وهذا مدعاة للمسلم أن يتعرّف على
الطبيعة .. وأن يتفكر بالطبيعة .. وأن ينظر إلى الطبيعة .. وأن يحبَّ الطبيعة ..
وأن يُؤاخي الطبيعة .. وأن يحترم الطبيعة .. وأن يخدم الطبيعة .. ويحرص على سلامتها
من أي نوع من أنواع الأذى .. وأن يشعر بشعور العوالم من حوله إذا ما تعرّضت إلى أي
نوع من أنواع الضرر والأذى، قال تعالى:)
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا
بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (آل
عمران:191.
وقال تعالى:)
قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ (يونس:101.
وقال تعالى:)
وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ
شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ
النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ
وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ
انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ
إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (الأنعام:99.
541- الثَّقَافة الطبيعيّة!
* * * * *
542- ) إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً (.
وإن كان لهذه الآية الكريمة مناسبة .. لكن يمكن حملها وتعميمها على كل مناسبة أو حدثٍ يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم شرَّاً .. فالعيرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب وحسب.
كم من رجل صالح؛ له سابقة علم وبلاء وجهاد .. يرد مورداً متشابهاً للبعض .. أو يقول كلمة متشابهة على البعض .. فيخوض فيه الخائضون بين التفسيق، والتضليل والتخوين .. وأحسنهم الذي يتوقف عن الخوض .. تاركاً مساحة لاحتمال صحة خوض الخائضين فيما يخوضون فيه!
موقف يحتمل من وجه راجح ظن الحسن .. ومن جانب ضعيف ومرجوح يحتمل ظن السوء .. فيُسارعون في تقديم ظن السوء على ظن الحسن!
كلمة يقذف بها فاسق منافق؛ فيرمي بها مؤمناً صالحاً .. فيتناولها الناس مباشرة في مجالسهم ومنتدياتهم .. على أنها صدق .. وأنها الحقيقة التي ما بعدها إلا الضلال .. ومن دون أن يكلفوا أنفسهم عناء التبين والتثبت مما يُشيعه الفسَّاق عن عباد الله المؤمنين!
ما ضرَّ هؤلاء لو ظنوا بالمؤمنين والمؤمنات خيراً .. وقدموا ظن الحسَن على ظن السوء .. والتفسير الحسن على التفسير السوء؟!
ما ضر هؤلاء لو تبينوا وتثبتوا قبل أن يصدقوا .. ويتناقلوا .. وينقلوا .. ما يُشيعه الفسّاق والمنافقون عن عباد الله المؤمنين الصالحين عملاً بقوله تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (الحجرات:6.
ما ضرّهم لو فعلوا ذلك ..؟!
* * * * *
543- ربعُ سكانِ العالم مُسلمون!
أفادت بعض الإحصائيات التي تناولتها بعض وسائل الإعلام، أن ربع سكان العالم من المسلمين، وأن عدد سكان المسلمين يزيد عن المليار ونصف المليار نسمة ..!
قلت: ومع ذلك لا توجد لهم دولة تجمعهم .. تتكلم باسمهم .. وترعى شؤونهم .. كما لا يوجد لهم الحاكم المسلم الذي يمثلهم، ويذود عنهم، ويُقاتل دونهم، ودون حرماتهم، ومصالحهم .. فالكل يتسوَّر محرابهم، ويعتدي على حرماتهم .. ويرفع صوته وسوطه عليهم .. فكان مثلهم كما في الحديث:" يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومن قِلَّةٍ نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ـ ربع سكان العالَم! ـ ولكنكم غثاء كغثاء السَّيل؛ ولينزعنَّ اللهُ من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذِفَنّ اللهُ في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسولَ الله! وما الوهن؟ قال: حبُّ الدنيا وكراهيةُ الموت "؛ أي كراهية الموت في سبيل الله ..!
كل الشعوب والأمم مهما قلّ عدد أبنائها لهم الدول التي تمثلهم .. وترعاهم .. وترعى شؤونهم .. ولهم الحكام ـ من بني دينهم وثقافتهم ـ الذين يمثلونهم .. إلا المسلمون ـ على تعدادهم الضخم الذي بلغ ربع سكان العالَم ـ لا يحق لهم أن يُقيموا دولة إسلامية تتكلم باسمهم .. وترعاهم .. وترعى شؤونهم .. ومن يفكر ـ فضلاً عن الذي يسعى ـ بقيام دولة إسلامية، تحكم بالإسلام، وترعى شؤون المسلمين بالإسلام .. سرعان ما يُجرّم ويُؤثَّم .. ويُعاقَب .. ويُحاصَر .. ويُرمَى بالإرهاب .. وينبزونه بأسوأ الألقاب، حقداً من عند أنفسهم!
وهم مع كل هذا الكيد والمكر .. والحرب .. يزعمون زوراً .. أنهم يحترمون إرادة وكلمة الشعوب!
* * * * *
544- مِلعقةٌ من عَسَل!
كم تتعب النحلةُ حتى تصنع ـ بإذن ربها ـ ملعقةً من عسل .. وكم هي تطوف في الوديان، والسهول، والحقول .. وكم هي المسافات التي تتجاوزها ـ ذهاباً وإياباً بين عشها وحقول ومنبت الأزهار ـ بحثاً عن الأزهار .. والأشجار .. ثم هي كم من الزمن تستغرق حتى تنجز هذه الملعقة من العسل .. ليتناولها الإنسانُ ـ في النهاية ـ بثوانٍ معدودات .. ثم يرمي بالملعقة في مجلَى الصحون .. من دون أن يحمد الله تعالى .. ولا أن يكترث أو يتنبَّه للعناصر العديدة التي سخّرها الله تعالى من أجل أن تصله هذه الملعقة من العسل المصفّى .. التي لم يُلقِ لها بالاً .. حقَّاً وصِدقاً، كما قال تعالى:) وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (سبأ:13. ) قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (عبس:17.
كل هذه المعاني راودتني وأنا أتناول ملعقةً من عَسَل ... اللهمَّ أعنّا على ذِكرِك، وشُكرك، وحسنِ عبادتك.
* * * * *
545- حجّةٌ وعمرة من غير فلوس، ولا نَصَب!
لمن أعجزَه ظلم الطغاة .. فمنعه أن يلبي نداء الله بحج وعمرة!
لمن أعجزته فاقته؛ فلم يجد المال الكافي لأداء الحج والعمرة!
لمن أعجزته صحته؛ فأقعدته عن الحج والاعتمار ..!
لمن لم يأمن على نفسه من غوائل الطريق وعواقبه .. فمنعه ذلك من الحج والاعتمار!
لهؤلاء المستضعفين المحاصرين، الذين أقعدهم العجز والضعف عن القيام بالواجب، أقول: لا تحزنوا على ما فاتكم .. فقد عوضكم الله عما فاتكم خيراً كثيراً .. وكتب لكم أجر الحاج والمعتمر، من دون أن تشدوا الرحال إلى الديار المقدسة .. وبعملٍ أيسَر من شدّ الرحال إلى الديار المقدسة، كما في الحديث، فقد صح عن النبي r أنه قال:" من صلى الفجرَ في جماعة، ثم قعدَ يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له حجة وعمرة تامّة، تامّة، تامّة ".
* * * * *
546- شاركني برأيك ..!
فلان أراد الزواج من فلانة .. أبوها موافق لكن أخوها غير موافق .. أخوها يحب أخت فلانة .. وهي مسافرة في بلد ثان .. لكن ابن عمها يريد الزواج منها .. وهو طالب يدرس في الجامعة وبعد سنة يتخرج من دراسته .. لكن أمها غير راضية .. تريد أن تزوجه ابنة خالته .. وهي كذلك طالبة .. لكن أبوها غير موافق .. أما أخوها موافق .. لكن يشترط شروطاً صعبة .. ويوجد خلاف قوي في العائلة بين مؤيد ومعارض .. وبالنسبة لزواج فلان قد وافقوا عليه .. لكن اشترطوا عليه شروطاً صعبة .. وهو متردد بين فلانة وبين ابنة عمه .. كما يريد أبوه .. بخلاف أمه .. وهو متردد بين طاعة أبيه وأمه .. فأيهما يُطيع .... الخ!
هل فهمت شيئاً ...؟!
هناك من يتكلم بهذه الطريقة ثم يُطالبك أن تُشاركه برأيك .. والويل لك إن لم تفعل .. أو لم يجد منك تفاعلاً مع حديثه!!
* * * * *
547- لا تَكتُبْ ..!
لا تكتب وأنت غضبان .. أو منفعلاً مضطرب المزاج .. أو على طريقة المتشنّج المخنوق .. الذي يسترق الأنفاس بصعوبة؛ نفَسَاً بعد نفَس .. فيضيق عليه صدره كأنما يصّعدُ في السماء .. فإن أبيت إلا أن تفعل؛ لتخطئن .. ثم لتندمنّ ندماً شديداً بعد أن يعود إليك اعتدالك .. ويصطلح عليك مزاجك .. ويصفو لك ذهنك .. ويأخذ جسدك قسطاً من الاسترخاء والراحة .. فتريد حينئذٍ أن تُصلِح ما قد أخطأت فيه ـ بعد أن تطاير خطؤك في الأمصار ـ فلا تستطيع ذلك!
وما أكثر الذين يكتبون على هذه الطريقة .. فيُؤذي ويتأذَّى .. فيندم، ولات حين مندم!
وفي الحديث، فقد نهى النبي r
القاضي أن يقضي بين الناس أو يحكم على الأشياء وهو غضبان .. وكذلك الكاتب الذي يحكم ـ فيما يكتب ـ على الأشياء بالحسن أو التقبيح .. بالذم أو المدح .. فهو قاضٍ .. وهو يُمارس فيما يكتب نوعاً من القضاء .. لا يستحسن به أن يفعل شيئاً من ذلك وهو غضبان!* * * * *
548- ما تكتبه في الليل ..!
ما تكتبه في الليل، راجعه وقلّب النظر فيه ـ قبل نشره ـ في النهار .. فإن للنهار فتح ونور وجلاء قد لا تجده في الليل .. وما تكتبه في النهار، راجعه وقلب النظر فيه في الليل .. فإن للّيل هدوء وسكون .. وخشوع .. وصفاء .. لا تجده في النهار .. يتكشّف لك فيه ما لا يتكشّف في النهار .. والذي يكتب في النهار ثم لا يُعيد النظرَ فيه في الليل .. أو يكتب في الليل ثم لا يُعيد النظر فيه في النهار .. فعمله سيكون ناقصاً .. وخطؤه وارد .. بخلاف من يكتب ثم يقلّب نظره ويعيد فكره فيما كتب في الليل والنهار .. فإن عمله حينئذٍ سيكون أكثر قرباً للنضج والكمال!
* * * * *
549- الشكرُ شكران.
الشكر شكران: شكر يتبع المعروف مباشرة، ويكون مقصوراً على الساعة التي يُسدَى فيه المعروف .. ثم يتبعه نسيان، وكفران للمعروف ولصاحبه .. وهذا الذي عليه أكثر الناس.
وشكر دائم؛ يعرف لذوي المعروف حقوقهم من الشكر ساعة تقديم المعروف، وبعد تقديم المعروف .. مهما طال الزمن .. فهو ما إن يذكرهم إلا ويذكر مع ذكرهم معروفهم وفضلهم .. فيجدد لهم الشكر والعُرفان؛ وكأن معروفهم قد بُذِل إليه السَّاعة .. وهؤلاء هم الشاكرون حقاً .. وما أقلهم بين الناس!
* * * * *
550- مما تعلمته في هذه الحياة ..!
مما تعلمته في هذه الحياة .. أن الإنشغال بصرف وجوه الناس وإقبالهم، واستشراف مَن أقبل منهم ومن أدبر .. مضيعةٌ للوقت .. وهَدرٌ للطاقات .. وإرهاق للقلب .. ومَنقصة في العقل والإخلاص .. ومُذهِبٌ لبركة الأعمال .. وذِلة للنفس في غير موضعها .. وإشغال للفكر فيما لا ينبغي له .. وفيما يستحي منه الكبراء من الصديقين والشهداء.
ما قيمة هذا الإقبال .. وهو منقطع عنك منذ الخطوة الأولى نحو قبرك .. ثم يشتد هذا الانقطاع ساعة أن توسَّد في قبرك وحيداً فريداً .. ثم ـ مع الزمن ـ يتحول هذا الانقطاع إلى نسيان!
ما قيمة هذا الإقبال .. إن كان على حساب إعمار ما بينك وبين خالقك!
مِن أصدق ما قرأت، كلمات تلك المرأة الصالحة:
فليتك تحلو والحياة مريرة ... وليتك ترضى والأنامُ غِضابُ
وليتَ الذي بيني وبينك عامرٌ ... وبيني وبين العالمين خرابُ
* * * * *
551- الطاغيةُ الذليل!
الطاغية الذليل .. هو الذي يتذلل للناس ـ قبل التمكين ـ حتى يكون لهم أرضاً .. وبِساطاً ممهداً للوطء .. يتملّقهم .. ويستعطفهم .. ويرجوهم .. ويقف على أبوابهم يكرر عليهم السؤال إثر السؤال .. فإن تمكّن .. وتحقق له مراده .. استعلى وتكبر .. وطغى .. وتفرعَن .. وتنكّر لمن كان يتذلل لهم .. وقال للناس:) مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (غافر:29. ) مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي (القصص:38.
مثاله: النائب المشرّع؛ الذي يجعل لنفسه خاصيّة التشريع من دون الله .. كما في المجالس النيابية التشريعية السائدة والمعمول بها في الأمصار .. فهو قبل أن يفوز في الانتخابات تراه يشحذ أصوات الناس .. بطريقة أذل من طريقة الشحَّاذ الذي يقرع الأبواب ليسأل الناس بعض اللقيمات!
يأبى الله تعالى للطغاة أن يُمارسوا طغيانهم على الناس .. إلا بعد نوع ذِلّة يمارسونها .. ويقعون فيها .. ليدرك الناس أن هؤلاء الطغاة لا ينبغي ولا يجوز أن يكونوا عليهم آلهة ـ يشرّعون، ويحلون ويحرمون ـ من دون الله!
* * * * *
552- متى أستطيع زيارة بلَدٍ عربي ..؟!
قال لي صاحبي: متى ستستطيع أن تزور بلدك سورية ..؟!
قلت له: لو اقتصر المنع والحظر على بلدي سورية لهان الخطب .. وخفَّ المصاب .. وإنما الحظر والمنع امتد ليشمل جميع الأقطار العربية وللأسف .. وأصارحك القول: أنني أرغب بزيارة أي بلد عربي .. لو أستطيع إلى ذلك سبيلاً .. وآمن فيه على نفسي وديني!
كلما أفَلَ نجم طاغية .. وتشوَّفنا الإياب .. ولقاء الأحباب .. ظهر مكانه طاغية أشد ـ ممن سبقه ـ طغياناً وكفراً!
بلادنا ـ يا صاحبي! ـ ليست لنا .. ولا هي ملكاً لأهلها وأبنائها .. وإنما هي ملك للطاغوت وحزبه وعائلته .. وطائفته .. يتحكم بقوتها وخيراتها .. وبالداخل والخارج منها .. يُدخِل إليها ـ من أبنائها ـ من يشاء، ويمنع عنها ـ من أبنائها ـ من يشاء .. لا يُسأل عمَّا يفعل وما سواه من الناس يُسألون ويُحاسَبون .. والناس عنده لا يعدو قدرهم أن يكونوا سلعة من تلك السّلع التي يملكها ويُساوم عليها .. وعندما تعود البلاد لتصبح ملكاً للشعوب .. وليس للطاغية وفئته ـ أو عائلته ـ الحاكمة .. حينئذٍ سنتمكن ـ بإذن الله ـ من زيارة سورية .. وغيرها من بلادنا العربية!
عندما يتحرر الإنسان العربي من الخوف والجبن .. ومن هيمنة الطغاة الآثمين وجلاديهم .. والعبودية لهم .. ويأخذ حقه بقوة غير متعتع .. وليس كمنّة أو فُتات يُرمَى إليه من الطاغوت .. حينئذٍ سنتمكن ـ بإذن الله ـ من زيارة سورية .. وغيرها من بلادنا العربية!
عندما يُصبح الحاكم موظفاً عند الشعوب .. خادماً لهم .. وليس العكس .. يُسأل كغيره من الناس: من أين لك هذا .. وما هي حجتك فيما فعلت وفيما تركت .. حينئذٍ سنتمكن ـ بإذن الله ـ من زيارة سورية .. وغيرها من بلادنا العربية!
عندما تُحترَم الأنفس الآدمية .. وتُصَان حرماتها من السطو والعدوان والانتهاكات .. ويأمَن المرء ـ في سِربه ـ على نفسه، وأهله، ودينه .. حينئذٍ سنتمكن ـ بإذن الله ـ من زيارة سورية .. وغيرها من بلادنا العربية .. ولا أدري كم بيننا وبين ذلك اليوم الذي نتطلع إليه بشوق ..؟!
أرجو أن يكون قريباً ..!
* * * * *
553- الشَّعبُ الذليل المتكبر!
الشعب الذليل المتكبر .. هو الشعب الذي يرضى لنفسه الدنيّة والعبودية للطاغوت .. ثم هو من جهة يتكلم بكبر واستعلاء وأنََفَة .. وبطَر .. ولو مشى أحدهم فكأنما يخرق الأرض .. أو قد بلغ الجبالَ طولاً!
إذا توجه بوجهه نحو الطاغوت وجلاديه .. أو مرَّ الطاغوت بموكبه عليه .. انحنى وركع وسجد بنفس طيبة راضية .. وكان للطاغوت وجلاديه أرضاً سهلة الوطء والامتطاء .. وإذا توجّه ـ أي الشعب الذليل المتكبر ـ تلقاء الناس الآخرين .. أو تجاه بعضهم بعضاً .. تكلَّمَ بازدراء واحتقار واستخفاف، رافعاً أنفه إلى السماء .. ترتسم على ملامح وجهه كَشرَةٌ .. وزَوْرَةٌ .. وليٌّ في الحنَك السفلي .. وكأنه لم يَعرف الذِّلة في حياته قط!
أذلة على الطغاة وجلاديهم .. أعزة على بعضهم البعض!
فهذا هو الشعب الذليل المتكبر .. الذي يتشبَّع بما لم يُعطَ وبما ليس فيه!
* * * * *
554- الولاء والبراء، والكرَة!
عندما استعظموا الولاء والبراء في الله .. والحب والبغض في الله .. وأبغضوه .. ونَفَرُوا ونفَّرُوا منه .. هان عليهم عقد الولاء والبراء في كل شيء .. سوى الله تعالى .. حتى الكرة التي يركلونها بأقدامهم فقد اتخذوا منها إلهاً؛ يوالون ويُعادون فيها من دون الله .. يُحاربون ويُسالمون فيها .. يُقاتلون ويُقتَلون في سبيلها .. ومن أجلها .. كما حصل مؤخراً بين مصر والجزائر .. والأمثلة الدالة على ذلك كثيرة لو أردنا الإحصاء!
لو كانت قلوبهم عامرة بمحبة الله تعالى، وبالحب في الله، والبغض في الله .. لما وجدت هذه الترهات .. والتفاهات .. والصراعات .. والولاءات الساقطة .. إلى قلوبهم ولا إلى حياتهم سبيلاً .. ولكن لما خوت قلوبهم من الولاء والبراء في الله .. والحب والكره في الله .. هان عليهم أن يوالوا ويعادوا في كل شيء، وبما هو أقل منهم شأناً وقدراً!
تصوروا هذا المشهد المخزي يوم القيامة .. يوم يقول الله تعالى للعباد:) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ (النحل:27. فيأتي عبّاد الكرة ـ وما أكثرهم في زماننا ـ في طابور طويل .. ليقفوا خلف الكرة التي كانوا يُشاقُّون ـ ويوالون ويُعادون ـ فيها!
* * * * *
555- نزَلَ سِعرُ الشيخ ..!
دخلت مكتبةً تعرض كتاباً لأحد دعاة الفضائيات المعاصرين .. الذي اتسع صيته في الأمصار .. وافتتن به كثير من الشباب والشابات .. يتكلم فيه عن سيرته الشخصية .. وحياته الخاصة .. والكتاب مليء بصوره الشخصية .. وهو يلعب .. وهو مع ولده .. وفي وضعيات مختلفة .. فما بين الصفحة والصفحة صورة له!
كُتِب على الكتاب: كان سعره عشرة جنيهات إنكليزية ـ أي ما يُعادل عشرين دولاراً ـ والآن سعره جنيهاً واحداً ...!
فسألت البائع: لماذا هذا الكتاب نزل سعره بهذا القدر الكبير ..؟!
فأجابني: نزَلَ سعرُ الشيخ ...!
قلت له: صدقت ... يأبى الله أن يضع القبولَ في الأرض إلا لأوليائه .. إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم .. وما سوى ذلك؛ فيركمه .. ويجعله هباءً منثوراً .. ولو بعد حين.
* * * * *
556- مَن هو المجنون ..؟
سُئِل سفيان الثوري: مَن المجنون؟ فقال: مَن لم يُميّز غيَّه من رُشدِه.
وقال الفضيل بن العياض: دعاكَ الله إلى دار السَّلام وقد آثرت في دنياك المقام، وحذَّرك عدوَّك الشيطانَ وأنت مُحالفه طول الزمان، وأمركَ بخلاف هواك وأنت معانقه صباحك ومساك، فهل الحمق إلا ما أنت فيه؟
وسُئل خلَف بن أيوب: مَن الأحمق؟ قال: من عمل لدنياه، ووافق هواه، وآثر على ربه سواه.
وقيل لآخر: من المجنون؟ قال: من لم يأمن على روحه ساعةً وهو يسعى في عمارة دنياه!
وسُئل آخر: من الأخرَق؟ فقال: من خرَّب آخرته بدنيا غيره.
وقِيل: إنما المجنون المقيم على معصية الله!
وقيل: المجنون الذي يستبدل الفانية بالباقية، والذي هو أدنى بالذي هو خير .. والقليل بالكثير .. وجناح البعوضة بجنة عرضها السماوات والأرض!
وقِيل: المجنون الذي ينطلق في سفرٍ طويل لا رجعة بعده، من دون أن يحمل معه زاداً يكفيه.
قلت: وعلى هذا يكون أكثر الناس في زماننا مجانين وهم يحسبون أنهم عقلاء .. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
* * * * *
557- هم السَّابقون ونحن اللاحقون.
بين الفينة والأخرى يطيف بذاكرتي أعلام وأرحام مقربون كانوا ـ يوماً من الأيام ـ بيننا .. كانت حركتهم تملأ الساحات والميادين .. كما كانت سيرتهم العطرة تملأ المجالس والخلوات .. والمنتديات .. قد رحلوا عن دنيانا .. وبرحيلهم توقفت تلك الحركة .. وخلت المجالس من سيرتهم وذكراهم .. وكأنهم لم يكونوا يوماً بيننا!
قلت لنفسي: لا تحزني .. ولا تقلقي .. ولا تجزعي .. هم السابقون .. ونحن اللاحقون .. وإلى مصيرهم صائرون .. غفر الله لنا ولهم.
اليوم نقول عنهم رحمهم الله .. وغفر الله لهم .. وغداً هناك ـ إن وُجِد! ـ من يقول عنكِ رحمها الله .. كان فلان بيننا، غفر الله له!
حقاً العاقل من اتعظ مما فات لما هو آتٍ .. واغتنم دنياه لآخرته .. قبل أن يُفاجئه الموت، فيقول نادماً، والحسرة تعمر صدره:) يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (الفجر:24. يا ليتني قدمت في حياتي القصيرة الفانية لحياتي الطويلة الباقية .. اللهمَّ غفرانَك .. غفرانك.
* * * * *
558- ) إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ (
) إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم (؛ هذا الشراء شامِلٌ لجميع المؤمنين .. لا يستثني منهم أحداً .. وهذا من لوازمه أن تكون حياتك ـ يا عبد الله ـ كلها لله .. وأن يكون مالك كله لله .. فلا يراك الله إلا حيثُ يحب ويرضى .. ولا تضع مالَكَ إلا حيث يُحب ويرضى .. فأنت ومالك مملوك لله تعالى من وجهين: من وجه أنك ومالك من ملكه I قبل أن يشتريك .. ومن وجه أنه سبحانه وتعالى ـ تمنّناً وكرَماً ـ قد اشتراك ومالَك ثانية ليوثق الملكية والبيع .. وليذكّرك بأن البيع قد تمَّ وانتهى .. وأنَّك غير حرٍّ في نفسك ومالِك .. حتى لا تخول لك نفسك فتبيعها ثانية .. أو تبيع بعضاً منك .. أو بعضاً من عمرك .. أو بعضاً من مالِك لغير الله تعالى .. فتقع في الشِّرك .. بعد أن بعت نفسك كلها، ومالَك كله لله .. إذ لا يحسن بك ـ ولا يصح منك ـ أن تبيع ما لا تملك، وما هو مُلكاً لغيرك .. أو أن تبيع السلعة مرتين .. ولجهتين مختلفتين!
فإن قيل: أين الثمن ..؟!
قال تعالى:) بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ (؛ أنعِم به من ثمنٍ وأكرِم ...!
* * * * *
559- كيف يتعامَلُ الطغاةُ مع كتاب الله!
في حياتهم وظل حكمهم يُحاربون كتابَ الله، ويرمون حكمه بالتخلف والرجعية .. ويمنعون الشعوبَ المسلمة من التحاكم إليه .. وأيما امرئٍ يُطالبهم بالحكم بما في كتاب الله .. يستهجنون مُطالبَته .. ويرمونه بالجنون والتخلف .. والتهور .. وأنه لا يعيش زمانه .. وربما رموه في غياهب السجون والزنازين ليسوموه سوء العذاب .. حتى يرجع عن موقفه .. ومطلَبه!
فإذا هلك الواحد منهم .. فزعوا إلى تلاوة كتاب الله تعالى .. وأمروا القرَّاء أن يقرأوا القرآن عن روح الطاغية أربعين يوماً .. وأكثر .. وأنَّى لهؤلاء الطغاة أن ينفعهم القرآن الكريم أو يشفع لهم .. وقد ناصبوه في حياتهم العداء، والبغضاء، والحرب .. أنَّى لهم .. ثم أنَّى لهم؟!
* * * * *
560- مقاصِدُ الإسلام والنّاس!
المقاصد التي جاء الإسلام ليحافظ عليها ـ بحسب التسلسل ـ: الدين، والنفس، والعقل، والعِرض ـ أو النَّسل ـ، والمال.
فإذا تعارض مقصدان، واستحيل التوفيق بينهما، والعمل لأجلهما في آنٍ معاً، قُدّم الأول على الآخر منهما .. هذا هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه .. ومع ذلك فإن كثيراً من الناس تراهم يقدمون مقصد الحفاظ على المال .. على جميع مقاصد الإسلام الأخرى المتقدمة عليه .. ويجعلون من المال .. وطرق تحصيله .. وتكثيره .. والحفاظ عليه .. المقصد الأعظم الذي يُضحَّى في سبيله .. وسبيل تحصيله .. جميع مقاصد الدين الأخرى!
فكم هؤلاء الذين يضحون بالدين، وبالنفس، وبالعِرض والشَّرف .. من أجل حفنة من المال .. أو من أجل وظيفة يقتاتون بها .. ثم يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً .. ولا حول ولا قوة إلا بالله!
561- يتبع في الصفحة التالية إن شاء الله.