أبو البقاء الرندي
أبو البقاء الرندي
إلهام محمد صبري بيره جكلي
هو أبو البقاء صالح بن يزيد الرندي نسبة إلى مدينة رندة ، تلقى علومه على أبيه وبعض علماء زمنه ، كان حافظاً للحديث ، وكان فقيهاً ، وشاعراً اشتهر بالمديح والغزل والزهد ، والوصف ، ولكن شهرته ارتبطت بقصيدته ( لكل شيء إذا ما تم نقصان ) ، وقد نظمها بعد ضياع أكثر المدن الأندلسية ، وله مؤلفات نثرية مثل : ( تقسيم الإرث ) ، وكتابه ( الوافي في نظم القوافي ) يجمع بين النقد والبلاغة وشيء من الأخبار الأدبية الأندلسية ، ويبين فيه السرقات الشعرية وماهو عيب منها وما لا يعد عيباً .
كان بارعاً في نظم الكلام ونثره
الجو العام للنص
قال الشاعر هذه القصيدة يستنصر أهل شمال إفريقية من بني مرين لما جعل محمد بن يوسف أول ملوك بني الأحمر يتنازل عن قلاع وحصون الأندلس لصالح الإسبان ، استرضاء لهم وأملاً في البقاء في الحكم ، ويصف ما آل إليه حال المسلمين من اعتداء الإسبان على البلاد والأعراض .
الأبيات :
لـكـل شـيءٍ إذا مـا تـمَّ نقصان هـي الأمـوركـمـا شاهدتها دول وهـذه الـدار لا تـبـقي على أحد فـجـائـع الـدهـرأنـواع منوعة ولـلـحـوادث سـلـوان يـهونها دهـى الـجـزيـرة أمر لا عزاء له فـاسـأل بـلـنسية ما شأن مرسية قـواعـد كـنَّ أركـان البلاد ، فما تـبـكي الحنيفية البيضاء من أسف - حيث المساجد قد صارت كنائس ما يـا راكـبـين عتاق الخيل ضامرة أعـنـدكـم نـبـأ من أهل أندلس يـارب أم وطـفـل حـيـل بينهما وطـفلة مثل حسن الشمس إذ برزت يـقـودهـا الـعلج للمكروه مكرهة لـمـثـل هذا يذوب القلب من كمد | فـلا يـغـرَّ بـطيب العيش مـن سـره زمـن سـاءتـه أزمان ولا يـدوم عـلـى حـال لـها شان ولـلـزمـان مـسـرات وأحـزان ومـا لـمـا حـل بـالإسلام سلوان هـوى لـهـا أحـد وانـهد ثهلان وأيـن شـاطـبـة ؟ بل أين جيان عـسـى الـبقاء ، إذا لم تبق أركان كـمـا بـكـى لفراق الإلف هيمان فـيـهـن إلا نـواقـيـس وصلبان كـأنـهـا فـي مجال السبق عقبان فـقـد سـرى بـحديث القوم ركبان كــمـا تـفـرق أرواح وأبـدان كـأنـمـا هـي يـاقـوت ومرجان والـعـيـن بـاكـية والقلب حيران إن كـان فـي الـقلب إسلام وإيمان | إنسان
شرح الأبيات :
الأبيات ( 1 ، 2 ، 3 ) : لا يغرَّ :لاينخدع – الأمور دول : مرة لك ومرة عليك – شان : شأن أو حال . الحياة لا تستقيم لأحد ، ولا تتم السعادة ، وكلما شعر الإنسان أنه حصل على ما يريد جاءه ما يسيئه وينغص فرحته ، والأيام دول يوم لك ويوم عليك ، ولم تدم لأحد ممن سبقوا .
الأبيات ( 4 ، 5 ، 6 ) : فجائع : مصائب ، والمفرد فجيعة – سلوان : تسلية ونسيان – أحد وثهلان : جبلان في الحجاز .يتحدث الشاعر عن المصائب التي حلت بشبه الجزيرة الأندلسية ، فيقول : تمر في الدهر مصائب كثيرة ومنوعة ، فهذه هي الحياة ، وفي الزمان ما يفرح وما يسيء ، وكل مصيبة تهون مع مرور الأيام ويسلوها صاحبها ، إلا أن ما لا يمكن أن ينسى ما يحل بالدين الإسلامي من مصائب ، فما حل بهذه الجزيرة لاتستطيع الجبال الراسخة أن تحتمله ، ونلاحظ المشاكلة بين لفظ الجزيرة ويقصد بها الأندلس وبين ذكر هذين الجبلين وهما في الجزيرة العربية ، وكأنه يريد أن يذكر المسلمين بأن ما حدث في الأندلس أصاب الأمة الإسلامية في عقر دارها .
البيتان ( 7 ، 8 ) يذكر الشاعر أسماء المدن التي سقطت بيد الإسبان وحدث فيها ما تشيب لهوله الأبدان من قتل واغتصاب وتنصير للمسلمين ، فقد انهد كل ركن من أركان البلاد ، ويتساءل متعجباً مستنكراً : هل بقي للحياة قيمة بعد ما حصل ؟
البيتان ( 9 ، 10 ) الحنيفية : الشريعة الإسلامية – هيمان : حزين لفقد المحبوب . الإسلام في هذه البلاد يبكي أهله وشبابه الذين قتلوا أو ضاعوا ، ويبكي الإسلام على المساجد التي لم يعد لها حرمة فقد حولها أعداء الدين إلى كنائس ونصبت النواقيس والصلبان فيها .
الأبيات من ( 11 – 16 ) عتاق الخيل : أجودها – ضامرة : هزيلة البطون وهي من صفات الخيول الجيدة – الركبان : المسافرون – العلج : الرومي - الكمد : الحزن القاتل . يسأل الشاعرالمسافرين والقادمين من الأماكن البعيدة يركبون تلك الخيول الأصيلة : هل من خبريحدث عما حل بالأندلس ، لقد انتشر خبر مصائبها ، ويستثير مشاعر من يملكون القوة ليدافعوا عن تلك الأم التي فرقوا بينها وبين أطفالها دون رحمة أو شفقة ، وعن تلك الصبية التي اعتدى عليها ذلك الرومي البغيض وأجبرها على فعل القبيح وهي كارهة ، تبكي وتتلفت يميناً وشمالاً تبحث عمن يدافع عنها ، هذا هو المكروه ، وهذه هي المصائب التي تستحق البكاء بالدماء لا بالدموع ، بكاء من يحس ويشعر لا من ماتت أحاسيسه ، ومات الإيمان في قلبه .
الدراسة الأدبية :
الأفكار : مرت على الأمة الإسلامية منذ أوائل نشأتها مصائب كثيرة ، فأعداء الإسلام لن يتركوا المسلمين ينشرون دينهم ، ولن يتركوهم ينعمون بروحانية هذا الدين ، ولذلك نراهم يكيدون للمسلمين وللإسلام ، ولولا أن الله تعالى تعهد بحفظ دينه ، وجعله للناس جميعاً وأن هذا النور سيتم على الرغم من كيد أعدائه ، لما بقي حتى هذه اللحظة قوياً وإن ضعف أفراده ، يهابه أعداؤه وإن ذل أتباعه ، لأن هذا المارد ( الإنسان المسلم ) عندما يسستيقظ سيكون كالريح العاصفة تعصف بالأعداء ، واستيقاظه مستمر ، فها نحن نسمع عن ثورة الزنج في العراق ، وعن ثورة القرامطة ، وقد راح فيهما عشرات الآلاف من المسلمين ، والصليبيون بحقدهم يغزون البلاد ويسلبون المسجد الأقصى ، ومن بين ركام الضعف يأتي صلاح الدين ليقضي على أحلامهم في موقعة ( حطين ) ، ويأتي المغول فيقتلون من المسلمين مئات الآلاف ويحرقون الكتب ويدفنون الحضارة الإسلامية ، وفجأة يأتي من يقضي عليهم من المسلمين في موقعة عين جالوت ، وتتوالى المصائب على المسلمين ، ويأتي محمد الفاتح ليقضي على الصليبية في عقر دارها ويفتح القسطنطينية ، هؤلاء هم المسلمون ، وما حدث في الأندلس ، وما يحدث في كل أندلس في كل زمان ومكان ، ما هو إلا بسبب ذنوب المسلمين وركونهم إلى الدنيا ، كيف لا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : في حديث معناه أن كل مسلم مسؤول عن كل ما يصيب المسلمين من مصائب ، فكل مسلم على ثغرة من ثغر الإسلام ، فاللهَ اللهَ أن يؤتى أحدكم من قبله . والشاعر في أفكاره لم يكن مبتكراً ، ولم يأت بجديد ، فقد سبقه شعراء كثيرون صوروا المصائب التي تحل بالمسلمين ، وأظهروا إعجابهم بالأبطال الذين ينقذ الله على أيديهم هذه الأمة .
والشاعر لم يبدأ قصيدته على النهج التقليدي ، وإنما بدأها بحكمة تناسب الموضوع الذي يريد الحديث عنه وقد وفق في اختيار هذا المطلع ، وكأنه يواسي نفسه ، ويخفف عن السامع هول المصيبة ، ويدفعه إلى عدم الاستسلام لليأس والحزن ، وإلى عدم التعلق بهذه الدنيا الفانية .
عاطفة الشاعر : هي عاطفة كل مسلم غيور على دينه ، حزين لما أصاب أمته من مصائب سببها البعد عن الدين والركون إلى الدنيا ، خاصة من قبل أولي الأمر ، ولو أن هؤلاء عرفوا حق الله عليهم ، وحملوا الأمانة التي أوكلت إليهم ما حل بالمسلمين ما حل بهم . وقد أثرت العاطفة على الألفاظ ، مثل ( فجائع ، وأحزان ، لاعزاء ، العين باكية ، يذوب القلب من كمد ...) ، والعاطفة الدينية ظهرت في الألفاظ ( الإسلام ، أحد ، الحنيفية البيضاء ، المساجد ، إيمان .. ) كما أثرت العاطفة الدينية على المعاني ، فالشاعر حزين يكاد يقتله حزنه وهو يرى المساجد وقد تحولت إلى كنائس ، أو يرى الفتاة يعتدي عليها رومي حاقد ، والعاطفة الإنسانية تظهر في حزنه على الأم التي فرقوا بينها وبين طفلها ...
الألفاظ والتراكيب : جاءت ألفاظ النص سهلة واضحة ، فالشاعر يريد أن يوصل أفكاره إلى الناس جميعاً ولذلك خاطبهم بهذا الأسلوب المباشر والكلمات الواضحة ، وراوح الشاعر بين الجمل الخبرية والجمل الإنشائية وذلك لزيادة تنبيه القارئ أو السامع ، وجاء بأسلوب الالتفات ، فتارة يتحدث بصيغة الغائب ، وتارة أخرى بصيغة المخاطب ، واستعان الشاعر ببعض الأساليب اللغوية لينمي معانيه ، كأسلوب الشرط في البيت ( 2 ) وأسلوب النداء ليحث السامع على التفكر بما حل بهذه المدن ، وأسلوب التكثير في نداء رُبَّ ( يا رُبَّ أم ...) والتقديم والتأخير في مثل ( لمثل هذا يذوب القلب ) هذه هي المصائب الحقيقية .
التصوير والخيال : كثرت الصور الجزئية في النص لكنها صور عفوية غير متكلفة ، فالمقام لا يساعد على التكلف ، والعاطفة سرت منسابة وجاءت الصور معبرة عنها بصدق وواقعية . من هذه الصور :
التشبيه : في البيت ( 8 ) قواعد كن أركان البلاد : شبه المدن بالركن ، وبزوالها انهد البناء وسقطت الدولة : تشبيه بليغ ، وفي البيت التاسع شبه بكاء الإسلام ببكاء الأحبة يفارقون بعضهم ، وفي البيت ( 11 ) تشبيه عتاق الخيل بالعقبان في قوتها وسرعة جريها في مجال السبق وهو تشبيه تام الأركان ، وفي البيت ( 13 ) تشبيه حالة الأم وقد أخذ منها طفلها بحالة الجسد وقد خرجت منه روحه وأصبح لا قيمة له وهذا تشبيه تمثيلي . وفي قوله : وطفلة مثل حسن الشمس : تشبيه تام ، وكذلك في قوله : برزت كأنما هي ياقوت .ومرجان : تشبيه مجمل ، يشبه الفتاة بالجواهر الثمينة لينبه السامع إلى مرارة الخسارة عندما تهان مثل تلك الجوهرة . ونلاحظ في هذا البيت ( 14 ) تزاحم الصور ، فالفتاة جميلة كالشمس ، نقية كالياقوت ، غالية كالمرجان ، ومع ذلك لم نشعر بالتكلف في كثرة الصور .
والاستعارة : في قوله ( من سره زمن ) : تشخيص الزمن بالعاقل الذي يملك القدرة على بعث السرور أو الحزن في الآخرين ( استعارة مكنية ) ، وفي قوله تبكي الحنيفية : شخص الدين بإنسان يبكي : استعارة مكنية ، حذف المشبه به وذكر صفة من صفاته وهي البكاء .
والكناية : المساجد صارت كنائس : كناية عن ذل المسلمين وحقد النصارى .
الرأي الشخصي : قصيدة تحكي المصائب التي حلت وتحل ببلاد المسلمين ، فمتى نستفيق من غفلتنا ، ومتى يظهر صلاح الدين أو بيبرس وقطز ومحمد الفاتح ؟ ..
أسئلة نتركها لك يا مربية أجيال المستقبل لتردي عليها .