عودة المغترب
عمر أبو ريشة
"زار الشاعر بلده الحبيب سورية، بعد اغتراب مديد، وكان يحسب أنه سوف يلقى الاحتفاء به والتكريم له، فغادر سورية بلده الحبيب، ونظم هذه القصيدة الرائعة، وأوصى ألا تُنْشر إلا بعد وفاته."
ألفيتُ منزلَهـا بوجهـي موصـدا مـا كان أقربـه إليَّ وأبـعـدا
كلَّت يداي على الرتاج، وعربدتْ في سمعِيَ المشدوهِ قهقهة الصدى
ما كنتُ أحسبُ أن أطوفَ به على غصص النوى وأعودَ عنه مُجهدا
فكم اختزلتُ حـدودَ دنـيانـا على أعتابه وكم اختصرتُ به المـدى
ما بالها تصغي؟ -وأحلف إِنـها تصغي- وتأبى أن تردَّ على النّدا؟
أَخَبَتْ نجومي في مدار لحـاظـها؟ فتساوت الدنـيا لديها مـورِدا ؟
ليسـت بـأول بـدعـة أوجـدتُها وأضعتُها عبر الضلالة والهدى
وحملتها ذكرى ولم أُرْخِـصْ لهـا عهداً ، أَأَشقى عهدُها أم أسعـدا؟
الذكرياتُ .. قطافُ ما غرستْ يدي كَفِلَ الحنـينُ بقـاءَها وتعهَّـدا
هي كل زادي هوَّنَتْ صعبَ السَّرى ورمتْ على قدميّ غطرسةَ الردى
كم نعمةٍ شـَمخَـتْ عليَّ فهِجتُـها وشربْتُ نزفَ جراحها مُسْتَبْرِدا
وكم استخفَّ بيَ الهوى فصلبتُـه وركعتُ تـحت صليبه متعبـِّدا
وتقاتـلتْ فيَّ الظنـونُ وطابَ لي في حالتـيـها أن أُذَمَّ وأُحمَـدا
جئتُ الحيـاةَ فـما رأتـنيَ زاهداً في خوض غمرتها.. ولا مترددا
إني فرضـتُ على اللـيالي ملعبي وأبيتُ أن أمشـي عليه مُقـيَّـدا
يا غربتي .. كم ليلـةٍ قطّعـْـتُها نِضـْوَ الهموم على يديك مُسَهَّدا
أطـمعتِـني في كـل حلم مترف وضربتِ لي في كل أفق موعِدا
فوقـفتُ أقتـبلُ الرياحَ وما درتْ من كان منا العاصفَ المتـمردا
ومضيتُ .. أنتعلُ الغمام وربـمـا أشفقتُ خدَّ النجم أن يتجـعـدا
وأطلتُ في التّيـه المُشـِتِّ تنقـُّلي وحملتُ ما أبـلاه فيَّ وجـدَّدا
ورجعت أستسقي السـراب لسروة نسيـتْ لياليها حكايات الـندى
فكـأنـمـا المجـد الذي خلدتُـه لـم يكفني فأردتُ مجداً أخلـدا
ما أكرم الـوتـر الذي أسكـتـُّهُ لأجُرَّ أنفاسـي عليه تـنـهُّـدا
كم سـلسلت فيه الشموخَ أنامـلي ورمتْ به سمعَ الزمان فـردَّدا
خلع الفتونَ على الشجون وصانها من أن تهون ترجُّـعاً وتوجُّـدا
أهـفـو إليـه وما يزال غبـارُه متجمعاً فـي صـدره متلبـدا
أفديـه بالبـاقـي من السلوى إذا أرجعـتُه ذاك اليتيـمَ المفـردا
يا غربتي أشجاكِ طول تـلفُّتـي صوب الديار تهالـكاً وتجلـدا
أتَعِبتِ من نظـري إليكِ معاتـباً ؟ ومللتِ من صخبي عليكِ مندِّدا؟
ذاك التـجـنِّي لم تطـيقي حمـله مني، ولم تتوقعي أن ينـفـدا
أطلقتِنـي .. وتبعتِني.. وأريتِنـي ملءَ الدروب خيالكِ المتـوددا
أنا عند ظنكِ سادر في مـوطـني أزجي خطايَ على ثراهُ مشرَّدا
وأغـضُّ من طـرفي حياءً كلمـا عدَّدْتُ أعراسي عليه، وعدَّدَا
أيامَ تـستـبـق الرجـالُ نـداءه وأشقُّ موكبَـهم فـتيِّياً أمـردا
وبـناتُ كلِّ عجـيبـةٍ ، مجلوةٌ رصداً على هضباته متوعـدا
كم علَّمَتْنِي أن تـدوسَ جـباهَهَا قدمي ، وكم علمتها أن تحـقدا
لعبتْ ببرد صبـايَ بيـن جراحه فالتفَّ حول ثخينِهِنَّ ، وضمَّـدا
تـأبى البـنوَّةُ أن أقـول وهبتُـه وتركت كل هبات غيري حُسَّدا
أَأَمُـرُّ منه وصاحبايَ كهـولتـي والعنفوانُ ، ولا يمدُّ لنا يـدا ؟
أنا ما شكوت على اللقاء صدودَه عني، متى صدَّ الكريمُ تعمُّدا ؟
تـلك الـذوائبُ من لِدَاتي دونـه رمحٌ تكسَّرَ أو حسامٌ أُغـمـِدا
أخذتْ بناصيتيه أيـدي عصبـةٍ كانت على سود الليالي هجَّـدا
جـاز الزمانُ بها حدود مجونه فأقام منها كـلَّ عبدٍ سـيـدا
تشقى العلى إن قيلَ كانت جندَها مـا كان للجـبناءِ أن تتجنـَّدا
نظرتْ إلى شرف الجهاد فراعَها فسعتْ إلى تعهيره، فاستشهـدا
مـن كلِّ منْفضِّ السبيل ِ، لقيطِهِ شاءت به الأحـقادُ أن تتجسّـَدا
عقد الجفونَ بذيـل كـل سماوةٍ وأراد ملعبَها كسـيحاً مقـعـدا
العـاجزُ المقهـورُ أقتَـلُ حيلةً وأذلُّ منطلَقاً ، وأنـذلُ مقصِـدا
نشر الخسيس من السلاح أمامه واختار منه أخسـَّه ، وتـقـلَّدا
وحبا إلى حرم الرجال، ولم يذُقْ من قُدسِ خمرتهم ولكنْ عربـدا
وافتَنَّ في تزييف ما هتفوا بـه وارتدَّ بالقِيَـمِ الغـوالي مُنْشـِدا
البغيُ أروع مـا يكـون مظفراً إن سُلَّ باسم المكرمـات مهنَّـدا
لا يخدعنِّكَ دمعُه وانـظر إلى مـا سال فوق أكفه ، وتجـمَّدا
لم تشربِ الحُمَّى دماءَ صريعِها إلا وتكسـو وجنـتـيه تـورُّدا
وأزاحت الأيـام عـنه نقابـه فأطلَّ مسْخاً بالضـلال مـزوِّدا
ترك الحصون إلى العدى متعثراً بفراره، وأتى الحِمَـ مُسْتأسـِدا
سـكِّينـه في شـدقه ولعـابُه يجري على ذكر الفريسة مُزبدا
ما كان هولاكو ، ولا أشـباهه بأضلَّ أفئـدةً و أقسـى أكـبُدا
هذي حماة عروسةُ الوادي على كِبْر الحداد، تُجيل طـرفاً أرمدا
هذا صلاح الدين يخفي جرحه عنها، ويسأل: كيف جُرْحُ أبي الفدا
سرواتْ دنـيا الفتح هانتْ عنده وأصاب منها ما أقـام وأقعـدا
ما عفَّ عن قذف المعابد باللظى فتناثرت رِممـاً، وأجَّتْ موقـدا
كم سُـجـَّدٍ فـاجـأهـم، وما كانوا لغير الله يـومـاً سُـجّدا
عـرَفَتْهمُ الجُلَّى أَهِـلَّة غـارة وغزاةَ ميدانٍ ، وسادة منتـدى
يا شامُ.. ما كذب العِيانُ، وربما شـهق الخيالُ أمامه ، وترددا
أرأيتِ كيف اغتيل جيشُك وانطوت بالغدر رايةُ كل أروعَ أصيدا؟
وانفضَّ موكب كل نسر لو رأى لِعُلاكِ ورداً فـي النجوم لأوردا
من للبقايا مـن تراث غاضب في القدسِ؟ من يسعى إليها مُنجدا؟
درجتْ عليها الغاشياتُ ولم تدع فيـها بنـاءً للشموس مشـيّدا
روَّتْ بـأقداح المسيج غليلها ورمت بها، وهوت تُذرِّي المزودا
لمن الخيام على العراء تزاحمت وكـست مناكبَه وِشاحاً أسودا ؟
مرت بها غُبْرُ السنين ولم تزل نصباً على جرح الكرامة شُهَّدا
شابتْ بنات اليتم فـي أحضانها ورجاؤهـنَّ كشملـهن تـبددا
ومن الخليج إلى المحيط عمومةٌ وخؤولة طـابت وعزت مَحِتدا
وقفت تشد على الجراح وكِبرُها يرنو إلى الشرف الذبيح مصفَّدا
والحاكمون.. الثـأر راح مفرِّقاً ما بينهم، والعـار جاء موحِّدا
كـم ملعب للتضحيات تواعدوا أن يقطعوه شـائـكاً ومُـعبَّدا
حتى إذا الخطب استحرَّ تواكلوا وتهالكوا فـوق الأرائك أعبُدا
وتأنقوا فـي ستر ذلِّ خـنوعهم فجلَوْهُ نهجاً بالـدَّهاء مـؤيدا
أنا لم أكن يا شام أعرف فيهمُ الـ ـندْبَ العيوفَ ولاالنجيد المسعدا
تـرفُ الحياةِ.. ذليلـُهُ ورخيصُهُ نادى على حرماتهم أن تُورَدا
ونزا على أحـلامـهم فتـهوَّدت وسرى إلـى سلطانهم، فتهودا
يا شام.. أوجعُ من وجومك زفرةٌ داريتُها، وأردتُـها أن تـخمدا
زخرتْ بما ادّخرت منايَ إلى غدٍ إني أخاف أرى مصارعها غدا
لا يا عروس الدهر سفرُكِ ما روت صفحاتُهُ إلا العلى والسـؤددا
كم دون هيـكلك الموشَّى بالسنى مـن طامعٍ أُردي وطـاغٍ أُلحدا
وكم انثنت عنـك الخطوب حَيِيَّةً ويداكِ ما انتهتا، وكبْرُك ما ابتدا
جمدتْ عيونُ الشرق من سهرٍ على ميعادِ وثبتكِ الجموحِ على العِدا