من طرائف علي الطنطاوي
من طرائف علي الطنطاوي
الشيخ علي الطنطاوي
مما وقع لي :
أن جاءني مرة وكنت في عنفوان الشباب أكتب ـ في أوائل كتابتي ـ في الرسالة (عام 1933م) ثلاثة من الغرباء عن البلد ، لم يعجبني شكلهم ، ولم يطربني قولهم ، فوقفت على الباب أنظر إليهم فأرى الشكل يدل على أنهم غلاظ ، وينظرون إليَّ فيرون فيَّ (ولداً) فقالوا : هذه دار فضيلة الشيخ الطنطاوي ؟ قلت كارهاً : نعم .. فقالوا : الوالد هنا ؟ قلت : لا .. قالوا : فأين نلقاه ؟ قلت : في مقبرة الدحداح على الطريق المحاذي للنهر من جهة الجنوب ، قالوا : يزور أمواته ؟ قلت : لا ، قالوا : إذن ؟ قلت : هو الذي يُزار ... فصرخ أحدهم في وجهي صرخة أرعبتني وقال : مات ؟ كيف مات ؟ قلت : جاء أجله فمات ... قالوا : عظم الله أجركم ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، يا خسارة الأدب ، قلت :... إن والدي كان من أجَلّ أهل العلم ولكن لم يكن أديباً ... قالوا : مسكين أنت لا تعرف أباك .
وانصرفوا ، وأغلقت الباب وطفقت أضحك وحدي مثل المجانين ، وحسبت المسألة قد انتهت ، فما راعني العشية إلا الناس يتوافدون عليَّ فاستقبلتهم ، فيجلسون صامتين إن كانوا لا يعرفون شخصي ، ومن عرفني ضحك وقال : ما هذه النكتة السخيفة ؟ قلت : أي نكتة ؟ فأخرج أحدهم الجريدة وقال : هذه ! هل تتجاهل ؟ فأخذتها فإذا فيها نعي الكاتب الـ... كذا وكذا .. علي الطنطاوي ... هذه واحدة !!
ومما حدث لي أنني :
لما كنت أعمل في العراق (سنة 1936) نقلت مرة من بغداد إلى البصرة إثر خصومة بيني وبين مفتش دخل على الصف فسمع الدرس . فلما خرجنا (نافق) لي فقال : إنه معجب بكتاباتي وفضلي ، (ونافقت) له فقلت : إني مكبر فضله وأدبه ، وأنا لم أسمع اسمه من قبل ، ثم شرع ينتقد درسي فقلت : ومن أنت يا هذا ؟ وقال لي وقلت له ...
وكان مشهداً طريفاً أمام التلاميذ .. رأوا فيه مثلاً أعلى من (تفاهم) أخوين ، وصورة من التهذيب والأخلاق . ثم كتبت عنه مقالة كسرت بها ظهره ، فاستقال و (طار) إلى بلده ، ونُقلت أنا عقوبة إلى البصرة .
وصلت البصرة فدخلت المدرسة ، فسألت عن صف (البكالوريا) بعد أن نظرت في لوحة البرنامج ورأيت أن الساعة لدرس الأدب ، وتوجهت إلى الصف من غير أن أكلم أحداً أو أعرِّفه بنفسي .
فلما دنوت من باب الصف وجدت المدرس ، وهو كهل بغدادي على أبواب التقاعد ، يخطب التلاميذ يودعهم وسمعته يوصيهم (كرماً منه) بخلفه الأستاذ الطنطاوي ، ويقول هذا وهذا ويمدحني ... فقلت : إنها مناسبة طيبة لأمدحه أنا أيضاً وأُثني عليه ، ونسيت أني حاسر الرأس ، وأني من الحر أحمل معطفي على ساعدي وأمشي بالقميص وبالأكمام القصار ، فقرعت الباب قرعاً خفيفاً ، وجئت أدخل ؛ فالتفت إليّ وصاح : إيه زمال وين فايت ؟ (والزمال الحمار في لغة البغداديين) فنظرت لنفسي هل أذنيّ طويلتان ؟ هل لي ذيل ؟.... فقال : شنو ؟ ما تفتهم (تفهم) أما زمال صحيح . وانطلق بـ (منولوج) طويل فيه من ألوان الشتائم ما لا أعرفه وأنا أسمع مبتسماً . ثم قال : تعال نشوف تلاميذ آخر زمان ، وقِّف احك شو تعرف عن البحتري ؟ حتى تعرف إنك زمال ولاّ لأ ؟
فوقفت وتكلمت كلاماً هادئاً متسلسلاً ، بلهجة حلوة ، ولغة فصيحة . وبحثت وحللت وسردت الشواهد وشرحتها ، وقابلت بينه وبين أبي تمام ، وبالاختصار ألقيت درساً يلقيه مثلي .. والطلاب ينظرون مشدوهين ، ممتدة أعناقهم ، محبوسة أنفاسهم ، والمدرس المسكين قد نزل عن كرسيه ، وانتصب أمامي ، وعيناه تكادان تخرجان من محجريهما من الدهشة ، ولا يملك أن ينطق ، ولا أنظر أنا إليه كأني لا أراه حتى قرع الجرس .. قال : من أنت ؟ ما اسمك ؟ قلت : علي الطنطاوي !ّ وأدع للسامعين الكرام أن يتصوروا موقفه !