ما الذي ينتظرنا؟ تركز السوق والتفاوت في الدخول سيؤدي إلى إبطاء التعافي
ثمة نقاش مستمر يدور حول الكيفية التي سيبدو عليها التعافي حين تعاود الاقتصادات نشاطها، مع إفراطٍ في أشكال الإبداع لوصف الانتعاش المحتمل. وكما يعلم قراء هذه الرسالة الإخبارية، لم أكن قط مؤمنًا بما يسمى التعافي على هيئة V؛ بل على العكس من ذلك، كنت قد أكدت من بداية أزمة تفشي فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) بأن هذا النوع من التعافي بعيد تماماً عن الواقع. بطبيعة الحال، ليس في نيتي أن أكون متشائمًا، ولا أن أنافس الآخرين بالتشاؤم. أعتقد ببساطة أن النظر إلى الواقع هو أول شيء يجب أن يفعله أي شخص عند محاولة تحليل موقف. إن تمني الأماني أمر طبيعي؛ لكنه لا يساعد في بناء التوقعات، ولا في صنع القرار الاستراتيجي على نحو جيد.
إننا في خضم ما عُرّف على نحو صحيح بأنه الانضغاط الكبير، فهناك من جادل، بأن جميع الأنشطة الاقتصادية ستنطلق مجدداً (أي ستخفف الضغط)، حالما تُرفع التدابير المتخذة للحدّ من انتشار الفيروس. لكن هذا من ضروب المستحيل. كلما طال أمد إغلاق المؤسسات، كلما كان من الأصعب على الشركات الخاصة أن تسترد عافيتها، ولا سيما الأسر المعيشية ذات الأجور المتدنية فضلاً عن العاملين لحسابهم الخاص، والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم. العديد من هذه الشركات لن تتمكن من متابعة عملها من جديد. وإذا أردنا لهذه الشركات أن تستأنف نشاطها، فهي بحاجة إلى دعمٍ أكثر من أي وقتٍ مضى. إن للمشاريع الصغيرة والمتوسطة الحجم دورًا لا يمكن تجاهله في الاقتصاد العالمي، سواء من وجهة نظر البحث أو التطوير، أو الإبداع، أو خلق فرص العمل. والخطر الملموس لهذه الأزمة، هو أن تسفر عن تركزٍ أقوى للسوق، وتفاوتٍ في الدخول مقارنةً بما لدينا حاليًا، وللأسف أرى أن هذا السيناريو محتمل جدًا.
هذه ليست مجرد مشكلة نظرية، أو شيء يمكن فهرسته ببساطة تحت قضيةٍ أيديولوجيةٍ من نوع ما. بعبارةٍ أخرى، ثمة من يتجاهل هذه القضية باعتبارها قضية "العدالة والاقتصاد السياسي". لكن الأمر أبعد ما يكون عن مجرد نظريةٍ بسيطة؛ بل على العكس من ذلك إنها قضية وثيقة الصلة كانت تؤثر من قبل بدء الأزمة على مجمل الاقتصاد، فخلقت نقطة ضعف غير مرئية، والآن سوف تزداد أهمية هذا المتغير بشكل كبير.
عبر التاريخ، دعمت نظرية الاقتصاد الكلي الكلاسيكي فكرة أن عدم المساواة بين الناس في الواقع تشكل أداة فعّالة لتحفيز النمو. من وجهة النظر هذه، سيدخر الأفراد الأكثر ثراءً من السكان جزءًا أكبر من الدخل، وبالتالي ستعزز الاستثمار الرأسمالي، وهذا من شأنه أن يزيد من إنتاج السلع والخدمات، الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى اقتصادٍ أقوى بشكل عام. لكن الدراسات الحالية تُظهِر أن هذه النظرة التقليدية لا تستطيع الصمود أمام اختبار الواقع. في الولايات المتحدة انخفضت نسبة الاستثمار إلى الدخل القومي بشكل حاد منذ ثمانينيات القرن العشرين. بعبارةٍ أخرى، لم تعد المدخرات المتزايدة للأفراد الأكثر ثراءً من السكان تتحول إلى استثماراتٍ رأسماليةٍ إضافية؛ بل على العكس من ذلك، فقد أدت هذه المدخرات إلى زيادة اقتراض 90% من السكان الأقل ثراءً- والحكومة. بالتالي، ارتفاع دين الأسر والدول ينتج عن عدم المساواة في الدخل.
من الواضح أن هذه اللعبة لا يمكن أن تستمر لفترة طويلة. هذا الاقتراض يأسس لتيار آخر من الدخل، موجهًا من الجزء الأفقر من السكان إلى الجزء الأكثر ثراءً، مما يزيد من عدم المساواة نظرًا لأن الأثرياء يتمتعون بمعدل ادخار أعلى من باقي السكان، لكن أقساط الدين هذه تغذي طبقة أخرى في عملية إضعاف الطلب الكلي.
عندما تكون هذه العملية قائمة، فإن الطريقة الوحيدة التي قد تسمح للاقتصاد بالحفاظ على التوازن هي خفض أسعار الفائدة. على هذا النحو، يدعم خفض أسعار الفائدة زيادة الاقتراض من قبل الأفراد غير الأثرياء وزيادة معدل طلبهم ــ على الأقل لبعض الوقت. مع ذلك، لا يمكن لهذه الاستراتيجية أن تعمل إلى ما لا نهاية. عندما تصل أسعار الفائدة إلى الحد الأدنى، فإن الطريقة الوحيدة التي تسمح للاقتصاد بالحفاظ على التوازن هي خفض الإنتاج، لأنه لا يمكن تحفيز الاقتراض أكثر من ذلك. ومن ثم، يشهد الاقتصاد العالمي نمواً ضعيفاً.
نتائج الدراسات والأبحاث واضحة، وتشير بقوة إلى أن الطريق لمعالجة انخفاض النمو تتمثل في الواقع بالتحرك نحو نظام يقلل من عدم المساواة في الدخل، وبالتالي تعزيز مستويات الدخل لغير الأغنياء؛ وهذا بدوره سيعزز الطلب الكلي ويعزز الإنتاج، ويسمح لاقتصادات العالم بالخروج من الحدّ الأدنى لأسعار الفائدة.
السؤال المطروح هنا: كيف نتجنب هذا؟ كيف نتجنب الدخول في موقفٍ تتفاقم فيه نقاط الضعف الأساسية في المنظومة حاليًا بفعل تأثيرات الانضغاط الكبير، الأمر الذي يؤدي إلى كسادٍ عالمي واسع؟ بالتأكيد، من الأسهل من الناحية التقنية تحرير شيك لشركة عملاقة عوضاً عن الوصول إلى مئات الملايين من المؤسسات الفردية والصغيرة والمتوسطة. لكن الوصول إلى تلك المؤسسات الأخيرة هي الطريقة التي من شأنها أن تسمح بحماية رؤوس الأموال العالمية والعمال في العالم. يجب أن تهدف الدول إلى دعم الأسر، وأن تعمل على نقل الثروة إلى الأسر والشركات الصغيرة - ليس فقط في الوقت الحالي، ولكن في مرحلة التعافي أيضاً. سيتم حماية العمال من خلال هذه الطريقة - وليس الوظائف فقط؛ سينخفض التفاوت في الدخل والزيادة المحتملة في تركز السوق، مما يسمح بإنشاء قاعدة أفضل لمواجهة الركود المزمن.
وسوم: العدد 874