رسالة من السجن إلى ولدي محمد
شعر: نجيب فاضل أمير الشعراء الأتراك
عالم يحصر الأكوان في كوّة حصرا
ويلقي العقل في ضغط المحال قهرا
وألف سؤال بعد ألف تترى
أنسيان أم تفكر؟ أكلام أم سكوت؟
هل الخارج من هنا إذ يخرج.. إنسان أم تابوت؟
هات الشاي الذي طعمه كالسم الزعاف
ولنشرب، ولتمض دقيقة من عمر الأعوام
إذ لا فرق في السجن بين الثواني والأيام
فحرك الشاي رويداً ليذوب الزمان!
أذبه في فقاعة وبخار ودخان!
عليٌّ.. كان محكوماً بالإعدام. علق بالحبل
ختم ختمه، وأسقط اسمه من السجل
جاء وراح، أياماً في موسم وفصل
وخلف من بعده في الحديقة قرنفلات
زرعهن.. الآن رقابهن مائلات!
الصمت يمتد متدحرجاً مهما امتد البصر
ولا يستقر في نقطة من هذا العالم النظر
أما زال للميت والقبر في الأرض مقر
أم فرغت الأرض من أهلها جميعاً في غفلة!
وبقينا هنا، والبشر نحو الشمس في هجرة ورحلة؟
الماء حديد، والخبز حديد، والصوت حديد
فامضغ المحال إن شئت في الحديد
إنه القدر والأمر الذي ليس منه محيد
منفذ النور بائس وصغير وضيق، هنا
لكنه يطلق النظر نحو السماوات، ويحجز عن الدنى
تخدرت الأذرع الممتدة بالدعاء
النجوم في الأكف، تشققت صفحة السماء
والدموع مزرعة تفتحت زهوراً ناضرة
وخيط نَفَس، وخيط دخان، وخيط بخار شارد!
خيوط دقيقة، تحوك نسيجاً في الفراغ البارد!
هذه السجون كأرحام الأمهات
فيها يولد النور من الظلمات
"بادر وكافح"، في أذني نداء الأصوات
أنت عملاق، وحمل العملاق كالجبال وزنا
قف شامخاً منتصباً، وافرح ولا تبتئس حزنا
افرح يا ولدي، جباهنا عالية، افرحوا كلكم أجمعون
افرحوا إن عدنا إلى بيوتنا، أو إن أخذتنا المنون
إن القافلة ستمضي، فلا تجزعوا بالظنون
الغد لنا، لابد.. ولا محالة، فالغد لنا.
ما أشرقت الشمس أو غربت، فالبقاء لنا