تريكسيا كلبة السيرك
( 6 )
تريكسيا كلبة السيرك
Trixie , The Circus Puppy
ترجمة: أ.د/
جابر قميحةمن قصص الأطفال الغربية
من كتاب :
(The Big Story Book)
كانن سيرك الأخوان ( بيبي ) و ( باربي ) يستعد لمغادرة معسكره الشتوي ، فبعد مدة قصيرة سيرحل السيرك من مدينة إلى مدينة مطوفا بكل أرجاء الوطن ، ومعه حيواناته ومهرجوه ، وممثلوه ، وكل من يؤدي دورا معينا ... وفي طوافهم بالمدن والقرى ... وليلة بعد ليلة سيدخلون السرور على قلوب المئات والمئات من المشاهدين .
إن العمل في السيرك ليس سهلا هينا : فكل رجل ، وكل امرأة ، وكل حيوان له عمل معين لابد أن يؤديه ، ولا يملك أحد ـ رجلا كان أو امرأة أو حيوانا ـ أن يرافق السيرك في رحلته الطويلة إلا إذا ثبت أنه يؤدي دوره المكلف به على الوجه الأكمل ، وكل من يعجز عن المساهمة في أداء دوره في السيرك بنجاح ... عليه أن يتخلف في المعسكر الشتوي ، ولا يرافق السيرك في رحلته الطويلة .
وفي السيرك ألوان من العمل يجب أن تؤدّى ، وكثير منها قد لا يراه المشاهد . فبعض الرجال والحيوانات يساهمون في نصب الخيام ورفعها ، والبعض الآخر يعزفون الموسيقى ، أو يعملون في المطبخ ، أو يبيعون التذاكر ، والتذكارات للمشاهدين .
وبعض أفراد السيرك وحيواناته يرتدون الملابس البراقة ، ويسيرون في العرض الكبير إعلانا عن بدايته ، وعند انتهاء عروضه كذلك . وهناك غير هؤلاء من يؤدون أدوارهم في العرض داخل السيرك ، سواء أكانوا آدميين أو حيوانات . إنهم يدخلون إلى إحدى حلقات السيرك الثلاث ليمتعوا العاملين ، إنهم حقا نجوم العرض وملوكه ، ولكن العاملين الآخرين في السيرك ( الذين لا يراهم الجمهور في العرض ) لا يقلون في الواقع أهمية عن هؤلاء النجوم الكبار ، وإن كان الجميع : النجوم البارزون ، والعاملون من وراء الستار _ يتعاونون في إحراز النجاح للسيرك .
وكان ( ماسترو الكبير ) يقوم بعمل مزدوج : فهو يقدم دورا يقوم به نجمان مشهوران هما الكلبان ( باوندر ) و ( استارلا ) . كما أنه يقوم بطبخ الطعام ، وإعداد الوجبات لأعضاء السيرك .
كان ( باوندر ) كلبا بسيطا ذكيا من كلاب الصيد ، وكان الدور الذي يؤديه أن يقفز في قوة من خلال طوق مشتعل حيث يستقبله ( ماسترو ) بذراعيه وكانت ( استارلا ) كلبة صغيرة مسترخية الأذنين حريرية الشعر من نوع ( Cocker Spanial ) ... وكان دورها الذي تقدمه في العرض أن تمشي على قدميها الخلفيتين وتؤدي " شقلبات " في الهواء .
وفي العام الماضي أصبح ( استارلا ) و ( باوندر ) أبويين فخورين بخمسة من الأجْراء الجْميلة الجديرة بالحب والتقدير .
وأصبح أربعة من هؤلاء الخمسة موضع عناية . وكان الأولاد والبنات يعيشون بجانب المعسكر الشتوي بالسيرك ، أما الخامس الذي كان ذكيا على صغره فقد كان جذابا ذا لون بني ذهبي ويدعى ( تريكسيا ) ، وظل مع والديه اللذيين كانا يأملان أن يشترك " في نمرة الكلاب " التي يقدمها ماسترو العظيم .
لقد أحب ماسترو تريكسيا ، وكان حريصا على الحفاظ عليها ، ولكن كان هناك مشكلة واحدة وهي أن ( تريكسيا ) لم تكن كلبة موهوبة بشكل واضح . وكان الثلاثي : ماسترو و باوندر و استارلا يعرفون أن تريكسيا عليها أن تثبت قدرتها على أداء دور ما في عروض السيرك إذا أرادت مصاحبة السيرك في رحلته الطويلة إلى المدن والقرى .
وقبل أن يغادر السيرك مقره الشتوي يقوم مدير الحركة بالسيرك عادتا بزيارة كل الأقسام ومشاهدة كل الأدوار والتحقق ممن يستحقوا الذهاب مع السيرك في رحلته ، أما الذين ليس لهم أدوار يساهمون بها فسيتخلفون في المعسكر الشتوي للسيرك . لذلك كان على ماسترو وباوندر واستارلا إيجاد دور ما تؤديه ( تريكسيا ) . ولكن كيف ؟ وما هو هذا الدور ؟ .
وبعد ظهيرة يوم مشمس جميل كان ماسترو وكلابه المدربة يؤدون تدريبهم بجوار مقصورتهم . وتقدم مدير الحلقة ووقف بمحاذاتهم يشاهد الدور الذي يؤديه ماسترو . وابتسم وهز رأسه إعجابا . وصفق بشدة عندما شاهد " استارلا " تمشي على رجليها الخلفيتيين ، وتقوم بشقلباتها في الهواء . وحينما رأى الكلاب الأخرى تؤدي تدريبها بنجاح صفق لها تصفيق إعجاب واستحسان ، وحينما رأى باوندر يقفز من فوق سقالة عالية منطلقا في الهواء من خلال الطوق المشتعل فتح فمه في ذهول واندهاش . وبعد أن استقر ذلك الكلب الجسور بين ذراعي ماسترو الممدودتين صاح : برافو … برافو .
وبعد ذلك أخذ ينظر إلى الكلبة الصغيرة ذات اللون البني الذهبي والأذنين العريضتين المرخيتين ، وهي جالسة بالقرب من باوندر واستارلا ، وأخذ يبرم شاربه الأسود الطويل بأنامله ، ثم أخذ يربت على ذقنه مستغرقا في التفكير . وتوجه بالكلام إلى ماسترو وهو يشير إلى تريكسيا :
ـ " أنا لم أر هذه الكلبة الصغيرة تؤدي شيئا ، لقد جلست هناك طوال التدريب ما الذي تفعله هناك ؟ " .
بلع ماسترو ريقه كأنما أخذته غُصة ، ونظرت استارلا إلى باوندر ، ولم يصدر باوندر صوتا ، وتريكسيا الصغيرة جالسة تماما هناك … إنها لم تتحرك … إنها لم تبد امتعاضا أو اعتراضا ، كل ما فعلته أنها جلست هناك في منتهى الهدوء والسكون .
أجاب ماسترو :
ـ " إنها … إنها ( تريكسيا ) … إنها بنت استارلا وباوندر ، أنا لم استغلها في دور بعد ، ولكني سأفعل ، وأنا آمل أن تكون نجما عظيما في يوم ما … إن أبويها في منتهى الذكاء والمهارة " .
وحدق مدير السيرك في ماسترو بشك مرتابا في كلامه ، وتقدم في بطء نحو تريكسيا ، وانحنى فوقها وأخذ يداعبها بأصابعه خلف أذنيها الفاتنتين ، ثم التفت إلى ماسترو قائلا :
ـ " إنها كلبة فاتنة ولكنك تعرف القواعد المتبعة يا ماسترو ، فهي لابد أن تقدم شيئا في العرض إذا أرادت أن تصاحبنا في رحلتنا … هل تستطيع أن تؤدي شقلبات في الهواء ، هل تستطيع أن تقفز خلال الطوق المشتعل ؟ أم أنها لا تتقن إلا الجلوس في صمت … أرني يا ماسترو ما الذي تستطيع هذه الكلبة أن تقدمه ؟ " .
كان باوندر واستارلا يرقبان الموقف في عصبية في الوقت الذي مشى فيه ماسترو نحو تريكسيا وحملها بعيدا إلى وسط منطقة التدريب ، ووضعها على الأرض وانحنى فوقها وهمس في اذنها المرخية :
ـ " حاولي أن تبذلي أقصى ما تستطيعين … " .
وواصل كلامه في رقة وحنان :
ـ " افعلي أي شيء ، ولكن لا تجلسي هناك دائما بهذه الصورة " .
كان ذلك وتريكسيا لم تلمح أو تأن أو تتذمر أو تتحرك كل ما فعلته أنها أخذت تلعق يد ماسترو وجلست هناك وأخذ ماسترو يمرر أصابعه على ظهرها وهو يقول :
ـ " هيا قومي يا تريكسيا … انهضي وامشي على جليكي الخلفيتين " .
ولكن تريكسيا لم ترفع رجليها الأماميتين ، ولا مشت على رجليها الخلفيتين ، لقد جلست هناك صامتة ساكنة كأنها تمثال وأغلق باوندر عينيه ، إنه لم يعد يستطيع مراقبة ما يحدث ، وكذلك أدارت استارلا نظرها بعيدا ، ماذا يمكن أن يحدث بعد ذلك ؟ … إن تريكسيا إذا عجزت عن أداء شيئا ما في أسرع وقت فأن مدير الحلبة لن يسمح لها بالسفر مع السيرك .
قال ماسترو :
ـ " إن تريكسيا بالتأكيد تدخر طاقتها الآن للقيام بالشقلبات وسيكون أداؤها أحسن في المرة القادمة " .
فأجاب مدير الحلبة وهو يبرم شاربه بين أنامله :
ـ " هذا بالتأكيد ما أتمنى " .
ثم أخذ ماسترو يفرقع بأصابعه فوق رأس تريكسيا وهو يصرخ فيها :
ـ " اقفزي يا تريكسيا … اقفزي … إلى أعلى … إلى أعلى في الهواء أيتها الجميلة " .
القفز في الهواء كان هذا كل ما كان على الكلبة الصغيرة أن تؤديه ، ولكنها لم تستجب لمدربها ، إنها لم تتحرك ، بل جلست هناك ملتصقة تماما بالأرض .
قال مدير الحلبة في تبرم وتذمر :
ـ " لا أظن أننا قد رأينا ما فيه الكفاية ، إن هذه الكلبة لا تصلح لأداء دور ما ، إنها لا تتمتع بالصفات التي تؤهلها لأن تكون عضوا في أسرة السيرك . كل ما أبدته ببراعة هو الجلوس والجلوس فقط ، هيء يا ماسترو لكلبتك العزيزة بيتا جديدا في المعسكر الشتوي للسيرك قبل مغادرته … تريكسيا لا تستطيع أن ترحل مع فرقتها " .
قال ماسترو في ضراعة :
ـ " أرجوك امنحها فرصة أخرى ، فمن الجائز أنها تريد أن تقتدي في الأداء بأبويها ، فربما استطاعت مستقبلا أن تقفز من فوق السلم العالي . إنها الآن أصغر من أن تقفز خلال الطوق المشتعل ، ولكن ربما استطاعت ـ عن قريب ـ أن تقفز خلال طوق غير مشتعل " .
ووعده مدير الحلبة بالموافقة على سفر تريكسيا في جولة السيرك إذا استطاعت أن تقفز وتنفذ من الطوق .
ورفع ماسترو كلبته تريكسيا من فوق الأرض ووضعها على السلم العالي في الوقت الذي كان باوندر واستارلا يرقبان ما يحدث في قلق ولهفة ، وكانت كل العيون ـ آنذاك ـ معلقة بالكلبة الصغيرة ، ووضع ماسترو الطوق في مكانه ، ووقف خلفه ليستقبلها بذراعيه بعد أن تقفز وتنفذ منه . ترى هل ستؤدي تريكسيا هذا الدور ؟ ترى هل ستستجيب وتقفز ، ترى ستسافر مع العرض ؟
وصاح ماسترو :
ـ " والآن … هيا " .
ولكن الكلبة لم تتحرك بوصة واحدة وصاح ثانيتا :
ـ " هيا اقفزي الآن … هيا اقفزي الآن " .
ولكنها ظلت جالسة هناك على السلم العالي .
وصرخ للمرة الأخيرة بعصبية شديدة :
ـ" أرجو يا تريكسيا اقفزي … اقفزي " .
قال مدير الحلبة :
ـ " لا فائدة من ذلك…إنها لن تقفز أبدا…إنها في الحقيقة لن تؤدي شيئا ".
وهز ماسترو رأسه في حزن وخيبة أمل ، لقد بذل اقصى ما يستطيع من جهد ، فماذا يفعل بعد ذلك ؟ … تريكسيا لا تقفز … تريكسيا لا تمشي على رجليها الخلفيتين … تريكسيا لا تؤدي شقلبات في الهواء … كا ما فعلته تريكسيا هو الجلوس التام في صمت وهدوء " .
وقال لمدير الحلبة :
ـ " ولكني إذا خلفت هذه الكلبة الصغيرة هنا فإن ذلك سيحطم قلب كل من باوندر واستارلا والديها … إنها مجرد كلبة صغيرة … ربما استطاعت في وقت ما أن تتعلم وتشترك في عروض السيرك " .
فقال مدير الحلبة في كأبة :
ـ " آسف يا صديقي ، ولكن القانون هو القانون ، والنظام هو النظام ، وأنا لا أستطيع أن أتخطاه أو أهدمه من أجل أي واحد كائنا من كان " .
وتساءل ماسترو هل سيشترك كل حيوانات السيرك حديثو الولادة في العرض الذي سيقدمه ؟ أليس هناك أي استثناءات " .
وهز مدير الحلبة رأسه وهو يقول :
ـ " إن الأسود الصغيرة ( الأشبال ) ستكون بجانب العرض . والمهران اللذان أنجبتهما فرس السيرك واللذان لم يبلغا السن التي يؤهلهما للمشاركة في العرض أرسلا إلى حظيرة للتدريب . حتى الفيل الصغير ابن جامبو العملاق سيقوم بعمل ما .
وجامبو هذا كان فيلا ضخما وواحدا من أبرز نجوم العرض . إنه من أرقى الأفيال تدريبا في القطر كله ، وكان من الضخامة بحيث كانت الأرض تهتز تحت قدميه إذا ما مشى في العرض . ولم يكن هناك من يستطيع أن يركبه لأنه كان يهزه بقوة وهو يتمايل من جانب إلى آخر .
فمن المستحيل كذلك أن يستقر أي إنسان على أعلى قمة رأسه .
وتساءل ماسترو من جديد :
ـ " وما الذي سيؤديه الفيل الصغير … أعني ابن جامبو ؟ " .
أجاب مدير الحلبة إنه سيحمل أعمدة الخيمة ، وسيمشي كذلك في الاستعراض .
حينئذ خطر لماسترو فكرة :
ـ " على الرغم من كل ذلك قد تستطيع تريكسيا السفر مع السيرك في جولته " .
ثم فكر وفكر وحدث نفسه :
ـ " إذا كان ابن جامبو قادر على المشاركة في العمل فلماذا تعجز تريكسيا ؟ لابد أن يكون هناك شيء ما تؤديه غير الجلوس " .
وقال ماسترو بصوت مسموع :
ـ " أننا لم نغادر معسكرنا الشتوي قبل ثلاثة أيام فهل ستعيد النظر في قرارك وتسمح لتريسكيا بالسفر مع العرض إذا تمكنت من توفير عمل مهم لها قبل انتهاء هذه المدة ؟ " .
فأخذ مدير الحلبة يربت على ذقنه مفكرا ، لقد أحب الكلبة الصغيرة ، وقد أراد أن يمنحها كل فرصة مستطاعة لتصبح فردا من أفراد السيرك وأخذ يهز رأسه في بطء :
ـ " وهو كذلك أمامك ثلاثة أيام لتوجد عمل ما لتريكسيا ، ولكن لابد أن يكون عملا مفيدا … نعم إذا استطعت أن توفر لها مهمة ما تؤديها استطاعت أن تصحبنا في جولتنا " .
فهلل ماسترو من الفرح ، ونبحت استارلا وباوندر في سعادة ، وقهقه مدير الحلبة ، وتركهم وانصرف .
ولكن تريكسيا كانت جالسة : لم تتحرك … لم تنبح … كل الذي فعلته هو الجلوس … ولا شيء غير الجلوس .
وفي اليوم التالي بدأ ماسترو يبحث عن عمل تؤديه تريكسيا ، ولأنه طباخ السيرك علاوة على عمله الأصلي بدأ بالنظر في المطبخ بحثا عن مهمة تؤديها كلبته العزيزة ، ولا يسمح لأي فرد من أفراد السيرك أن يدخل المطبخ بعد أن يقدم ماسترو الوجبة اليومية الأخيرة.إن تناول الوجبات الزائدة ـ حتى لو كانت خفيفة ـ مخالف لقواعد السيرك ؛ فأفراد السيرك عليهم أن يراعوا وزنهم ويحافظوا عليه وهم إذا أكلوا أكثر من اللازم وبطريقة خاطئة فإن ملابسهم سرعان ما تضيق عليهم
وسأل ماسترو ـ بينه وبين نفسه ـ إذا ما كانت تريكسيا تصلح أن تكون كلب حراسة ممتاز هل ستنبح إذا ما تسلل أحد إلى المطبخ في المساء وماسترو ؟ هل ستذهب وتخيف كل من يحاول أن يمد يده في الظلام إلى الأطعمة والوجبات الخفيفة في المطبخ ؟ .
وبعد العشاء ـ الوجبة اليومية الأخيرة ـ قال ماسترو :
ـ " والآن يا تريكسيا تعرفين ما يجب عليك عمله : احرصي على المطبخ … انبحي إذا ما دخل أحد ومد يده لشطيرة من الطعام .إن هذا عمل مهم جدا … إذا ما نجحت في أدائه فإن مدير الحلبة سيسمح لك بالرحيل مع السيرك في جولته " .
وأخذ ماسترو يربت على ظهر تريكسيا ، ويداعب أذنيها بأصابعه ، وأغلق باب المطبخ لمقطورته لينام .
وعلى الفور كان جميع من في السيرك ـ على ما يبدو نائمين ـ ما عدا تريكسيا ، أو على الأقل كان هذا هو المفروض .
وفي منتصف الليل زحف اثنان من مهرجي السيرك إلى المطبخ لعمل ساندوتشات ، وكان من المفروض أن تنبح تريكسيا ، ولكنها لم تفعل ، كل ما فعلته هو الجلوس بعيدا إلى أن انتهى المهرجان من أكلهما .
وفي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل دخل بالع السيف ، وشرب جالونا من اللبن ، ومرة أخرى لم تنبح تريكسيا ، واكتفت بالجلوس والمشاهدة .
وبعد ذلك في الثانية صباحا دخلت السيدة البدينة المطبخ ، وجلست تريكسيا تراقبها وهي تلتهم فطيرة كاملة .
وفي الصباح التالي اكتشف ماسترو نقصا واضحا في الطعام المحفوظ بالثلاجة . واعترف المهرجان وبالع السيف والمرأة البدينة بأنهم دخلوا فعلا المطبخ ، والتهموا ما يشاءون .
حينئذ شعر ماسترو بحزن عميق إذ تأكد أن تريكسيا لا تصلح أن تكون كلب حراسة ، فكلاب الحراسة يجب أن تظل متنبهة وتنبح ، وكل ما فعلته تريكسيا هو الجلوس ، ولا شيء غيره ، ومن ثم لن تستطيع السفر مع السيرك للقيام بدور كلب الحراسة . قال ماسترو وهو يرفع الكلبة الصغيرة بيديه ويمرر يده برفق على بطنها:
ـ " ماذا أفعل معك ؟ ... أنت كلبة صغيرة جميلة ، ولكن عليك أن تقومي بعمل ما ، إننا نسابق الزمن ، والزمن يسابقنا ، ولابد أن نجد شيئا ما لتؤديه " .
حينئذ تدخل جار ماسترو ـ البهلوان الذي يمشي على الحبل ـ وقال :
ـ " لماذا لا ترى إذا ما كان رولو (Rollo) المهرج يستطيع أن يستخدم تريكسيا الدور الذي يؤديه ... ربما وجد في تريكسيا كلبة مسلية تستطيع أن تضحك الجمهور " .
أجاب ماسترو :
ـ " إنها فكرة جيدة ، إن الذي يستطيع إضحاك الجمهور يستطيع أن يرافق السيرك في رحلته . أين رولو الان ؟ " .
قال جار ماسترو :
ـ " إنه في خيمة التدريب ... إن أغلب الممثلين والعاملين هناك ، إنهم يستعدون لتقديم البروفة الأخيرة للاستعراض الكبير أمام مدير الحلبة " .
وانطلق ماسترو ـ وتريكسيا بين ذراعيه ـ وعلى أثره كانت استارلا وباوندر اللذان عجزا عن مقاومة الرغبة في اتباعه ، واقتحم ماسترو الخيمة ، ووراءه مباشرة الوالدان استارلا وباوندر . واتجه إلى رولو وتريكسيا ساكنة بين ذراعيه ، وحينما كان ماسترو يتحدث إلى المهرج بشأن تريكسيا كان باوندر واستارلا مستلقيين بالقرب من جدار الخيمة يراقبان في لهفة وتطلع .
قال ماسترو :
ـ " إنها كلبة صغيرة ممتازة ، هل تستطيع أن تستعين بها في الدور الذي تقدمه ؟ " .
رد المهرج ذو المظهر المضحك قائلا :
ـ " ربما ... أن تستطيع أن تحضر العصا معها " .
وتم الحوار على النهج الأتي :
ـ " لا "
ـ " هل تستطيع أن تتقلب وتتدحرج ، وتتظاهر بالموت ؟ ".
ـ " لا " .
ـ " هل تستجيب لي وتنبح إذا طلبت منها ذلك ؟ " .
ـ " لا " .
واستبدت الحيرة بالمهرج كيف يستعين في أداء دوره بكلبة عاجزة عن القيام بأي عمل ؟
فما الذي ستؤديه هذه الكلبة إذن .
فابتسم ماسترو ابتسامة المرتبك الخجلان وهو يغمغم :
ـ " إنها بارعة في الجلوس ساكنة صامتة " .
وضحك رولو واستمر يضحك حتى كاد جنباه ينفجران من الضحك ، لقد اعتقد أن ماسترو يداعبه بنكتة وقال :
ـ " ليس هناك في دوري مكان لكلبة بارعة فقط في الجلوس الهادئ الساكن
وفي حزن عميق ألقى باوندر نظرة سريعة على استارلا . إن كلبهما يعلم أن هذه هي النهاية بالنسبة لتريكسيا . لقد حاول ماسترو أن يعمل أقصى ما يستطيع ، ولكنه أخفق ، والآن لن يسمح لتريكسيا بالرحيل مع السرك .
وبينما كان ماسترو يتجه نحو باب الخروج مر بكابتن جونس ( Captain Jones ) مدرب الفيل . وبجانب الكابتن جونس كان هناك أفياله الخمسة الضخمة ومعها الفيل الصغير ابن جامبو الفيل العملاق ، وكلها تنتظر لتسير في تدريب الاستعراض ، وجلست فتيات جميلات على رءوس أربعة من الأفيال ، وجلست صغرى بنات كابتن جونس على رأس الفيل الصغير .
أما جامبو الفيل الضخم الذي يسير في المقدمة دائما فهو الوحيد الذي لم يكن هناك من يستطيع الجلوس على راسه كائنا من كان .
ونظر ماسترو نظرة خاطفة إلى جامبو ، وجينئذ صاح بأعلى صوته لقد وجدتها ... الآن أعرف ما الذي تستطيع تريكسيا أن تؤديه .
ومشى ماسترو إلى كابتن جونس وهمس بكلمات في أذنه وحاول باوندر واستارلا أن يسمعا ما قال ولكنهما لم يستطيعا ، ونظر كابتن جونس إلى تريكسيا ، وابتسم وهز رأسه ... وبعد عدة دقائق دخل مدير الحلبة الخيمة الكبيرة وقال :
ـ " هيا بنا نقدم عرض الافتتاح ، فلتبدأ الموسيقى ، ولنبدأ العرض ... كابتن جونس يقدم جامبو " .
وعزفت الموسيقى وصار الاستعراض على أهبة البدء ، ورفعت ستائر الخيمة ، ودخل كابتن جونس وهو يقود جامبو .
ونظرت استارلا إلى باوندر وبادلها باوندر النظر وأخذا يحدقان في جامبو في ذهول ، ولم يصدق الكلبان عيونهما إلا بصعوبة بالغة ، فهناك على قمة رأس جامبو الفيل العملاق كانت تريكسيا تركب ... جلست في شموخ وكبرياء ساكنة صامتة كأنها تمثال وجامبو يطوف بدائرة الخيمة .
وصاح مدير الحلبة :
ـ " عظيم عجيب مدهش ، إنه لشيء مذهل . تريكسيا سترحل مع السيرك كفرد من أفراد العرض وصفق ماسترو بحماسة حينما مر به جامبو وتريكسيا ، وصفق كل من في السيرك ، ولمحت استارلا وباوندر في سعادة ولكن تريكسيا لم تنبح ولم تتحرك وكل ما فعلته هو الجلوس في صمت وسكينة .
وهكذا استطاعت الكلبة الصغيرة بنية اللون ذهبية الشعر ذات الأذنين المتدليتين ... استطاعت أن ترحل مع السيرك في جولته الطويلة لتشترك في عرضه العظيم.