أليف شافاق
حليب أسود – الحلقة الثانية
أحمد العلي
جدّتي لأُمّي امرأةٌ لطيفةٌ و قُدسيّةٌ، و غفيرةٌ بالخُرافات. بعد أسابيع من مشاهدتها بكائي المتواصل، وضعَت كفّي بينَ كفّيها و هَمَسَت بصوتٍ أنعم من المخمل: طفلتي العزيزة، عليكِ أن تستجمعي قواكِ. ألستِ تعرفين بأنّ كُلّ دمعةٍ تذرفها الأمُّ الجديدة، تجعل من حليبها حامضاً أكثر؟.
لم أكُن أعرفُ ذلك.
وجدتُ نفسي أُفكّرُ في تلك الصورة؛ مالذي سيحدثُ لو أن حليبي صار خاثرا؟ هل سيصبح قاتما و يأخذ هيئة أكثر ثخانة و دُكنة؟. لم تقُم هذه الفكرة بتنبيهي أكثر، بل أشعرتني بالذنب. و كُلّما حاولتُ التوقف عن البكاء، كُلّما زادت رغبتي به. كَيفَ حدثَ أن كُلّ امرأةٍ عرفتُها قد تأقلَمَت مع الأمومة بسهولة، أمّا أنا فلم أستطع ذلك؟ أردتُ إرضاع طفلي من حليبي كأفضل ما أستطيعه، و لأطول فترةٍ ممكنة، لكنني لم أتمكن من ذلك. صورةُ إفسادي لحليبي استمرّت بإزعاجي في النهار، و بالهجوم عليّ حتى من داخل أحلامي.
بعدها، في أحد الصّباحات، بعد أشهُرٍ من الاكتئاب و التقوقع و محاولات العلاج الفاشلة، استيقظتُ مدفوعةً للكتابة مُجدّداً، و جلستُ إلى مكتبي. الهدوءُ وقتها يعُمُّ المكان، سوى أصوات مراكب صيدٍ بعيدة، و طفلتي تنام في مهدها الهزّاز. نسائمٌ من شذى الياسمين في الهواء، و السماء فوق مياه البوسفور شاحبة الزُّرقة حتى كادت أن تخلو من أيّ لون. و بغتةً انتابني ذاك الحِسُّ الباعثُ على ارتياحٍ عميقٍ بأنّ كُلّ شيء كان ولا يزال على مايرام. كما قال جلال الدين الرومي: الليل يُنجِبُ النّهار. نستطيعُ البدء بالحياة من جديد، في أيّ وقت، و أيّ مكان.
لا بأس، ذُعرتُ و لم أتوقف عن البكاء. لا بأس، خفتُ و ما كان بيدي أن اكتُبَ و أمارس الأمومة في نفس الوقت. لم يكُن حليبي أبيضا كالثّلج، لا بأس في ذلك أيضاً. ربما أقدرُ، لو بدأت الكتابة عن تجربتي هذه، أن أجعلَ من حليبي المسوَدّ، حِبراً. فللكتابة دوماً تأثيرٌ ساحرٌ يُشفي روحي، أقدرُ أن أشُقّ طريقي خارجةً من هذا الاكتئاب.
في ذاك اليوم تحديداً، وضعتُ طفلتي في عربتها و دفعتُ بها خارجةً من المنزل إلى هدير الشّوارع. كنتُ حَذِرَةً في البدء، ثم أكثر جُرأة، حتى رُحتُ أسألُ من أصادفهن من النساء عن تجاربهن مع اكتئاب ما بعد الولادة. فوجئتُ أنّ الكثيرات منهن قد مررنَ باضطراباتٍ عاطفيّةٍ مُشابهةٍ لتلك التي مررتُ بها. لماذا لم نعرف أكثر عن ذلك؟ لطالما قيل لي أن النساء يقفزن من السّعادة فورَ أن يحملنَ مولودَهُنّ بين أذرعتهن. لم يقُل أحدٌ أنهن، أثناء قفزهن فرحا، قد تصطدم رؤوسهن بالسّقف، و يُمسينَ دائخاتٍ بعضَ الوَقت.
أثناء كتابتي لكتابي هذا (حليبٌ أسوَد)، أجريتُ مُحادثاتٍ عديدةٍ مع نساءٍ من كُلّ الأعمار و الأصناف. ببطءٍ و ثبات، حلّ الهدوء عليّ و عرفتُ أنني لستُ وحدي. أعانَني ذلك كثيراً. يبدو مُضحكا أن تقومَ فتاةٌ أمضَت حياتها تفخرُ بقدرتها على العيش وحيدةً بالبحث عن السّلوى و العزاء عند ما لا يُحصى من الناس. لكنني، مع ذلك، اخترتُ ألّا أغرق في ذاك البحث، فالحقيقة بسيطة: اكتئابُ ما بعد الولادة شائعٌ جدا، أكثر مما نريد أن نُصَدّقهُ نحنُ كمُجتمع.
من المُثير أنّ النساء قد خَبروا ذلك في الأيّام الخوالي. جَدّاتُ جَدّاتنا كُنّ على عِلمٍ بكُلّ اضطرابات ما بعد الولادة، و لذلك أفضلُ تدبيراً لها. و قد نَقَلنَ معرفتهن لبناتهن و حفيداتهن. بيد أننا اليوم مبتعدون عن الماضي، حتى أننا لا نملك مدخلاً لحكمتهن تلك. فنحنُ النساء العصريّات، عندما يُصيبُ دواخلنا العطب و العياء، نُخفي علاماتهما و أعراضهما بأحدث تقنيّات التجميل. نَظُنُّ أنّ بإمكاننا الولادة اليوم و المُضيّ في حياتنا بشكلٍ طبيعيٍّ غدا. البعضُ مِنّا يستطعن ذلك بالطبع. المشكلة أن بعضنا الآخر، ببساطةٍ، لا يستطعن ذلك. الكبيراتُ في السّن، في تركيا، يؤمِنّ بأنّ على الأُم الجديدة، خلال الأربعين يوماً الأولى من ولادتها، أن تبقى في حفاوة و رفقة مَن تُحبهم. فهي، إن تُركَت لوحدها و لو للحظةٍ واحدة، فستكون فريسة هجمات الجن- تغرقُ ضحيّةً لطوفان الهموم و القلق و المخاوف. لهذا تقومُ العوائل التقليدية حتى الآن بتزيين فِراش حَديثَةِ الوِلادة بشرائط قُرمزيّة، و ينثُرنَ بِذار الخشخاش المُقدّسة في أرجاء الغُرفة لطردِ أيّ روحٍ شريرةٍ تحومُ في الهواء.
لا أُحاولُ هُنا القول بأنّ علينا الاقتداء برُزمَةٍ من الخُرافات، أو أنّ على الرعاية الصحيّة أن تَصرفَ لحديثة الولادة حِبالَ زينةٍ مشكوكةٍ بفصوص الثوم، أو خُرَز العين الحافظة من الحسد التي تُعلّقُ على ستائر سرير المرأة الوالد. ما أقوله هو أنّ النساء في عصور ما قبل الحداثة، من خلال حكاياتهن القديمة عن المتزوجات و عاداتهن و معتقداتهن، مَيّزنَ حقيقةً لم نعُد نعرف كيف نُقِرُّ بها: تعبُرُ المرأةُ خلال حياتها بمراحل انتقالية صعبة، فالعبور من مرحلةٍ إلى أخرى ليس سهلاً كما قد يبدو؛ إذ تحتاج الكثير من المساعدة و الدّعم و النصيحة قبلَ أن تعودَ بأكملها للحياة في الزمن الحاضر مرّةً أخرى. وفيما هي تسيرُ من يومٍ إلى آخر، تُصارعُ و تواجه المشاكل و تتدبّرُ أمرها. تمُرُّ أوقاتٌ تتعثّر فيها آلَةُ جسدها و تنعطب. هذه هي الحكمة القديمة و البسيطة التي لا نُعيرها اهتماماً في سَعينا لنكون قويّات و ناجحات و دائماً في أَوْجِ كَمَالِنا.
شخصيّة السيّدة الركيكة، التي تضعُفُ و تحتاجُ الآخرين، ليسَت مشهورةً بين السيّدات و الشخصيّات النسائية الأخرى في جيلنا. لم يعُد أحدٌ يعرفُ أين رحلَت. إلّا أنّ هناك شائعاتٍ تقول بأنها منفيّة في جزيرةٍ في المحيطة الهادئ، أو في قريةٍ على مشارف جبال الهملايا. الجميعُ سَمِعَ بوجودها، لكن يُحَرّمُ النطق باسمها عالياً. عندما يأتي أحدٌ على سيرتها، في أماكن عملنا و مدارسنا و منازلنا، نخافُ العواقب. و رغم أنها ليست مُدرَجةً في قائمة أَشَدّ المطلوبين للعدالة في جهاز الإنتربول، إلّا أنه لا يرغبُ أحدٌ بأن تربطه بها أيّة علاقة.
لا شيء مما قلته يتنكّرُ للأمومة كَونها أعظم هدايا الحياة. إنها قالَبٌ يُعيدُ تشكيلَ طينة القلب، و يجعلُ الإنسانَ مُتناغماً مع إيقاع الكون. هناك سببٌ لتقول ما لا يُحصى من النساء بأنّ الأمومة هي أحسنُ ما جرى عليهن في الحياة. أتفقُ مع ذلك من أعماق قلبي.
غيرَ أنّ المرأة لا تصير أُمّا بمُجرّد الإنجاب. بل عليها أن تتعلّم الأمومة؛ إنها معرفةٌ، يأخُذُ استيعابُها عند البعض وقتا أطولَ من الآخرين. فهناك مَثيلاتي، مَن يجدن أنفسهن يرتعشن حتى العظام من هَول التجربة. لا أقولُ بأنّ الانتقال إلى مرحلة الأمومة أصعب على المُبدعين من غيرهم، إذ أنني رأيتُ نساء من جميع مشارب الحياة يخُضنَ كُلّ الذي مررتُ به، نفس الأغنية الكئيبة، و لو بدرجاتٍ متفاوتة. رُبما، أكثرنا قوّة و ثقة هُنّ في الحقيقة أكثرنا هشاشة. و من المثير أن هذا الدولاب النفسي قد يدورُ ببساطةٍ في الولادة الثانية أو الثالثة أو حتى السادسة، كما دارَ في الأولى تماماً.
الحواملُ، برغم كل شيء، مثل نُدَف الثّلج؛ لا تتشابه اثنتان منها تماماً.
الفصل الثاني: علامات
إنها الظهيرة في اسطنبول. تُقِلُّني باخرةٌ تُسَمّى (الغجرية) لأنها لا تُبحرُ و حسب، بل ترقص على المياه الزرقاء، مُقِلّةً الرُّكَاب بين المدينة و ما جاوَرَها من جُزُر. عُشّاقٌ في أوّل الحُب يسرقون القُبَل، و طُلّابُ مدارس يُضَيّعون حصصهم، و موظّفوا مكاتب يُطيلون استراحة الغداء، و فوتوغرافيون يُلقّمون كاميراتهم بالعدسات، و بَاعَةٌ يعرضون سلَعَهُم على ظهورهم ، و سائحون يسوحون. أُناسٌ من كُلّ مشارب الحياة، وجدوا أنفسهم، بأعجوبةٍ، على متن مركبٍ صغيرٍ، يميلُ بهم يُمنةً و يُسرةً، و كنت هناك، محشورةً بين امرأةٍ بدينةٍ و سيّدٍ أنيقٍ و متقدّمٍ في السّن بعضَ الشيء، مُتكوّمةً في زاويةٍ، و كتبي تجلسُ في حُضني، إذ بعدَ أن انتهيتُ من مقابلةٍ أجرتها معي مجلّةٌ أدبيّةٌ في إحدى الجُزُر، ها أنا في طريق عودتي، فتاةُ المدينة تذهبُ لمنزلها الآن، وحيدة.
بالكاد مرّ وقتٌ على مغادرة الباخرة ميناءها، حتى أدركتُ أنني نسيتُ دفتر أفكاري حيثُ أجريتُ المقابلة. فانتابني شعورٌ بالغَمّ؛ لماذا أتجوّل دوماً ناسيةً أشيائي هنا و هناك؟ مظلّات، و هواتف نقّالة، و رُقَعُ فيتامينات، و عُلَب مكياج، و مُرطّبات شفاه، و مشابك شعر، و قفّازات، إلى درجة أنني أنسى فطيرةً قد التهمتُ نصفها ثم وضعتها جانباً لبضعة دقائق، و أنسى في دورات المياه العامّة خواتمي الفضيّة بعد نزعها لأغسل يدي. و مَرّةً نسيتُ حَوضاً زُجاجيّاً تعيشُ فيه سلحفاتان، كان هديّة عيد ميلادي من صديقةٍ مقرّبة جدا مني. و لأنني لم أجرؤ على الاعتراف لها بأنني، في نفس اليوم الذي قدّمت فيه الهديّة، قد فقدتها، رُحتُ في الأسابيع الني تَلَت ذلك أبتكرُ قصصا عن السلاحف في كُلّ مرّةٍ تسألني فيها عن أحوالها.
أوه، إنّهم يُحسِنونَ الصُّنع، يلتهمون أعشابَ (شُجيرة مريم) خاصّتي، و يزدادون وزناً.
ثُمّ أكمَلتُ:
تَدرين، في أحد الأيّام، تسلّلَت إحدى السلحفاتين خارجَ الحَوض دون أن ألحظها. بحثتُ عنها في كل مكان و لم أجدها. و بعدها، عندما أشعلتُ ضوءَ القِراءة، ها هي ذي! تجلسُ مُرتاحة على المصباح، و ظلّها يرتمي على الجدار كوحشٍ هائل.
هكذا تابعتُ اختلاقَ مُغامراتٍ لتلك السلاحف حتى جاء ذاك اليوم. وَضَعَت صديقتي عيناها في عَينَيّ و طَلَبَت منّي أن أكُفّ عن ذلك. راحَ صوتُها يتضاءَلُ حتى صارَ هَمساً، و قالت أنها تريدُ أن تُصارحَني:
أُريدُ أن أُزيلَ هذا الأمرَ عن صدري. في البدء، عندما اشتريتُ السلاحف، راودتني شكوكٌ حادّةٌ حول قدرتك على الاعتناء بها. لكنك أثبتّي خطئي. أنتِ تُحسنين صُنعا معها. و لذا، أدينُ لكِ بهذا الاعتذار.
أُقسِمُ أنّ شَفَتَيّ و أجفاني قد يبست دون حراكٍ و لم أتنفس. و منذ تلك اللحظة تحديدا، توقّفت. لم أَعُد قادرةً على اختلاق مغامراتٍ عن السلاحف أكثر. و بعدها بعدّة أيّام، حانَ دَوري لأعترف لها بما حدث. أخبرتها بأنها لا تدين لي بأدنى اعتذار، و أنني أنا من يجب عليه أن يعتذر منها، ليس مرّةً، بل مرّتين؛ الأولى لإهمالي، و الثانية لخداعي لها. ثم رحت أروي لها كيف أن سلاحفها لم تصل بيتي أبدا.
قالت، بعد أن لبثَت صامتةً و صافنةً لوقتٍ طويلٍ و مُحرجٍ:
تَدرين، لقد راوَدَتني تلك الفكرة مرّة، عندما أخبرتِني أن السلاحف كانت تلتقط حُبيبات عبّاد الشمس من كفّك. خَطَرَ لي أنَ الأمر اختلطَ عليكِ بين السّلاحف و طيور الكناري!.
ارتحتُ عندما انفجرَت صديقتي ضاحكةً فانضممت إليها، و تندّرنا على تعابير وجهي عندما أكون مرتبكة. في الحقيقة، لم أهتم؛ فَفِي ما عَدَا الإحراج الحاصل من فقداني للهديّة، لم تجُرّني هذه الحادثة إلى أيّ شكلٍ من أشكال تأنيب الضمير أو النقد الذاتي. مالذي سيحدث لو كنت حريصةً أم مُهمِلة؟ ففي النهاية، كان المطلوب مني الاعتناء بسلاحف، لا أطفال.
و فجأةً ترتَجُّ الباخرة، كعملاقٍ يتمدّدُ بعد نومٍ طويل. فيعيشُ الرّكاب أثناء ذلك لحظاتٍ من الذعر؛ شفاهٌ ترتجفُ دون ارتياح، و الأكُفّ تطالُ كل ما يمكن التشبث به، فقد كانت تُبحرُ هناك في البعيد ناقلةٌ روسيّة، تُراكِمُ مَوجاً هائلاً في البحر يجري نحونا. نَحدُجُ النّاقلة و نرقبها حتى تختفي شيئا فشيئا. و فورَ أن يعود الماء لتموّجه الناعم، نُنهي صلواتنا و نُحلّ أحزمة الأمان و نغوص مُجَدّدا في الخمول.
لكنها أمورٌ أخرى تلك التي تشغل ذهني. فمنذ أدركتُ أن دفتري لم يعد بحوزتي، لم أفكّر بشيء سوى الكتابة. أظن أنني أميلُ إلى جعل حياتي أكثر تعقيداً دوماً. لو كانت عندي ورقة، لَمَا شعرتُ بهذه الحاجة المُلحّة لتدوين أفكاري، هذه اللحظة بالذات. و لكن لأنه ليست بحوزتي ورقة، فعليّ أن أكتب. نبشتُ بشراسةٍ حقيبتي و أفرغتُ كل ما بها في حضني، و رغم ذلك لم أجد حتى فاتورة أستطيع الكتابة على ظهرها.
لا أعرفُ لِمَ أشعُرُ بأنني أتآكل. في رأسي فكرة تطُنُّ ولا أستطيع معرفة كنهها إلّا بأن أستجليها بالكتابة. يحب الكثير من الناس، و منهم بالطبع كُتّاب و كاتبات، أن يُقلّبوا الأمور و يُفصّلوها قبل أن يخربشوها على الورقة. لكنني على العكس، إذا ما أردتُ معرفة الأفكار التي تخُضّ رأسي و فهمها، فعليّ أوّلا أن أرى ارتسامها على الورقة، أن أنظر إليها كالرسائل. أعرف أن فكرةً في رأسي الآن، بيد أنني أحتاج لورقةٍ و قلمٍ لأتبيّنها. و لهذا، أحتاجُ ورقةً في الحال.
أخذتُ نظرةً إلى يميني و أخرى إلى شمالي. لا يبدو أن المرأة الجالسة بجانبي بإمكانها مساعدتي. يظهر لي أن هناك أطنانا من التحف و الألعاب الرخيصة في أكياس التسوّق خاصّتها، لكنني أشك أن يكون من بينها دفترا واحدا. الآن، و قد أعطيتها بعضَ اهتمامي، رأيتُ كم هي يافعة و صغيرة، بَدَت لي في الخامسة والعشرين من عمرها، إلا أن وزنها الزائد يجعلها تبدو للوهلة الأولى أكبر بعشر أو خمس عشرة سنة. إنها ترتدي فستانا لازورديا ذو أكمام واسعة، و يأخذ بالانهمار منفوشا بدءا من خصرها. كأنها للتو خرجت من فيلم يعودُ لفترة الثلاثينيات الميلادية، و صَعَدَت معنا الباخرة في اسطنبول. شعرها المتموج بني داكن، مقصوص إلى أكتافها و مجدولٌ منذ وقتٍ قريب. زوجٌ من الأقراط الذهبية يتدلّى من أذنيها، و تمكن رؤية أظافر قدميها و قد طُلِيَت بالأحمر الفاقع من خلال الصندل الذي تحتذيه. و يبدو أنها لا تمانع أبدا مظهرها و أزرار فستانها على وشك الانفتاق. لقد تقبّلَت الحجم الهائل لنهديها كنِعمَة، و هكذا تقومٌ بعَرض صدرها بامتنانٍ لكُلّ البشر دون تفرقة. امرأةٌ فخورةٌ بأنوثتها، و كُلّما زاد تحلّيها بمميزات الإناث، كلما أظهَرَت قوّةً و جاذبيّةً نسويّةً هائلة.
هكذا، بالقرب من كل النساء المشعّات بهذا النوع من النسويّة، أشعر بأنني مغشوشة، أنني تمثيلٌ واهنٌ لجنسي. بالنسبة لها، تجيء الأنوثة كالطبيعة، كالتثاؤب أو العطاس، هكذا بلا تعب. أما أنا، فالأنوثة أمرٌ عليّ مراقبته و دراسته، عليّ أن أتعلمه و أُحاكيه، و رغم ذلك لا أستطيع أبدا احتواءه.