في غزنين
في غزنين
ترجمة: أبو الحسن الندوي
شعر:د. محمد إقبال
سافر محمد إقبال، على دعوة من ملك الأفغان الشهيد نادر شاه، عام 1933م إلى أفغانستان، ومرّ في طريقه على غزنين، عاصمة إسكندر الإسلام محمود الغزنوي؛ وزار قبر الشاعر الحكيم السنائي الغزنوي(1)، الذي يعتبره محمد إقبال أستاذاً له في الشعر والحكمة، وسلفاً بعد مولانا جلال الدين الرومي؛ وطاب له الوقت، وفاضت قريحته بشعر إسلامي حكيم؛ بث فيه أشواقه وآماله وآلامه، ونظر فيه إلى العالم المعاصر بعين حكيم شاعر، ومؤمن ثائر. وسجله تذكاراً لهذه الزيارة الممتعة التاريخية.
في غزنين
يشكو الشاعر العظيم، في مستهل هذه القصيدة، ضيق هذا الكون، ويذكر أنه مع سعته التي يوصف بها لا يسع لوعته وطموحه، ويلوم من يرى أن هذه الدنيا –برحابها الواسعة، وصحاريها المترامية، ومتعتها الفاتنة – لا تسع فرداً واحداً رزقه الله علو الهمة، وكبر النفس، وحرارة الحب، ويتهمه بسوء التقدير، وضيق التفكير.
ويقول في صراحة وثقة:
"إنّ من عرف نفسه وقيمته تحرر من هذا العالم المادي، وتمرد عليه؛ وذلك سر التوحيد الذي لا يزال الناس في غفلة عنه، وإنّ من تفتحت بصيرته، تجلى له الجمال الإلهي، فرآه في هذا الكون".
ويذكر هنا محمد إقبال أنه لا صراع بين العلم والمعرفة والحب، وإنما هو من تصوير المنتسبين إلى العلم، ومن ضعف تفكيرهم؛ فقد رأوا من ملكه الحب، المنافسَ للعلم والدين، وقسوا أو أسرعوا في الحكم عليه، ويقول:
"إن الاستغناء عن المادة وأصحابها، والحكومة ورجالها، هو الحصن الحصين الذي يعتصم به أصحاب النفوس الكبيرة الزكية، فلا سبيل إليهم، ولا سلطان عليهم للملوك والأغنياء".
ثم يقول، في دلال واعتداد:
"لا تحاول أيها الملَك الرفيع أن تقلدني في لوعتي وسكري، فتلك نعمة خص الله بها بني آدم، وحسبك الذكر والتسبيح والطواف، الذي جَبَلَ الله عليه الملائكة الكرام".
وهنا يقبل الشاعر إلى العالم الذي يعيش فيه، فينتقد الشرق والغرب، ويقول:
"لقد عرفتهما وعشت فيهما زماناً ولا ينبئك مثل خبير".
ثم يقص ما يعانيان من أزمة، وما يقاسيان من علة؛ فيصورهما تصويراً صادقاً دقيقاً، لا يستطيعه إلا من اختبر الشرق والغرب، ويقول:
"أما الشرق فقد توفر فيه الاستعداد، ولكن يعوزه الموجه والقيادة الرشيدة؛ وأما الغرب فقد أُتخم بالقوة والوسائل، ولكن حرم لذة الإيمان، وبرد اليقين".
ويتذكر العالم الإسلامي فيقول:
"لقد انقرض منه أولئك العماليق، الذين كانوا يتحدون الملوك، والأباطرة بأنفتهم، وكان في فقرهم وزهادتهم حتف للاستبداد".
ويتذكر العالم العربي فتحزنه الأوضاع الفاسدة هناك(2)؛ يحزنه عبث الملوك العرب، وأمرائهم، وزعمائهم ببلادهم العزيزة، والمقدسات الإسلامية، ووقوعهم في شباك الأجانب مرة بعد مرة، وانهماكهم في لذاتهم وشهواتهم، فتصدر منه كلمة قاسية لاذعة، لم يصدرها إلا الإيمان العميق، والحمية الإسلامية، فيقول:
"إن هؤلاء الشيوخ والأمراء لا يستغرب منهم أن يبيعوا جُبة أبي ذر، وكساء أويس القرني، ورداء فاطمة الزهراء(3)، وأعز المقدسات، في كأس يحتسونها، ولذة ينتهبونها".
ويقول:
"إن نفوذ الأجانب في جزيرة العرب والأقطار العربية، وسيطرتهم السياسية على كثير من أجزائها، حقيقة مؤلمة، يفزع لها كل مسلم، ويعتبرها كزلزلة الساعة ورجفة القيامة".
وتمثل بشطر بيت للحكيم السنائي –الذي وقف إقبال على قبره ونظم هذه القصيدة – قال عندما ملك التتار العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، وهددوا الحرمين الشريفين:
"لقد ملك التتار مركز الإسلام، والعرب- الذين كانت لهم الوصاية على العالم الإسلامي، وهم مسؤولون عنه – في نوم عميق لذيذ".
وينتقد الشاعر الحضارة العصرية، التي كان مصدرها أوروبا الثائرة الحائرة فيقول في تحليل عالم فيلسوف:
"إن الحياة الإنسانية لا تستقيم، ولا تتزن إلا إذا جمعت بين النفي والإثبات، بين الجحود بالزائف الباطل، وبين الإيمان بالحق الثابت؛ وتلك هي الكلمة الجامعة التي أصبحت شعار الإسلام، وعقيدته: لا إله إلا الله.
فالشطر الأول – الذي هو النفي – إنكار لجميع الآلهة الباطلة، من أصنام، ومادة، وسلطان؛ والشطر الثاني – الذي هو الإثبات – إقرار للحق الذي لا حق غيره.
ولقد قطعت أوروبا الشوط الأول بشجاعة وقوة، وأنكرت الوسائط بين الله وبين العبد؛ وثارت على الاحتكار الديني، الذي مثلته الكنيسة اللاتينية، في القرون الوسطى، وألح عليه رجال الدين والكهنوت؛ وثارت كذلك على الحكومات الجائرة المستبدة، فأحسنت؛ ولكن خذلها التوفيق في قطع الشوط الثاني الأخير، شوط الإثبات، والتقرير، والإيمان الجازم؛ والإنسان لا يعيش على النفي فقط، ولا يتكون المجتمع، ولا تقوم الحضارة على النفي وحده، فلذلك بقيت أوروبا –التي أخضعت العالم لعلمها، وتنظيمها، وسخرت الطبيعة لمقاصدها ومصالحها – حائرة مضطربة، تائهة لا تملك الإيمان، ولا تملك العاطفة، ولا تملك الغايات الصالحة، وأصبحت مهددة في الزمن الأخير بالانهيار أو الانتحار".
وهكذا لخص إقبال تاريخ أوروبا المدني، والفكري الطويل، في عبارة وجيزة، ومقطوعة شعرية، هي عصارة دراسة طويلة وتفكير عميق.
والشاعر غير متشائم في نظرته وحكمه، وهو غير يائس من مستقبل الشرق، فيقول:
"إن الشرق زاخر بالقوة والإنتاج وتبدو من هذا المحيط الهادي، موجة قوية تهز العالم، وتزلزل أوكار الفساد والاستبداد".
ويرجع الشاعر فينعى على الاستعمار، الذي يرزح تحته الشرق الإسلامي، والذي أثر في تفكيره ومشاعره، ففقد الشعور بالجمال، وأصبح لا يوثق بآرائه واتجاهاته، ويقول:
"إن المحكوم الرقيق لا يوثق بأحكامه، ولا يعتمد على استحسانه واستهجانه، وإنما الميزان هو الرجل الحر، والشعب الحر، الذي يعيش حراً، كريماً، مستقلاً بتفكيره وميوله، فإن الأحرار، هم وحدهم، أصحاب الفراسة الصادقة، والبصيرة النافذة؛ وإن رجل الساعة هو الذي شق بهمته الطريق إلى المستقبل، ولم يقتنع بالحاضر".
ويرجع إلى تأثير الثقافة الأوروبية في عقول الشباب الإسلامي –ومن أدرى به، فقد نشأ في أحضانها- فيقول:
"لقد نجح المربي الغربي، الذي برع وفاق في صناعة الزجاج، في مهمته، حتى استطاع أن يضعف الأمم التي عرفت بالنخوة والشكيمة والأنفة، فأصبحت شعوباً رخوة ناعمة، وأثر في الصخور والحجارة حتى أصبحت تسيل رقة، وفقدت صلابتها واستقامتها(4)؛ وبالعكس فقد ملكت الإكسير، الذي يحول الزجاج إلى حجارة صماء، لا تؤثر فيها السيول الجارفة والمعاول الهدامة.
لقد استطعتُ أن أقاوم الفراعنة، الذين ما زالوا مني بالمرصاد، بفضل اليد البيضاء(5)؛ التي أخفيها في أكمامي؛ ولا عجب، فإن الشرارة التي خلقت لتحرق غابة بأسرها، لا يتغلب عليها الحشيش والهشيم.
إن الحب يبعث في الرجل الاعتداد بالنفس، والاحتفاظ بالكرامة، ويمنع من الوقوف على أبواب الملوك، والخضوع للمادة والسلطان".
وهنا تأخذه الهزة، ويملكه حب النبي صلى الله عليه وسلم، والإعجاب بشخصيته المعجزة، ورسالته الخالدة –وهو الموضوع الذي لا يملك إقبال أمامه نفسه – فيقول:
"لا عجب إذا انقادت لي النجوم، وخضعت لي الأفلاك والكواكب؛ فقد ربطت نفسي بركاب سيد عظيم، لا يأفل نجمه، ولا يعثر جده؛ ذلك هو البصير بالسبل، خاتم الرسل، وإمام الكل، محمد صلى الله عليه وسلم، الذي وطأت قدمه الحصباء، فأصبحت إثمداً يكتحل به السعداء".
هنا يقف الشاعر ويقول:
"يمنعني الحياء من الشاعر الحكيم –السنائي الغزنوي –والأدب معه أن أسترسل في الكلام، وأطيل الموضوع، وإلا فأمامي مجال واسع من المعاني، والبحر زاخر بالدرر واللآلي".
الهوامش
(1) هو من كبار شعراء العهد الغزنوي، نشأ كشاعر غزل ومديح، ولقب بملك الشعراء في البلاط ثم جذبه التوفيق الإلهي. فعزف عن الدنيا ومدائح الملوك. وعكف على الشعر الوجداني ونظم الحقائق والمعارق الإلهية، توفي حوالي 525هـ.
(2) لا ينسى القارئ أن هذه القصيدة قيلت في عام 1933م.
(3) كنايات عن المقدسات والأشياء الحبيبة إلى نفوس المسلمين.
(4) يكني به إقبال عن تأثير الحضارة الأوروبية في أخلاق الشرقيين وما يتصلون به، بعد الثقافة الأوروبية، من الرقة والنعومة والفسولة.
(5) كناية عن الإيمان والاستغناء عن المادة.