فلسطين : نهاية أم بداية جديدة ؟!
ثمة مسوغ قوي اليوم للقول إن فلسطين قضية خاسرة ضائعة ، وفي الإمكان إيجاز المسوغ على النحو الآتي :
أولا : دولة إسرائيل الصهيونية ( لا اليهودية ) المسلحة بالقوة النووية هي الآن القوة العظمى بالشرق الأوسط ، وهي لذلك ليست مهتمة بالسلام وفق شروط يمكن أن يقبلها الفلسطينيون . وقد غسلت الدعاية الصهيونية عقول الغالبية الساحقة من مواطنيها اليهود ، وعليه هم ليسوا منفتحين لمناقشة عقلانية موضوعية حول حق الفلسطينيين في العدالة . وهذا يترك قادة إسرائيل يتابعون سياسة أخذ ( أو سرقة ) أكبر نصيب من الأرض الفلسطينية لتكون بأقل عدد من الفلسطينيين .
ثانيا : لأن القوى الكبرى في العالم لا تنوي استخدام قدرتها أو حتى لا تحاول دفع إسرائيل لوقف تحديها للقانون الدولي وتنكرها لحق الفلسطينيين المشروع في العدالة .
ثالثا : ليس لدى دول النظام العربي الفاسدة والمستبدة والمنقسمة أي اهتمام بمواجهة إسرائيل ، وهي لا تملك الإرادة لاستعمال إمكاناتها في الضغط على القوى الكبرى خاصة واشنطون لإجبار إسرائيل على أن تكون جادة في السلام على قاعدة العدالة للفلسطينيين والأمن للجميع .
رابعا : ليس لدى الفلسطينيين المحتلين والمضطهدين قيادة ذات مصداقية ( ولن تتغير هذه الحال ببساطة بتنحي عباس وإفساح السبيل ل" رئيس " آخر ) . باعث فكرة هذا المقال تحليل كتبه لموقع " الشبكة " طارق دانة أستاذ العلوم السياسية الفلسطيني وعنوان ورقته السياسية هو " الفساد في فلسطين " . وطارق دانة مساعد أستاذ في قسم العلوم السياسية بجامعة الخليل ( التي تأسست في 1971 كأول مؤسسة للتعليم الجامعي في فلسطين ) ، أما موقع" الشبكة " فأنشىء في 2009 ، وسجل في كاليفورنيا ، ويجمع صفوة الكتاب والمفكرين الفلسطينيين وألمعهم في العالم ، ويصف نفسه بأنه " مستودع للفكر بلا حدود أو قيود " يستهدف رسم تجربة الشعب الفلسطيني الذي ( الرسم ) " يستلزم توظيف أوسع طيف من الأفكار والتصورات لمناقشة السياسة والاستراتيجية " بقصد توصيل الأفكار والاستراتيجيات لحل الصراع الفلسطيني _ الإسرائيلي ؛ للهيئات الفلسطينية والعربية وغيرها من الهيئات السياسية والجهات ذات الاهتمام بهذا الصراع في العالم . وتشير ورقة دانة السياسية ، وفق استطلاع رأي مُحْدث ، إلى أن 81 % من الفلسطينيين المحتلين والمغلوبين على أمرهم يعتقدون أن السلطة الفلسطينية فاسدة مفسدة ، ويقول دانة بعد ذلك موضحا حقيقة هذ الفساد : " لا يجب النظر إلى الفساد في مؤسسات السلطة الفلسطينية على أنه محض خطأ إداري ومالي اقترفه أناس عديمو المسئولية بدافع الطمع والمنافع الشخصية ؛ ففضائح الفساد التي تدور بين الفلسطينيين مناقشات حامية حولها بين الفينة والأخرى ، مثل اختلاس المال العام ، وإساءة استخدام الموارد ، والمحسوبية ؛ إنما هي نتاج فساد مترسخ مزمن في صميم بنية القوى التي تتحكم في النظام السياسي الفلسطيني ، وتجذرت في منظمة التحرير الفلسطينية قبل عملية أوسلو" . ولو قدر لي محاورة دانة لسألته : أليس معنى هذا أن السلطة غدت شبيهة تماما بكل الحكومات العربية ؟ وأحسبه سيجيبني ب " نعم ".
وأعرف من أحاديث قديمة أن عرفات والآباء المؤسسين لفتح ومنظمة التحرير الحقيقية ما أرادوا لهذا الفساد أن يقع ، وأرادوا حقا أن تكون دولتهم ديمقراطية ( وهو أحد الأسباب التي جعلت الأنظمة العربية تتخوف من منظمة التحرير الحقيقية ، بل تمقتها ) . وأذكر على سبيل المثال ما قاله لي يوما خالد الحسن ، وهو من الآباء المؤسسين لفتح ، وعملاقها اليميني المثقف : " لا مفر لنا من أن نكون ديمقراطيين ، سنفشل إذا صرنا مجرد نظام عربي آخر " . ويبدي دانة أيضا الملاحظة الآتية : " كان الفساد عاملا كبيرا في عجز الحركة الفلسطينية عن بلوغ أهدافها ، وهو الآن يخدم أهداف الاحتلال الإسرائيلي " . وتعبيري عن هذه الحالة أن الفساد ساعد السلطة الفلسطينية على أن تكون بإهمالها متعاونا صهيونيا فعالا ، وهذا ما استخلصه دانة _ وأنا أؤمن على صحة استخلاصه _ حين يقول : " سيبقى الفساد مقيما مزمنا في السلطة طالما لم يبدأ الفلسطينيون أنفسهم إعادة بناء مؤسساتهم الوطنية وفق مبادىء المحاسبة الديمقراطية ومعاييرها كجزء من استراتيجية أوسع لمتابعة تقرير مصيرهم ونيل حقوقهم الوطنية بم فيها حقهم في الانعتاق من الاحتلال " . ووجد هذا النداء لإعادة بناء المؤسسات صداه عند أسامة خليل _ وهو مؤسس مشارك في "الشبكة " ، ومساعد أستاذ في تاريخ الولايات المتحدة في العالم في جامعة سيراكيوز _ في مارس / آذار 2013 ؛ ففي ورقة بحث عوانها : " من أنتم ؟ منظمة التحرير الفلسطينية وحدود التمثيل " انتهى فيها _ وأؤمن على ما انتهى إليه _ إلى ما يلي : " إذا أراد الفلسطينيون كيانا تمثيليا ، ووحدة وطنية ، ونهاية لخلافات الفصائل ، ولقيادتهم الفاسدة غير الشرعية فعليهم بناء حركتهم من البداية ، وطرح القيادة القديمة جانبا ، والكف عن إجلالها هي وزعمائها بصرف النظر عن أصولهم الثورية المحاطة بهالة البلاغة ، وعن ألقابهم ورمزيتهم والصلات العاطفية بهم . إن ماضي الفلسطينيين الفاشل ينبغي أن يستحثهم إلى تصور مستقبل مغاير، والعمل من أجله وإلا فالأمل ضعيف في إيجاد استراتيجية ناجحة أو وسيلة لنيل الحقوق الفلسطينية " . ومع تسليمنا بما يقوله خليل من أن هدف التحرير الفلسطيني " انتهى بالفشل " إلا أن الفهم التام لذلك الفشل يجب أن يأخذ في الحسبان حقيقتين على جانب عالٍ من الأهمية . أولاهما أن عرفات غامر بكل شيء ، بمصداقيته أمام زملائه في القيادة ، وبحياته ، ليمهد الأرض على الجانب الفلسطيني للسلام وفق شروط يمكن أن تقبلها أي حكومة إسرائيلية عاقلة برحابة صدر ( رد إسرائيل كان غزو لبنان وصولا إلى بيروت بهدف تصفية كامل قيادة منظمة التحرير ، وتدمير بنيتها التحتية ) . ولو أيدت القوى الكبرى بقيادة الولايات المتحدة عرفات بعدما أمن الدعم اللازم لسياسته ومال إلى تسوية لم تخطر على بال من قبل ، وفق حل الدولتين ، لحل السلام في المنطقة إذا كان قادة إسرائيل يرغبون فيه . والحقيقة الثانية أن الشعب الفلسطيني المحتل والمقموع لم يفشل . لقد كانت سياسة إسرائيل تستهدف تحويل حياته إلى جحيم على أمل أن يتخلى عن نضاله ، أو يخضع للشروط الصهيونية ، أو _ وهو ما تفضله إسرائيل _ يحزم حقائبه ويبدأ حياة جديدة في الدول العربية وغيرها من البلدان . وهكذا ، كان صمود الفلسطينيين المحتلين المضطهدين _ لا قادتهم _ نجاحا لا فشلا . وفي رأيي أن عملية بناء منظمة تحرير فلسطينية جديدة " من البداية " يجب أن تبدأ بما دافعت عنه سنوات ، وهو حل السلطة وإعادة كامل المسئولية عن احتلال الضفة الغربية لإسرائيل . ومثلما بينت في مقالات ماضية ، ستفرض الإعادة على إسرائيل أعباء اقتصادية وأمنية ، وغير اقتصادية وأمنية جسيمة ، ولكن مع المسئولية الكاملة تكون المحاسبة الكاملة . كيف سيفيد ذلك الفلسطينيين ؟ سيفيدهم في فضح عنصرية إسرائيل واضطهادها لهم ، ومواصلتها الاستيطان في الضفة الغربية ( وتطهيرها العرقي الذي يتم في بطء وخلسة ) أمام العالم ، وتعريتها تعرية كاملة ، وسيحرك هذا الرأي العام فيه للضغط على الحكومات لاستعمال إمكاناتها لدفع إسرائيل ( أو محاولة دفعها ) لتنهي تحديها للقانون الدولي وتنكرها لحق الفلسطينيين في العدالة . وأفترض أن إسرائيل ستمنع الفلسطينيين الواقعين تحت سيطرتها من العمل لإعادة بناء حركة تحررهم على أسس ديمقراطية ، ومن ثم يأتي السؤال الكبير : كيف تتم عملية إعادة البناء ؟ في رأيي أنها لن تتم إلا إذا تم تعزيز صمود الفلسطينيين المحتلين والمظلومين الذي لا يصدق ، والذي يقارب أن يكون من أفعال الخارقين للمعتاد ؛ تعزيزا عمليا منسقا من جانب فلسطينيي الشتات . ودافعت في الماضي عن لزوم قيام فلسطينيي الشتات بدور ريادي في إحياء البرلمان الفلسطيني الموازي في المنفى الذي يسمى المجلس الوطني الفلسطيني ، وأن يجدد ويعاد تنشيطه عن طريق انتخابات لعضويته في كل بلد يعيش فيه الفلسطينيون ، ورأيت أثناء كتابتي لهذا المقال أن هذه الفكرة في حاجة إلى تعديل . وما زلت أعتقد أن الحاجة قائمة إلى مؤسسة جديدة ينتخبها الفلسطينيون أينما وجدوا يكون على رأس مهامها مناقشة السياسة الفلسطينية وتقريرها ، ومن ثم تمثيلها بصوت واحد إلا أنني أرى أن البرلمان لا يجب أن يصنف نفسه أو يقدمها بوصفه برلمانيا فلسطينيا في المنفى . والواقع أن ثمة لا معقولية في وجود برلمان لدولة غير موجودة . وإذا ما ظهرت مؤسسة منتخبة من الفلسطينيين بصفتها برلمان منفى فإن ممثليها من الأميركيين وأولئك الذي يعدون مقيميين ومواطنين في الدول الأخرى سيكونون معرضين لتهمة ازدواجية الولاء . والسؤال الكبير هو : هل هناك عدد كافٍ من الفلسطينيين الذين لديهم اهتمام كافٍ للانصراف لإعادة بناء مؤسساتهم الوطنية وفق المبادىء الديمقراطية ومعايير المحاسبة ؟ المسألة هنا ليست مسألة الموارد المالية نظرا لوجود عدد كبير من الأثرياء جدا بين فلسطينيي الشتات . المسألة مسألة إرادة ، فإن كان جواب السؤال ب " نعم " أمكن حدوث بداية جديدة لحركة التحرر الفلسطينية ، وإن كان ب " لا " فلا يمكن أن تحدث ولن تحدث . وعندها ، بعد أن يستنتج قادة إسرائيل أنهم لا يستطيعون إجبار الفلسطينيين المحتلين والمضطهدين على ترك نضالهم من أجل قدر معين من العدالة فأغلب الظن ان النهاية ستكون تطهيرا عرقيا صهيونيا لفلسطين . وإذا كتب لهذا المنكر الفاحش أن يحدث فأحسب أن مؤرخي المستقبل العدول المنصفين سيستنجون أن فلسطينيي الشتات شاركوا بإهمالهم وتقصيرهم في جريمة كبيرة في حق شعبهم .
*آلان هارت . موقع صحيفة ( في تي ) الأميركية .
وسوم: العدد 633