نهاية عاشق
كان الشاب إيتو تاتيواكي راجعا إلى بيته من سفرة إلى مدينة كيوتو . سار على قدميه وحيدا مطرقا لا يرفع نظره عن الأرض ، مثقل القلب بالهموم ، منشغل البال بالمهمة التي دفعته للسفر إلى كيوتو . ودهمه الليل في طريقه القفر الموحش الذي تنتشر فيه الصخور وتتناثر الحجارة ، وتنمو الزهور وفيرة نضرة ؛ فالفصل صيف . وكان يجوز بين حين وآخر بصنوبرة عقداء الجذع مائلة الفروع . وفجأة رفع بصره ، فلمح خيال امرأة يمشي قدامه ، هي صبية رقيقة العود تلبس ثوبا بسيطا أزرق من القطن ، تمشي رشيقة الخطو أول الليل الذي يتضاعف ظلمة . قال تاتيواكي لنفسه : " لاريب في أنها خادم لسيدة من السيدات . الطريق خالٍ والوقت موحش لمثل هذه الصبية " ، وما كان منه إلا أن غذ خطاه فأدركها ، وقال لها متلطفا : يا صبية ! لنكن رفيقي سفر ما دمنا نمشي في الطريق الخالي ! الشفق يختفي ، والليل يغشانا !
فالتفتت إليه بارقة العينين باسمة ، وقالت : سيدي ! ستفرح سيدتي فرحة كبيرة لرؤيتك !
قال : سيدتك ؟!
_ نعم ياسيدي ! أكيد أنها ستفرح لقدومك .
_ لقدومي ؟!
_ نعم . والصحيح أن غيابك طال عليها إلا أنها لن تفكر فيه بعد اليوم .
_ لن تفكر فيه ؟!
وسار معها كأنه يحلم . وبلغا بعد قليل بيتا صغيرا دانيا من جانب الطريق أمامه حديقة يتخللها جدول فوقه جسر حجري ، ويحيط بالبيت سياج من نبات البوص فيه باب صغير .
قالت الخادم : هذا مسكن سيدتي .
ودخلا الحديقة من الباب الصغير ، ولما وصلا عتبة البيت رأى سيدة تنتظره فوقها .
قالت : أخيرا جئت يا سيدي لتريحني !
قال : هأنذا جئت .
وما قال عبارته حتى أحس بأنه أحبها منذ أن عرف الإنسان الحب ، وتمتم : حبيبتي ! حبيبتي ! الوقت لا يلائم مثلينا !
وقادته من يده إلى البيت ، وأدخلته حجرة فيها حُصُر بيض ، ولها نافذة ذات شبك أمامها سوسنة في إناء ماء ، وهناك أخذا يتجاذبان أطراف الحديث ، وبعد وقت يسير دخلت عليهما عجوز حاملة شراب الساكي في قنينة فضية كبيرة ، وأكوابا من الفضة ، وكل ما يلزم في مثل هذه الحالة . فشرب تاكيواكي في صحبتها ثلاث مرات ، وبعدئذ قالت : هلم يا حبيبي نخرج إلى نور البدر ! الليل في اخضرار الزمرد !
فخرجا مخلفين البيت والحديقة ، وما أن أوصدا باب السياج الصغير حتى اضمحل البيت والحديقة والباب نفسه في غمام شفيف واختفى كل أثر لها كلها، فصاح تاتيواكي : ويلاه ! ما هذا ؟!
فقالت مبتسمة : دعها يا حبيبي ! ليس لنا بها حاجة الآن .
وألفى نفسه معها في القفر وقد استطال نبات السوسن صانعا حلقة حولهما، فباتا الليل ساهرين لا يتلامسان ، ينظر كل واحد منهما في عيني الآخر نظرات ثابتة لا تريم . وحالما أشرق الفجر تحركت وتنهدت من القلب ، فسأل : لم تتنهدين يا سيدتي ؟!
فحلت حزامها الذهبي المصنوع على صورة ثعبان صافي العينين ، ولفته لفات تسعا حول ذراعه ، وقالت : سنفترق يا حبيبي سنين تسعا نلتقي بعدها ثانية .
ومست اللفات التسع ، فصاح عالي الصوت : من أنت يا حبيبتي ؟! ما اسمك ؟!
فقالت : ما نفع الأسماء لنا يا حبيبي ؟! أنا ماضية إلى أهلي في السهول ، لا تبحث عني فيها ! ارتقبني فحسب !
وبعد ما قالته اضمحلت شيئا فشيئا حتى استحالت أثيرا غماميا ، فهوى تاتيواكي أرضا وبسط يده ليمسك بكمها دون فائدة ، وبردت يده ولبث ساكنا سكون ميت في عتمة الفجر، ونهض حين طلعت الشمس ، وقال : في السهول ، في السهول الخفيضة ، هنالك سأجدها .
واندفع منحدرا إلى السهول والحزام حول ذراعه ، فوصل النهر العريض ، ووجد الناس على ضفافه الخضر ، ورأى فوقه مراكب أزهار نضرة مثل القرنفل وزهرة الجريس وإكليلية المروج ، وأهاب به الناس : ابقَ معنا ! البارحة كانت ليلة الأرواح . نزلت إلى الأرض ، وجالت حيثما شاءت . حملتها لينات الرياح ، وسترجع اليوم إلى يومي . مراكبها الزهرية في النهر . ابق معنا ، وادعُ لها بالسرعة في سيرها !
فصاح : ليكن طريقها سهلا ميسرا ! لا أستطيع البقاء معكم .
ومضى إلى السهول ، لكنه لم يجد حبيبته ، لم يجد سوى القفر بقبوره العتيقة التي تكاثفت فوقها الأشواك والأعشاب الخضر المتماوجة . ورجع إلى موطنه ، وعاش وحيدا سنوات تسعا محروما من سعادة الأسرة والأولاد . توجع : آه يا حبيبتي ! أنتظرك جزعا ، لا تتأخري يا حبيبتي !
وبعد السنين التسع كان في حديقته ليلة الأرواح ، ونظر فرأى امرأة قادمة نحوه في مسالك الحديقة رشيقة الخطو . كانت صبية رقيقة العود تلبس ثوبا قطنيا بسيطا أزرق ، فوقف وقال متلطفا : لنكن رفيقي سفر ما دمنا نسير في الطريق الخالي ! الشفق يختفي ، والليل يغشانا .
فالتفتت إليه بارقة العينين باسمة ، وقالت : ستفرح بك سيدتي فرحة كبيرة .
فقال : ستفرح بي ؟!
_ طال غيابك عنها كثيرا .
_ كان طويلا موحشا .
_ لكنك لن تفكر بعد اليوم فيه .
_ خذيني إلى سيدتي ! قوديني ! ما عدت أرى . أمسكيني ! أطرافي تخلت عني . لا تبتعدي يا معينتي ! خائف . خذيني إلى سيدتك !
وعثر عليه خدمه في الصباح باردا ميتا في ظل شجر الحديقة .
*من الحكايات اليابانية .
*للأميركية جريس جيمس .
وسوم: العدد 681