أين الحقيقة (مونودراما)
أين الحقيقة (مونودراما)
جوتيار تمر
" هدوء فظيع .. خشبة غارقة في وحل ظلامها … شخص متمدد على أريكة متآكلة… لا حركة .. لا صوت .. لا همس … فقط الظلام ، الصمت، اللاشيء … بقعة ضوء صغيرة تسلط على وجه الشخص، تتحرك رموشه ببطء.. ثم يتحرك جفناه، وتبدأ عيناه بالانفتاح .. حركة عينيه بطيئة جداً ..صوت ريح .. بكاء طفل .. هواجس. أفكار .. ترتعش يداه .. يتقلب .. صوت العاصفة .. صراع عنيف صراخ عميق .. يهتز على نبراته ذات الآلهة .. وتهتز لأنين ذاتها العقول المتآكلة" .
الشخص : تباً .. تباً .. تباً لك يا حياة حتى في نومي ، في وحدتي وعزلتي .. ما عدت تتركينني.. إلا يكفيك ما تفعلينه بي وأنا أنبش بمخالبي الصخر..
لا عيش .؟ ألا يكفيك كل همومي وآلامي وتفكيري اللامنتهي.. ألا يكفيك الرعب المغروس في أعماقنا قبل أن نعي ما أنت..؟
ألا يكفيك كل ذلك.. لتأتي وتسلبي مني المزيد..؟ قبل الأمس أخذت القدماء، وزينت بهم جبهتك.. والحاضرين بالأمس صاروا لا شيء اليوم .. تتباهين بجبروتك وقوتك بأخذهم، وها أنت الآن .. تحومين حولي وكأنه لم يكفك كل من أخذتيهم..؟
لكن يا حياة أفعلاً عازمة أنت على أخذي ..؟ افعلي إن شئت لكنك لن تفعلي .. أتعلمين لماذا..؟ ليس لأنك لا تريدين.. لا.. إنما فقط لأنك لست إلا قدرا آخر .. مجرد قدر من الأقدار اللامتناهية.. لا سلطة لك إلا على الضعفاء.. تغرقينهم بوحل جراحهم وأحزانهم.. ويا لها من أقدار .. قسرية
ويالك أنت أيضاً من مسكينة .
لا بأس يا حياة … لا بأس بها من أقدار .. لكن ألا تظنين بأنها لن تكون النهاية وأن أحكامها لن تلقى القبول من الجميع ..؟ فها أنا أرفضها .. وها أنا ألجأ إلى الظلمة.. العزلة .. اللا مبالاة.. لأني ما عدت يا حياة أتحمل تدخلك بأقداري وسرقتك للحظاتي .. فأنا لم أعرف لحظة أمان وأنا أعيش لحظاتك.. ولم أشعر لحظة بأني شيء وأنا أرى الأشلاء مبعثرة هنا وهناك باسم لا إنسانيتك الحديثة..! يا حياة .. فقط وحدها .. الظلمة..اللامبالاة.. العزلة يمكنها معالجة أقدارك..فاستمعي لرفضي .. وإياك أن تتدخلي في عالمي المتناهي ..القائم بذاته ..الذي لا دمار فيه، ولا حقد فيه إلا عليك .. ولا حتى هنا صحبة فيه ، عالم ذاتي .. حي بحياة أخرى يسمونها الحياة الميتة..حيث تتحرك أطرافك وتنبض أعماقك لكنك منعزل عن ما سواك ..!
لكن … ؟
(( صوت ريح .. بكاء طفل .. أضواء تمتزج ..ثم تستقر كل واحدة على زاوية من زوايا الخشبة .. ويبدأ هو يتحرك ببطء .. نحو زوايا الخشبة ثم ما يلبث أن تتسارع خطاه مع سرعة حركة الأضواء .. وكالمجنون يوقف ذلك الهراء بصراخه ))
الشخص :كفاك .. يا حياة كفاك .. عن هكذا لعب .. أهذه هي حقيقتك ؟ اللعب خلف الكواليس .. اخرجي إن كنتِ قادرة على خرق عالمي، اخرجي ودعيني أراها أوراقك العتيدة ..فهكذا لعب لا يجدي معي حتى وإن كانت الآلهة .. بذاتها من علمتك وفرضت عليك هذه الأقدار .
أقسم يا حياة بكل ما قد يغيظك مع آلهتك بأنها لعبة خاسرة لا تبعث غير السأم والسأم لا يجلب سوى التمرد .. الرفض. وهما ليسا إلا بداية لنهاية لعبتك . . افعلي ما شئت.. واصنعي ما بدا لك.. فأنا لست إلا رافضا عتيقا لكل ما هو منك ، ومن ممن لا يجيدون سوى اللعب خلف الكواليس .
سأعود للظلمة .. سأتفرغ منك ومنهم .. ستغدو في عالمك اللا حسي الشيئي لا شيء ولن يهمني مبتغاهم ورغباتك .. أعلم يا حياة بماذا تفكرين.؟ وأعلم ماذا ترغبين .. أعلم عنك ما تجهلين . وأجهل عنك ما تعرفين .. لكن بالرغم من ذلك .. فأنا رافض لحقيقتك هذه.. ولن أكون فريسة سهلة.. أقسم بالموت بأني سأصمد .
قديما يا حياة كانت الأمور كلها تسير حسب ما تشتهين.. كنت تظنين بأنه لن يأتي يوم تصعق فيها الأبواب الموصدة خلفك ؟
كنت تظنين بأن الآلهة لن تتخلى عنك طالما لاأحد يرد لها أمر ..! كنت تجهلين معنى السأم في أعماق الإنسان .. والعناد في صدر الطفل.. واللاجدوى من الاستمرار فيك.. لكن .. آن الأوان لتقرئي رسالتي الشخصية.. ولتعلنيها على من هم خلف الأبواب الموصدة يقررون.. لن أكون.. فريسة سهلة.. ولن أخضع لحقيقة مجهولة .. فافتحي علي أبواب غضبك.. ودعي الآلهة تصب جام مقتها علي .. لاشيء يهم نعم ما عاد يهم شيء مادمت اخترت طريقي.. وآمنت بقناعاتي.. وسلكت الطريق الصعب للوصول إلى الحقيقة .
(( أصوات.. ريح.. بكاء خفي.. أنين طفولة مهجورة.. أضواء لاذعة.. حركة سريعة لكل شيء.. هيجان.. ثم هدوء واستقرار )).
الشخص: بسخرية لا مبالية يضحك..بالانتقام تفكرين.؟ لابأس..لكن لتكن المواجهة علنية فأنا أكثر ما أخشاه منك هو أن تباغتيني وأنا غارق في وحدتي وآثام ظلمتي.. وأن تحشري أقدارك في أقداري الذاتية.. وأن تفعلي بي مثلما فعلته قبل خوضنا لهذا الحوار..؟
ترى يا حياة من أطلعك على سر رحلتي القسرية إلى ضفاف النهر المذبوح.. الغارق بالفجيعة..لتأتي وتهدديني بفضح سري.. هل الآلهة نطقت وقررت ان تخرج من سباتها المعلن منذ أمد طويل..؟ لكن لماذا تفعل ذلك معي..؟
ترى من أفشى.. لك سري الوثني ذاك..لكن يا حياة.. أتعلمين بأني ما عدت أطيق حمله وحدي.. آن الأوان لا تفرغ منه.. فلا شيء عندي يمكنني أن أحجبه عن الناس.. لست أحب أن أظل غامضا.. مادمت بغموضي سأفتقد الحقيقة.. اسمعوني.. ولا تسأموا من حديثي..فها هو سري الوثني أريد أن أمنحكم فرصة التعرف عليه.
(( ريح قوية.. أصوات وصراخ.. وحركة إضاءة سريعة..))
الشخص: (( يسخر.. ويسخر.. ثم ما يلبث أن يتوقف لحظة.. وكأن مجهولا قد أفزعه.. يهدأ)) ويصرخ تبا..تبا.. لكل شيء..ثم يلتفت حوله..وكأن التعب قد استنفدمنه قواه..هل هذه أصول لعبتك الجديدة .؟ لعبة الانتقام المزعوم.. لابأس إذا سأقبل بالرغم من كل شيء أن أكون الخصم.. وإن شئت سأحدد الزمان والمكان اللذين لانملكهما..؟
لكن قبل ذلك علي أن أخفف وطأة أقدارك ..وأقدار ..الآلهة ..وأبوح بسري لتكفي أنت معها بالتسلط علي .
(( ظلام يخيم على الخشبة .. ثم ما يلبث أن يظهر وجه الشخص بتسليط الضوء عليه)).
الشخص : ذات يوم قديم .. يوم مجروح مليء بالأنين .. أغرتني الحياة وحلفت بآلهتها بأنها ستعلمني الحقيقة.. إن اتبعت أقدارها فخرق سمعي الميت الحي .. صوت ما ، واستقر في أعماق صدري كسهم ناري .. بدا لي في البداية كأنه صوت طبول وثنية أتت من أودية صحراوية لا تسكنها سوى العقارب والأفاعي .. فكان الصوت لاذعاً، حارقا،ًأظن بأن في علم واللاجدوى يسمون تلك الأودية .. بأودية الرغبة الجامحة.
لم أخضع لها في البداية لجأت إلى ظلمتي وعزلتي ولا مبالاتي.. لكن في ليلة شتوية .. عاد ذلك الصوت الوثني ليخرجني إلى حيث لا أعلم .. كان الصوت مليئاً بأشجان اللا إنسانية الحديثة .. صوت طفل مذبوح .. خضعت له دون إرادتي وسرت إلى مساره وكأنه صوت إله يسيرني إلى مبتغاه .. فجأة رأيت نفسي واقفاً على ضفاف النهار المذبوح حيث الظلام ممتزج بالأمواج.. وقد علاهما قرص ساعة قديمة توقفت عقاربها وتآكلت أطرافها.. وكأنها كانت جزءا من ممتلكات معبد وثني قديم مهجور .. !
خلف القرص يظهر بين اللحظة والأخرى وجه طفل محترق .. أخضعته الحياة لقوانينها ولم ترحم الآلهة ولا هي طفولته وبراءته..عيناه فقط.. كل ما تبقى من وجهه.. رأيت فيهما.. معنى الرفض .. والتمرد الحقيقي على كل شيء..التمرد على الحرقة .. على الظلام .. على الأمواج .. على الأقدار وعلى كل من يقف وراءها .. وحتى على الحقيقة المعلنة.
فأدركت حينها بأن الاستمرار في الحياة كنقيضة .. ولا شيء يستحق أن نستمر من أجله إن لم يكن الاقتناع به الشريعة الشخصية الباعثة لذلك .
وأدركت أن الفعل الذي يستند إلى أن هناك من يفعل .. وأن هناك من آمن.. فإنه مجرد فعل أعمى .. لا حقيقة له.
فتقبيل الحجر . ودوام المخلص .. وبقاء الحائط المهجور .. وجريان نهر الغانج.. ولحظات النرفانا كلها لن تكون شيئاً إن لم يكن الاقتناع بمبعثها أساس الفعل … يا حياة … هذا سري الوثني .. لقد أفرغت ذاتي منه .. فاستعدي لمواجهتي.
((الأضواء الأربعة الرئيسية .. تستقر كل واحدة منها على زاوية من زوايا الخشبة ويبدأ هو بالسير إليها بخطى منظمة))
الشخص : ((يصل إلى اللون الأول ، ما هذه الرائحة النتنة؟ أقسم بأنه لا شيء فيك يستحق الوقوف هنا)).
(يتجه نحو اللون الثاني) يقف قليلاً .. ثم يتراجع : في يوم ما كانت الحياة تتباهى بك.. لكنها الحياة نفسها عادت لتسلب منك كل شيء.. وخضعت لها … دون قرار…؟
(يتجه نحو اللون الأزرق ) إنك غامض.. وهناك المزيد مما لا نعرفه عنك.. فهل ستبقى هكذا إلى الأبد مستودعاً للغموض..وللأقدار المجهولة ..؟ لا شيء فيك يعرف سوى ما يقال..!
(يصل إلى اللون الأحمر) ما كان يعجبني فيك : هو أنك أتيت ثائراً متمرداً .. وإنك في الوهلة الأولى بدأت وكأنك حصيلة اقتناعات .. لكنك فيما بعد أصبحت جزءاً من لعبة القدر فتجاهلت وخضعت لقوانين تبدو أحيانا لا إنسانية..!
إذا.. لا شيء .. لا شيء سوى ……؟
(( يعود ببطء إلى أريكته المتآكلة الأضواء تبدأ بالاختفاء ضوء ضئيل يسلط على خطاه.. يصل . يتمدد .. يدخل إلى عالمه ويودع …))
لكن الصراع لم ينته … ومازال هناك من ينتظر .. الوصول إلى الحقيقة.