زُهْرَةُ بن حَوِيّةَ التَّميمي
عبد الله الطنطاوي
صوت أجش: إن زُهرة بن حويّة قائد عبقري، أثبت جدارة فائقة في قيادة الرجال خلال مدّة قصيرة من أعماله العسكرية، ولو طالت، لنافس في الشهرة المثنّى بن حارثة، وخالد بن الوليد.
فوزي: أهلاً بالشيخ الشهيد، الذي لم تمنعه شيخوخته من خوض الوغى، وتقديم حياته فداء لوحدة المسلمين.
فوزية: أهلاً بالشهيد الذي وقف قاتله فوق رأسه فرثاه بقوله:
صوت ضخم: لَرُبَّ يومٍ من أيام المسلمين قد حسن فيه بلاؤك، وعَظُمَ عَناؤك. ولرُبّ خيلٍ للمشركين قد هزمتَها، وسريّة لهم قد أغرتَها، وقريةٍ من قراهم جَمٍّ أهلُها، قد افتتحتَها.
فوزي: أهلاً بمن كان سيداً في الجاهلية، سيداً في الإسلام.
زهرة: أهلاً ومرحباً بكم يا أحباء رسول الله، يا من آمنتم به ولم تروه.
فوزية: هلاّ حدثتنا عن إسلامك يا سيدي المجاهد الشهيد؟
زهرة: حباً وكرامة..
مؤثرات: (موسيقى ناعمة).
زهرة: كان الرسول القائد صلى الله عليه وسلم، أرسل العلاء بن الحضرميّ بكتاب إلى المنذر العبدي، ملك البحرين، يدعوه فيه إلى الإسلام، فاستجاب المنذر لدعوة النبي الكريم، وأعلن إسلامه.
مؤثرات: موسيقى ناعمة حالمة.
زهرة: كان ذلك في السنة الهجرية السادسة، أي بُعيد انصراف الرسول القائد من الحديبية.
مؤثرات: موسيقى ناعمة.
زهرة: بعدها أوفدني المنذر على النبي الكريم، فأعلنت إسلامي أمامه، ومكثتُ في المدينة زمناً، أتعلّم أمور ديني، لأعود إلى بلدي (هَجَر) وأساعد المنذر في نشر الإسلام، وإدارة البحرين.
فوزي: ألم تقاتل تحت راية الرسول الكريم؟
زهرة: صلى الله عليه وسلم.. لا.. لم يحصل لي شرف الجهاد تحت لوائه.
فوزية: ولكنك، يا سيدي، نلتَ شرف الصحبة.
زهرة: وهو شرف عظيم أعتزّ به وأفاخر.
فوزية: ولكنك قاتلت في عدد من المعارك في سبيل الله، وبرزت قائداً ألمعياً، ومحارباً فذاً.
زهرة: لا تثر أشجاني يا ولدي، فالقتال في سبيل الله كان أكبر أمنية لي في حياتي، ولكن.. شاءت إرادة الله تعالى أن تحرمني من هذا الشرف العظيم.
فوزي: كيف حصل هذا يا سيدّي القائد؟
فوزية: ما رأيك يا أخي أن ندع هذا السؤال إلى آخر الجلسة؟
فوزي: أصبت يا أختاه.. نؤجل هذا السؤال الآن.
فوزي (لزهرة): عفواً يا سيدي.. نؤجّل السؤال..
زهرة (مبتسماً يجيب في رقة): كما تحب يا بني.. أنا معكم حتى تملّوا.
فوزية (متضاحكة): فإذا لم نملّ؟
زهرة (ضاحكاً): أكون معكم حتى مطلع الفجر.
مؤثرات: موسيقى حالمة.
فوزي: وبعد أن عدت إلى البحرين؟
زهرة: عملت مع الملك على نشر الإسلام في البحرين، فدخل البحرانيون في دين الله أفواجاً.
فوزية: و.. أيضاً؟..
زهرة (في حزن): ولكنّ كثيراً من هؤلاء الذين أعلنوا لنا إسلامهم، ارتدوا عن دين الله، بعد وفاة الرسول الكريم، وارتداد العديد من القبائل العربية.
الأخوان: لا حول ولا قوة إلا بالله.
زهرة: ولكنني ثبتُّ مع من ثبت على الإسلام من أهل البحرين، وقاومنا المرتدين، قاتلناهم حتى عادوا إلى الإسلام.
الأخوان: الحمد لله.
زهرة: الحق أني لا أعتزّ بشيء بعد إسلامي ونيلي شرف الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا بدوري في معركة القادسية.
فوزية: هذه المعركة التي عدّها أحد الباحثين في التاريخ العسكري، أحسم معركة في تاريخ العالم، منذ كان له تاريخ.
زهرة: هذا صحيح.. فبهذه المعركة انفتحت أبواب العراق وفارس للعرب القادمين برسالة الإسلام، وانفتح من وراء ذلك خط الشرق كله.
فوزي: فقامت دولة إسلامية محل الإمبراطورية الفارسية الساسانية المجوسية، التي شغلت تلك الرقعة الكبيرة عدة قرون. الأمر الذي جعل الفرس يحقدون على العرب المسلمين، وعلى أمير المؤمنين العظيم، عمر بن الخطاب الذي ثلّ عرش كسرى، وقضى على تلك الإمبراطورية المجوسية.
فوزية: وحلّ دين الإسلام ونور الإسلام وعدل الإسلام، محل المجوسية المخرّفة التي استذلت العقول والأذهان، وجلدت الأرواح بخزعبلاتها وترّهاتها.
زهرة: كنتُ قائداً للمقدمة في مسير الاقتراب من (شَراف) إلى القادسية.. تحركت بالمقدمة إلى (العُذيب) وعسكرت برجالي هناك، في انتظار وصول القائد العام سعد بن أبي وقاص، ثم أمرني سعد، بالتقدم إلى القادسية، فسبقته إليها.
فوزي: هل من ذكرى معينة في تقدّمك يا سيدي؟ طرفة، أو حادثة مميزة مثلاً؟
زهرة: نعم تذكرت.. كان في (العُذَيب) جندي فارسي، يبدو أنه جاء ليستطلع تحركاتنا، ولما رأى أرتالنا المتقدمة، ركض باتجاه القادسية، ليخبر الفرس عن وصولنا، وعما رأى من قواتنا.. حاولنا القبض عليه، ولكنه أفلت منا، فلحقت به وقتلته، وفي (العُذيب) وجدت رماحاً ونشاباً وأسفاطاً من جلود وغيرها، فوزعتها على رجالي، وانتفعوا بها، كما وزعت عليهم أموالاً كثيرة حصلت عليها سَريّةٌ كنت بعثتها للغارة على الحيرة، فانتعشوا من الناحية المالية والمادية.
فوزية: يقولون في أيامنا يا سيدي: الجيوش تمشي على بطونها، كما لابد من التسليح الجيد، لرفع المعنويات.
فوزي: ولابد من التدريب الجيد أيضاً.
زهرة: هذه مسلَّمات عندنا، ولكن الأهم من ذلك كله: الإيمان.. الإيمان بالله ورسوله، الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بقضاء الله وقدره.. الإيمان بما جاء في كتاب الله تعالى.. فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.. الإيمان هو الذي حقق لأجدادكم المعجزات، فتغلّبوا على جيوش تفضلهم عدداً وعُدداً أضعافاً مضاعفة.. الإيمان يا أولادي.. ازرعوا الإيمان في قلوب مقاتليكم، تنتصروا على عدوّكم.
فوزية: كلامك صحيح جداً يا سيدي.. أذكر أنني قرأت لباحث عسكري موضوعاً حول عوامل النصر الحاسمة في المعارك، فجعل للتدريب والأسلحة والأعتدة والذخائر خمساً وعشرين في المئة، وجعل للمعنويات في تحقيق النصر خمساً وسبعين في المئة.
زهرة: هذا كلام قائد عسكري، وليس مجرد باحث.
فوزي: نعم يا سيدي.. تابع سرد ذكرياتك أرجوك.
زهرة: وأيّ ذكريات.. إنها تعيدني إلى شبابي، لأنني عندما شاركت في معركة القادسية كنت شاباً مثلكم، وفي مثل حماستكم.
فوزي: لا يا سيدي لا.. نحن أموات إذا أردتم أن تقيسونا بكم..
فوزية: ولا تضحك مني يا سيدي عندما أقول لك: أحياناً أفكّر بأننا هُجَناء ولسنا عرباً خلَّصاً، ولسنا مؤمنين حق الإيمان.
زهرة (ضاحكاً): لا يا أبنائي.. لا.. أنتم عرب، وأنتم مسلمون، وإلا، فمن أين جاءتكم هذه الحميّة؟ من أين جاءتكم هذه النخوة؟ لقد ورثتموها من أجدادكم الصِّيد الميامين.. أنتم أحباء الله وأحباء رسوله صلى الله عليه وسلم.
الجميع: صلى الله عليه وسلم.
فوزية: وهؤلاء الذين يتاجرون بقضيتنا؟ هل هم عرب ومسلمون؟
زهرة: اعرضوهم على كتاب الله، وعلى سنة رسوله، تعرفوا من يكونون.
فوزي: دعنا، يا سيدي، في حديث الأمجاد.. حديث الجهاد..
زهرة: عندما كان سعد يحشد المسلمين في القادسية، كنت أقوم بحماية تحشُّد المسلمين، خوفاً من مباغتة الفرس.. وهكذا كانت طلائع الفرس تصطدم أولاً برجالي، واسمعوا هذه الطرفة التي حصلت معي.
الشقيقان: تفضل يا سيدي.
زهرة: ذات يوم، خرجت بعيداً عن المعسكر، فشاهدت رستم قائد الفرس في القادسية، جاء يستطلع معسكر المسلمين في القادسية، تقدمت منه، وسلّمت عليه، وأنا لا أعرفه، وهو لا يعرفني، فعرض رستم أن يصالح المسلمين ويجعل لهم جُعْلاً، على أن ينصرفوا إلى جزيرتهم، فقلت له: هات ما عندك، فأنا أسمع لك، فقال:
صوت ضخم: أنتم جيراننا، في الحيرة والمناطق المجاورة لها، والقبائل العربية القاطنة في البحرين وعُمان، التي كانت تخضع للإمبراطورية الفارسية.. لنا.. في بعض الأحيان.
فكنّا نُحسن جوارهم، ونكفّ الأذى عنهم، ونولّيهم المرافق الكثيرة، ونحفظهم في أهل باديتهم، فنرعيهم مراعينا، ونميرهم من بلادنا، ولا نمنعهم من التجارة في شيء من أرضنا، وقد كان لهم في ذلك معاش.
زهرة: فقلت له: صدقت، قد كان ما تذكر، وليس أمرُنا أمر أولئك، ولا طَلِبتُنا طَلِبَتهم.. إننا لم نأتكم لطلب الدنيا، إنما طَلِبتُنا وهمّتنا الآخرة، كنا كما ذكرت، يدين لكم من ورد عليكم منا، ويضرع إليكم بطلب ما في أيديكم، ثم بعث الله تبارك وتعالى إلينا رسولاً، فدعانا إلى ربه فأجبناه، فقال لنبيّه صلى الله عليه وسلم: إني قد سلّطت هذه الطائفة على من لم يَدن بديني، فأنا منتقم بهم منهم، وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرّين به، وهو دين الحق، لا يرغب عنه أحد إلا ذل، ولا يعتصم به أحد إلا عزّ. فقال لي رستم:
الصوت الضخم: ما هو هذا الدين؟
زهرة: فقلت له: أما عموده الذي لا يصلح منه شيء إلا به، فشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، والإقرار بما جاء به من عند الله تعالى، وإخراج العباد من عبادة العباد، إلى عبادة الله تعالى، والناس بنو آدم وحواء، إخوة لأب وأم. فقال رستم:
الصوت الضخم: أرأيت لو أني رضيت بهذا الأمر، وأجبتكم إليه ومعي قومي، كيف يكون أمركم، أترجعون؟
زهرة: فقلت: إي والله لا نقرب بلادكم أبداً، إلا في تجارة أو حاجة.
فوزي: الله أكبر.. لقد أفهمته يا سيدي بأن الحرب التي تخوضونها هي حرب عادلة قائمة على مبادئ، وأنكم تقاتلون لأهداف سامية، وهي بعيدة عن الظلم والاستغلال.
فوزية: وبهذا تكون قد حطمت معنويات عدوك في أحرج الأوقات.
فوزي: ومن المستحيل أن ينتصر جيش قائده محطّم المعنويات.
فوزية: ذكر بعض المؤرخين يا سيدي، أن رستم اقتنع بكلامك وآرائك وصدقك، ولكن أصحابه رفضوا الاستسلام للمسلمين.
زهرة: وفاتهم برفضهم هذا خير كثير..
فوزي: وقاتلت على رأس المقدّمة يا سيدي الشهيد؟
زهرة: لا.. فقد دمج القائد العام المقدمة بالقطعات المقاتلة الأخرى، وجعلني قائداً للميسرة.
فوزي: وكان لشجاعتك وإقدامك وبطولاتك أثر كبير في انتصار المسلمين في هذه المعركة التاريخية الحاسمة، ففضّلك عمر، وأمر سعداً أن يجعلك من بين خمسة وعشرين بطلاً تفضلون سواكم من المقاتلين في العطاء.
زهرة: رحم الله عمر، فما كان يغيب عنه شيء من أحوال رجاله، كأنه يعيش معهم، بل هو يعيش معهم فعلاً بروحه وقلبه وعقله.
فوزية: وبعدها يا سيدي؟
زهرة: بعدها هزمنا الفرس، وقتلنا قائدهم رستم، وقتلنا منهم مقتلة عظيمة جداً، فولّى الباقون الأدبار، فأمرني سعد بمطاردتهم، فطاردتهم برجالي، وقتلنا وأغرقنا منهم أعداداً كبيرة.
فوزي: هل من ذكرى معينة هنا يا سيدي الشهيد؟
زهرة: ذكرى.. وأيّ ذكرى.. أدركت الجالينوس في آخر القوات الفارسية، كان يحمي تراجعها.
فوزية: عفواً يا سيدي، لم يتقدم للجالينوس ذكر، فمن هو هذا الجالينوس؟
زهرة: كان الجالينوس أحد قادة الفرس الكبار.. كان يمتطي فرسه المطهّم، ويرتدي أفخر الثياب والحلي، فحملت عليه بفرسي حملة صادقة، فقتلته، ثم جئت بسلبه إلى سعد، فاستكثر سعد هذا السّلب، فكتب إلى عمر بشأنه، فكتب إليه عمر:
صوت ضخم: تَعْمَدُ، يا سعد، إلى مثل زُهرة، وقد صَليَ بمثل ما صَلٍِيَ به، وقد بقي عليك من حربك ما بقي، تكسر قرنه، وتفسد قلبه؟ أمضِ له سَلَبَه، وفضّله على أصحابه عند العطاء بخمس مئة.
زهرة: فدفعه إليّ سعد، فبعته بسبعين ألف درهم.
الشقيقان: الله أكبر.. الله أكبر.
فوزي: وبعدها يا سيدي القائد الشهيد؟
زهرة: أقمنا في القادسية شهرين، ثم جاء أمر أمير المؤمنين عمر بالتوجه لفتح مدائن كسرى، فجعلني سعد على المقدمة، وأمرني بالتقدم، فسرت بجنودي إلى (بُرْس) فلقيني جمع من الفرس، فهزمتهم، وقتلت قائدهم بيدي.
فوزية: سلمت يدك يا سيدي الشهيد.
فوزي: هاتِ يدك لأقبلها يا سيدي، فهي يد مباركة، يد مجاهد شهيد.
زهرة: أستغفر الله يا بني..
ثم تقدّمت إلى بابل، وتقدّم المسلمون خلفي، وهناك قاتلنا جموع الفرس، فهزمناهم في أسرع من لفّة الرداء.
الشقيقان: ما شاء الله.
زهرة: ثم أمرني سعد بالتقدم إلى (بَهْرَسِير) فتلقاني دهقان (ساباط) وصالحني على الجزية.. ثم تجمعت قوات المسلمين حول (بَهْرَسير) الواقعة على الضفة اليمنى لدجلة، مقابل (المدائن) التي تقع على الضفة اليسرى لنهر دجلة، فحاصرها سعد وضربها بالمنجنيقات، ودبّ إليها جنوده بالدبابات، وأصابني سهم، وأسرع رجالي إليّ يريدون انتزاع السهم من جسمي، فقلت: لا.. دعوه.. فإنّ نفسي معي ما دام السهم فيه، لعليّ أن أصيب منهم بطعنة أو ضربة.
الشقيقان: الله أكبر.. الله أكبر.
زهرة: ثم مضيت إلى العدو، وضربت بسيفي أحد قادتهم فقتلته.
الشقيقان: الله أكبر.. الله أكبر.
زهرة: كان اسم ذلك القائد.. شهريار.. واشتد الحصار بأهل (بَهرسير) حتى أكلوا الكلاب والسنانير، فاضطُروا إلى الانسحاب إلى المدائن عبر النهر، ودخل المسلمون (بَهرسِير).
فوزي: وبعدها يا سيدي المجاهد؟
زهرة: كان جرحي بليغاً، فـأنهى دوري في القتال، وأنا ما أزال في ريعان الشباب.. إرادة الله يا أبنائي..