حارس البستان
الأديب الكبير
الأستاذ: علي أحمد باكثير1
(خارج مدينة طرسوس " يلتقي اثنان عليهما سيماء الزهاد" أحدهما إبراهيم بن أدهم والآخر شقيق البلخي)
إبراهيم : أنا أيضاً من بلخ.
شقيق : أهلاً وسهلاً بأخي وابن بلدي.
إبراهيم : أرحلت مثلي في طلب الرزق؟
شقيق : الرزق يا أخي في كل مكان حتى في بلخ.
إبراهيم : ففيم إذن هاجرت؟
شقيق : التمس الطريق.
إبراهيم : الطريق إلى الله؟
شقيق : هو ذاك.
إبراهيم : فالله موجود في كل مكان حتى في بلخ.
شقيق : هيه ما أراك إلا سائحاً مثلي تلتمس الطريق.
إبراهيم : أنا ماش في الطريق.
شقيق : يا أخي إياك والغرور.
إبراهيم : الغرور أحياناً في أن تظن بغيرك الغرور.
شقيق : منذكم سرت في الطريق.
إبراهيم : منذ سبع سنين.
شقيق : أنت إذن غير ملوم.
إبراهيم : وأنت منذ كم؟
شقيق : منذ عشرين سنة وما زلت في أول الطريق.
إبراهيم : يقول الله تعالى:( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (47)
شقيق : ماذا ترى في مقامي الشكر والصبر؟
إبراهيم : هل لي أن أسمع رأيك أولاً؟
شقيق : إنا إن وجدنا شكرنا، وإن لم نجد صبرنا.
إبراهيم : يا أخي هكذا كلاب بلخ إن وجدت شكرت وإن لم تجد صبرت.
شقيق : فماذا تقول أنت؟
إبراهيم : إنا إن وجدنا آثرنا وإن لم نجد شكرنا.
شقيق : (في طرب وفرح وقد زال ما كان يجده من الحرج في أول الأمر) الله الله.. أنت الضالة التي أنشدها. الحمد لله إذ هداني إليك. أنت إبراهيم ابن أدهم.
إبراهيم : (يتغير وجهه) وأنت شقيق البلخي؟
شقيق : عجباً. كيف عرفت!
إبراهيم : كما عرفتني أنت.
شقيق : كلا أنا لست مثلك يا بن أدهم. أنت رجل مشهور.
إبراهيم : قاتل الله اللسان. لا يؤتى المرء إلا من لسانه.
شقيق : اللسان أداة التسبيح.
إبراهيم : ما نفع تسبيح اللسان إذا لم يسبح القلب.
شقيق : الله الله. ائذن لي يا سيدي أن ألازمك.
إبراهيم : بل ائذن لي يا سيدي أن أودعك.
شقيق : لم يا سيدي ألأنني عرفتك؟
إبراهيم : نعم.
شقيق : إني أعاهدك يا سيدي أن أكتم سرك فلا يعرفك أحد.
إبراهيم : أنت تريد أن تلازمني؟
شقيق : لا. لن ألازمك. بحسبي أن اجتمع بك بين الفينة والفينة فإني أعرف أنك تنتقل من بلد إلى بلد هربا من معرفة الناس لك.
إبراهيم : أجل.
شقيق : فسأكون لك عوناً على التخفي والتنكر فلا يعرفك أحد. هلم بنا إلى طرسوس. سأبحث لك فيها عن عمل يناسبك.
إبراهيم : ولا تدعني باسمي.
شقيق : يا أبا إسماعيل أي نوع من الأعمال تختار؟
إبراهيم : أي عمل ينأى بي عن الناس ولا يشغلني عن ذكر الله.
شقيق : إني أعرف صاحب بستان في الضاحية ما ترى لو تعمل ناطوراً عنده في البستان.
إبراهيم : عمل حسن. اذهب بي إليه.
2
إبراهيم : (لمعتوق وكيل صاحبة البستان) خذ هذا يا سيدي.
معتوق : ما هذا يا أبا إسماعيل؟
إبراهيم : ثمن رمانتين أخذتهما من البستان أمس.
معتوق : كل يوم تأخذ شيئاً من البستان. وتعطيني به ثمناً. والله لا أدري أنت ناطور عندنا أم تاجر؟
إبراهيم : أنا يا سيدي ناطور.
معتوق : اسمع يا هذا. إن مالت نفسك إلى شيء من البستان فكله ولا حرج عليك.
إبراهيم : كلا يا سيدي إني لا استحل ذلك.
معتوق : قد أذنت لك.
إبراهيم : ما يدريني هل ترضى سيدتك مالكة البستان إذا علمت أم تسخط؟
معتوق : ما شأنك بمالكة البستان؟ أنا هنا مكانها.
إبراهيم : شكراً لك على كل حال. لكن دعني وما اخترت لنفسي لو تكرمت.
معتوق : كما تحب يا أبا إسماعيل. اسمع الآن قبل أن أنسى، إن السيدة المالكة تنوي زيارة البستان اليوم ومعها صديقتان من علية القوم فاجمع لها شيئاً من التفاح ومن العنب ومن الرمان. تخير أجود ما في البستان.
إبراهيم : سمعاً يا سيدي. (يخرج).
معتوق : (يتمتم) يظن أنني سأسلم هذه الدراهم السيدة المالكة. ياله من أحمق. لكن من يدري لعله يغتال لنفسه كثيراً من الفاكهة ويظهر لنا ورعه هذا خديعة منه لئلا تنكشف خيانته. إنه كثير الصلاة كثير الذكر. لكن ألا يجوز أن تكون هذه حبائله؟ حبائل الشيطان؟
3
غرفة في القصر الذي في البستان
(تجلس السيدة المالكة ومعها صديقتان لها حول مائدة وقد رفعت الصحاف وجاء دور الفاكهة فقدمت أطباق التفاح والعنب والرمان.
إحداهما : هذه الفاكهة من بستانك؟
المالكة : نعم. لا يوجد في طرسوس كلها أجود فاكهة من هذا البستان.
الثانية : (تأكل من تفاحة فتكف) وي هذه تفاحة حامضة.
المالكة : حامضة؟
الأولى : (تأكل من عنقود عنب) والعنب أيضاً حامض.
المالكة : حامض.
الأولى : ألا تصدقين؟ ذوقي إن شئت.
الثانية : وذوقي هذه التفاحة.
المالكة : (تتذوق من التفاح والعنب فتثور غاضبة) قبح الله هذا الوكيل يقدم لنا الفاكهة التي لم تنضج. (منادية) معتوق. يا معتوق.
معتوق : (يدخل) لبيك يا سيدتي.
المالكة : ما هذا الذي قدمت لضيوفي يا أحمق؟ تفاح حامض وعنب حامض أتستأثر بالحلو وترمي لي ولضيوفي الحامض.
معتوق : معذرة يا مولاتي. الناطور هو الذي جمع الفاكهة.
المالكة : ويلك كيف تعتمد عليه في أمر كهذا؟ لماذا لم تتخير أنت بنفسك؟
معتوق : ما خطر ببالي يا مولاتي أنه لا يحسن اختيار الفاكهة.
المالكة : أنت مسؤول أيضاً عن اختيار هذا الناطور. ألست أنت الذي عينته؟
معتوق : بلى يا مولاتي لما بلغني من صلاحه واستقامته.
المالكة : ادعه لي الساعة.
معتوق : حالاً يا مولاتي. (يخرج منطلقاً).
المالكة : (تتخير من الأطباق ما تراه جيدا فتقدمه لصديقتيها) هذه حلو. كلي. يا فاطمة وأنت يا خديجة كلي من هذا العنقود.
(يدخل معتوق ومعه إبراهيم)
المالكة : أنت الذي جمعت لنا الفاكهة اليوم؟
إبراهيم : (خجلاً يتقي النظر نحو النسوة) نعم يا سيدتي.
المالكة : أقصدت أن تحرجني أمام ضيوفي بتقديم هذا التفاح الحامض والعنب الحامض؟
إبراهيم : معاذ الله يا سيدتي أن أقصد ذلك.
معتوق : ألم أوكد عليك أن تتخير أجود ما في البستان؟
إبراهيم : بلى وقد ظننت أني فعلت ولكن لعلي أخطأت.
المالكة : ويلك تعين ناطوراً لا يميز بين الحلو والحامض.
معتوق : يا مولاتي غير معقول أنه لا يميز بين الحلو والحامض. لقد صار له عندنا اليوم عام ونصف عام فلو كان طفلاً صغيراً لميز.
إبراهيم : (متلعثما) أنا.. أنا..
المالكة : أنت ماذا؟ تكلم.
إبراهيم : أنا لم أذق شيئاً مما في البستان.
المالكة : طوال هذه المدة لم تذق شيئاً. اضحكن معي وتعجبن من هذا الناطور.
(ويقهقهن ضاحكات).
معتوق : يا أبا إسماعيل لقد كنت أظنك صالحاً فما حملك على أن تكذب.
المالكة : وكذاب أيضاً؟ أي ناطور هذا؟
معتوق : هذه كذبه ثانية. يا مولاتي إنه كثيرا ما يطلب مني أن اقتطع من أجره الشهري دراهم معدودة يزعم أنها ثمن ما استهلك لنفسه من فاكهة البستان في بعض الأيام فكيف يزعم الساعة أنه لم يذق شيئاً من البستان قط؟
المالكة : ما تقول في هذا أيها الناطور الورع؟
إبراهيم : يا سيدتي أرجو أن تبحثوا لكم عن ناطور غيري فإني لم أعد أصلح لهذه المهنة.
النسوة : (يتضاحكن) مسكين. إن كان لا يصلح ناطوراً فلأي شيء يصلح؟
إبراهيم : سامحيني يا سيدتي فيما بدر مني دون قصد.
المالكة : اذهب يا معتوق فأعطه حسابه.
معتوق : تعال معي يا أبا إسماعيل. (يخرجان).
4
شقيق البلخي ومعتوق. أمام مصطبة إبراهيم وقد ظهر في وجه شقيق الأسف والحزن)
معتوق : أقسم لك ما طردناه نحن ولكنه هو الذي استعفى.
شقيق : لا بد أنكم أحرجتموه.
معتوق : بل هو الذي أحرجني أمام سيدتي وأحرج سيدتي أمام ضيوفها والله لولا مكانه منك لكان لي معه شأن آخر.
شقيق : كنت تظن أنه كذبك حين قال: إنه لم يذق شيئاً من البستان قط؟
معتوق : لست أظن ظناً بل أوقن وأجزم.
شقيق : أنت لا تعرف هذا الرجل يا معتوق. لو كذب من في الأرض جميعاً ما كذب هذا.
(تظهر المرأة الفقيرة على باب البستان وتتطلع إلى الرجلين)
معتوق : ما خطبك؟ ماذا تريدين يا امرأة؟
المرأة : سأنتظر حتى يجيء؟
معتوق : من؟
المرأة : الناطور.
معتوق : ماذا تريدين منه؟
المرأة : (في حذر) لا شيء. حتى يجيء هو.
شقيق : (بلطف) يا سيدتي قولي ما عندك ولا تخافي فأنا من أصدقاء الناطور.
معتوق : هل كان يعطيك من فاكهة البستان.
المرأة : نعم. جزاه الله خيراً. أين هو يا سيدي؟
(يتبادل شقيق ومعتوق النظر)
معتوق : انتظري قليلاً (يغيب لحظة).
المرأة : (لشقيق) أين الناطور الطيب يا سيدي.
معتوق : (يعود بشيء من الفاكهة فيعطيه المرأة) خذي.
المرأة : الناطور هو الذي أوصاك أن تعطيني؟
معتوق : نعم.
المرأة : جزاه الله خيراً وجزاكم أنتما أيضاً خيرا. سيفرح أطفالي اليتامى بهذه الفاكهة.
(تذهب)
شقيق : أرأيت يا صاحبي لقد فاتك خير كثير إذ تركته يرحل عنك. أتدري من كان هذا الرجل؟
معتوق : من؟
شقيق : إبراهيم بن أدهم.
معتوق : (فاغرا فاه من الدهشة) إبراهيم بن أدهم.
شقيق : نعم. نعم.
معتوق : لأبحثن عنه في المدينة وأعيدنه.
شقيق : هيهات. لابد أنه قد ترك المدينة إلى مدينة أخرى.
معتوق : هلا أخبرتني من الأول يا سيدي؟
شقيق : لو عرف أنك عرفته ما رضي أن يبقى عندك ساعة واحدة.
معتوق : وا اسفاه على كنز ما علمت به إلا حين ضاع.
ستار