كسوة العيد
الأديب الكبير
الأستاذ: علي أحمد باكثير
-1-
في بيت محمد بن عمر الواقدي
الواقدي: أوقد أقبل العيد يا عمرة! ما أسرع ما أقبل!
عمرة: مابقي عليه غير جمعة.
الواقدي: جمعة واحدة؟ لا أكاد أصدق!
عمرة: غيرك يا أبا عمر يستعد له قبل حضوره بأشهر.
الواقدي: أولئك الواجدون الفارغون يا عمرة. ولست بحمد الله منهم.
عمرة: بل الذين يهتمون بأهلهم وبصغارهم قبل أن يهتموا بأنفسهم، هؤلاء جيراننا ليس فيهم من هو أغنى منك، ومع ذلك فانظر إلى صبيانهم وصبياننا، تجد أن صبيانهم قد اشتريت لهم الثياب الجديدة للعيد من ثلاث جمع. وفُصلت لهم منذ جمعة، فهم بها فرحون، يقلبونها كل يوم. ينتظرون حضور العيد بلهفة وشوق، لكي يلبسوها ويختالوا بها بين أقرانهم، أما صبياننا فأذلاء منكسرون، يريهم صبيان الجيران ثياب عيدهم الجديدة، ويسألونهم عن ثياب عيدهم، فلا يجدون جوابا.
الواقدي: حسبك يا عمرة، فلقط قطعت قلبي رحمة لهم، هلا نبهتنا إلى ذلك من قبل؟
عمرة: يالي منك يا أبا عمر، ألم أنبهك قبل اليوم أكثر من مرة؟! فكنت تقول لي دائما. فيما بعد يا عمرة، فيما بعد؟
الواقدي: ذلك أنك لا تحسنين اختيار الوقت الملائم يا عمرة، ما كان يحلو لك أن تكلميني في هذا الشأن إلا حين كنت تجديني أقرأ أو أكتب.
عمرة: سبحان الله! وهل أجدك في البيت أبداً إلا تقرأ أو تكتب؟!
الواقدي: لا تظلميني يا أم عمر، فها أنت ذي الآن قد وجدتني لا أقرأ ولا أكتب، إذ أحسنت الاختيار فاستطعت أن أصغي إلى حديثك.
عمرة: فاعمل لصبياننا إذن شيئاً قبل أن تنقضي هذه الجمعة ويأتي العيد.
الواقدي: والله لا أدري ماذا أعمل لهم، فقد ضاق الوقت وليس عندي اليوم أكثر من عشرة دراهم.
عمرة: عليك أن تحتال لهم بشيء.
الواقدي: كيف يا عمرة؟ ماذا أصنع؟
عمرة: إذا احتجت إلى كتاب أو إلى قراطيس فأنت تحتال على أصحابك الوراقين، دون أن تستشيرني أو تلجأ إلى رأيي، أما في كسوة صغارنا للعيد فإنك تسألني كيف يا عمرة؟ ماذا أصنع يا عمرة؟
الواقدي: إنك قاسية عليّ يا أم عمر، أليس لي أن أستعين برأيك لعلك ترشديني إلى حيلة أو إلى سبيل؟
عمرة: أين أنت من صديقيك الحميمين، الهاشمي وأبي صالح؟ فإنك تزعم لي دائماً أنكم أنت الثلاثة كنفس واحدة؟
الواقدي: أجل هذا رأى حسن يا عمرة، ولكن العيد سيأتي عليهما أيضا كما يأتي عليّ، ولكل منهما صبيانه، وعسى أن يكونا اليوم في مثل حالي من الحاجة والعوز، بل لعلهما فكرا في اللجوء إليّ ثم عدلا لمعرفتهما بحالي.
عمرة: سبحان الله! ماذا يضيرك أن تكتب إلى أحدهما؟! فإن وجد عنده شيئا أعطاك وإلا اعتذر لك؟ إن الصديق الحق هو الذي يفعل ذلك.
الواقدي: إلى أيهما توصينني أن أكتب؟
عمرة: أنت أعرف بهما مني.
الواقدي: الهاشمي أقل أولاداً من أبي صالح.
عمرة: فاكتب إذن إليه، واشرح له حالك شرحا وافياً. حتى يعلم أنك لم تلجأ إليه إلا في ضرورة قاسية
-2-
في بيت محمد بن عبدالرحمن الهاشمي
الهاشمي: أين الكيس الذي وضعته عندك يا خديجة؟
خديجة: ماذا تصنع به؟ لقد قلت لي إنك مشغول اليوم. ولا تستطيع أن تشتري لصبياننا ثياب العيد إلا من الغد.
الهاشمي: بل سأشتريها اليوم يا خديجة.
خديجة: هذا أفضل فما بقي على العيد غير جمعة واحدة. انتظر، سأحضره لك.
الهاشمي: مسكينة ستفجع حين تعلم.
خديجة: خذ الكيس، فيه ألف درهم لم تمس، بحاله كما سلمته إلي.
الهاشمي: أصغي إليّ يا خديجة هبي أن هذا الكيس عند صديقنا الواقدي، وأنه علم بحاجتنا إليه، فبعث به إلينا لنشتري به لصبياننا كسوة العيد، أفلا يكون سرورنا حينئذ عظيماً؟
خديجة: بلى يا ابن عبد الرحمن.
الهاشمي: أفيجمل بي يا خديجة أن أكون أنا أقل مروءة منه وكرماً؟
خديجة: لا.
الهاشمي: أليس ينبغي أن أكون أكرم منه؟
خديجة: ويحك ماذا تريد أن تفعل بهذا الكيس؟
الهاشمي: أريد أن أبعث به إلى الواقدي، فقد كتب إليّ يستقرضني ما يشتري به للأولاد كسوة العيد.
خديجة: أو ليس أولادك أحق بك من أولاده؟
الهاشمي: كلا يا خديجة لو كنت مكانه وكان هو مكاني لآثر أولادي على أولاده
خديجة: إذن فابعث إليه بمائة درهم أو مائتين ودع الباقي لأولادك.
الهاشمي: كلا لا أستطيع أن أوجه إليه بأقل من ألف درهم، فإن عنده أولادا كثيرين، فبكم يشتري لهم من ثياب؟ وبكم يفصلها لهم؟ وبكم يشتري لهم من أحذية؟
خديجة: وأولادنا لا نترك لهم شيئاً؟
الهاشمي: سأكتب إلى صديقنا أبي صالح المغربي ليرسل إلينا بعض ما عنده فأبو صالح لا يخلو إن شاء الله من مال.
-3-
في بيت الواقدي
عمرة: من ذا الذي جاء عندك يا أبا عمر؟
الواقدي: هذا رسول من صديقنا أبي صالح.
عمرة: أراك مسروراً بمجيئه، أتراه علم بما كنت فيه من ضيق فبعث إليك بألف درهم أخرى؟
الواقدي: صه. اخفضي صوتك حتى لا يسمعك.
عمرة: ظننته قد انصرف.
الواقدي: بل هو في صدر البيت بعد.
عمرة: وتركته وحده؟
الواقدي: لآتيه بما يريد.
عمرة: وماذا يريد؟
الواقدي: أن أسعفه بشيء يا عمرة.
عمرة: تسعفه بماذا؟
الواقدي: كتب إليّ أبو صالح بمثل ما كتبت إلى الهاشمي يرجوني أن أقرضه ما يبتاع به كسوة العيد لأولاده.
عمرة: وماذا قلت لرسوله؟
الواقدي: قلت له أنتظر حتى أبحث لك عن شيء.
عمرة: هلا قلت له من أول الأمر: إنك ما عندك شيء وأنك احتجت إلى ما تشتري به كسوة العيد لأولادك فاستقرضته من الهاشمي؟
الواقدي: كلا ياعمرة: لا أستطيع أن أرد طلبا لأبي صالح.
عمرة: إنه لو علم بأنك استقرضت من الهاشمي لما كتب إليك يستقرض منك.
الواقدي: وأنى له أن يعلم ذلك؟
عمرة: عليك أنت أن تخبره بذلك.
الواقدي: معاذ الله! أين المروءة إذن يا عمرة؟ وأين التواسي بين الأصدقاء؟
عمرة: كأنك تريد مني أن آتيك بالكيس
الواقدي: أجل يا عمرة.
عمرة: كم تريد أن ترسل له من الألف درهم.
الواقدي: سأرسل له الكيس كله يا عمرة.
عمرة: ولا تترك لأولادنا شيئا.
الواقدي: سيجعل الله لهم مخرجا يا عمرة.
عمرة: من أين يا أبا عمر؟ لقد كان لك صديقان تلجأ إليهما عند الشدة: الهاشمي وأبو صالح، فالهاشمي قد أخذت ما عنده وأبو صالح قد بعث ليأخذ ما عندك، فأين المخرج؟
الواقدي: يا عمرة إن الله يرزق أحدنا من حيث لا يحتسب. فثقي بالله ولا تفقدي الرجاء في بره وكرمه.
-4-
الواقدي: هذا الهاشمي يريد أن يزورنا يا عمرة فأعدي له شيئا من شراب الورد أو شراب الليمون.
عمرة: أهلا وسهلا به أهذا خادمه الذي كان عندك؟
الواقدي: نعم أرسله ليرى إن كنت في البيت فيحضر للزيارة.
عمرة: ترى ماذا يدفعه إلى زيارتك اليوم؟
الواقدي: كالعادة ليراني ويتحدث معي.
عمرة: ألا يجوز أن تكون زيارته ليرى إن كنت في حاجة إلى مزيد من العون؟
الواقدي: ثقي يا عمرة لو كان عنده أكثر من ألف درهم لبعث لي بأكثر من ألف درهم.
عمرة: ربما جاءه اليوم مال جديد لم يكن عنده بالأمس فأراد أن يعرض عليك المزيد.
الواقدي: إذن لبعث بالمال مع خادمه كما فعل في المرة الأولى دون حاجة إلى الزيارة.
عمرة: مهما يكن من أمر يا أبا عمر فعليك أن تخبره بقصة أبي صالح، حتى يعلم أنك لم تنتفع بشيء مما بعث به إليك عسى أن يوجه إليك بألف درهم أخرى.
الواقدي: إني أستحي يا عمرة أن أطلب منه مرتين.
عمرة : تستحي من صديقك الحميم؟ غدا يعلم بالقصة لا محالة، فيغضب منك لأنك لم تخبره بالحقيقة
الواقدي: اسمعي يا عمرة إني سأحاول أولا أن أعرف حاله، فإن كان عنده شيء فسأحكي له قصة أبي صالح، ليعطيني ألف درهم أخرى، وإلا لزمت الصمت وتجلدت؛ لئلا يشعر بشيء مما عندي. (يقرع الباب)
عمرة: لعله هو يا أبا عمر.
الواقدي: هيا أعدي له الشراب وسأفتح له الباب. (يفتح الباب) ا
الهاشمي: السلام عليك يا واقدي؟
الواقدي: وعليك السلام ورحمة الله يا هاشمي. مرحبا بك تعال اجلس هنا في الصدر.
الهاشمي:(مازحاً) ألأني أقرضتك ألف درهم يا واقدي؟
الواقدي: كلا يا هاشمي، بل هذا مكانك، أنت أهل له.
الهاشمي: (ماضيا في مزاحه) ولو لم أقرضك شيئاً؟
الواقدي: ولو لم تقرضني شيئاً.
الهاشمي: أصدقني يا واقدي.
الواقدي: ما خطبك اليوم يا أبا هاشم؟
الهاشمي: بل ما خطبك أنت يا واقدي؟
الواقدي: والله إني ما أفهم شيئا مما تقول.
الهاشمي: هل تعرف هذا الكيس؟
الواقدي: لا لا أعرفه.
الهاشمي: أنظر إليه جيداً.
الواقدي: سبحان الله. كأنه الكيس الذي كنت قد وجهته إليّ.
الهاشمي: أجل إنه هو بعينه فماذا فعلت به ويحك؟
الواقدي: إني أريد أن أعرف أولا كيف وصل إليك؟
الهاشمي: بل أخبرني أنت أولا ماذا فعلت به؟
الواقدي: (كالمازح) اشتريت به كسوة العيد لأولادي.
الهاشمي: اشتريت الكسوة لهم من أبي صالح؟
الواقدي: أخذت أنت الكيس من أبي صالح؟
الهاشمي: نعم كتبت إليه استقرضه فبعث به إليّ.
الواقدي: ويل له لقد كتب إليّ يقول إنه في حاجة ليبتاع لأولاده كسوة عيدهم.
الهاشمي: ما أحسن ما تواسينا نحن الثلاثة، إنك وجهت إليّ وما كان عندي غير ما بعثت به إليك، وكتبت إلى صديقنا أبي صالح أسأله المواساة، فإذا هو يوجه إليّ بكيسي نفسه.
الواقدي: الحمد لله الذي جعلنا أحباء فيه.
الهاشمي: وأصدقاء في طاعته وفيما يرضيه.
الواقدي: وما فجع أحد منا في مروءة أخيه.
(ستار)