مجلود الضمير
مجلود الضمير
(وحشي الحبشي)
مسرحية شعرية
أ.د/
جابر قميحةأهم الشخصيات
1 ـ وحشي الحبشي (أبو شحمة) قاتل حمزة بن عبد المطلب ـ رضي الله عنه ـ في أحد.
2 ـ مسيلمة بن حبيب الكذاب: مدعي النبوة.
3 ـ أبو سفيان بن حرب: قائد الكفار في موقعة أحد.
4 ـ مجَّاعة بن مرارة: وزير مسيلمة الكذاب ويده اليمنى.
5 ـ جبير بن مطعم أحد كبار قريش ومحرض عبده: وحشي على قتل حمزة.
شخصيات أخرى ثانوية وهامشية: قادة ـ جنود ـ سوقة.
زمن المسرحية
أحداثها وقعت في عهدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومطلع عهد أبي بكر رضي الله عنه.
الفصل الأول
(دماء في بدر)
المنظر: منظر الكعبة في زاوية الجانب الأيسر من المسرح، وبعض الأصنام تظهر حولها، وفي بعيد تظهر جوانب جبلية، وبعض البيوت على امتداد البصر، وبقية المسرح ساحة الكعبة تغطيها الرمال، ومن بعيد تسمع صرخات نساء وصيحات رجال مختلطة، تقترب الأصوات والصرخات رويدًا رويدًا ثم تظهر وتتضح بعض الأصوات من خلف المسرح:
صوت: الحكم بن هشامِ ضمنُ القتلى.
صوت: يا زينَ قريش يا حَكَماه..
صوت: وكذلك عتبةُ إبنُ ربيعة
وكذلك شيبةُ إبنُ ربيعة.
(يسمع صراخ امرأة من خارج المسرح..)
صوت: صبرًا يا هند.
سنأخذ بالثأر لعمكِ وأبيكِ..
صوت: بل نأخذ بالثأر مضاعفْ.
صبرًا يا هند.
فالعيش حرام بعدكُمُو.
يا قتلى بدر.
[يبعد الصوت إلى أن يتلاشى تمامًا وتزيد الإضاءة في المسرح.. في الوقت الذي يدخل فيه إلى المسرح عدد من الكفار العائدين من معركة بدر، وقد ظهر الإجهاد على وجوههم وحركاتهم.. وكذلك آثار دماء.. وأغلبهم في ثياب ممزقة أو غير منتظمة]
الأول: ها قدْ عدنا من بدرٍ.. أوَّاه.ْ.
الثاني: لا كانت هذي العودة.
عُدْنا مكسورين.. خزايا.
الثالث: يا عجبًا: ألفٌ منا يغلبهم ثلث العددِ ؟؟!
الرابع: مائةٌ من فرسانِ قريش كانوا في الجيش
ويقابلهم من فرسان الأعداء ثلاثة!!..
الخامس: كثرتنا.. تُهزم من قلتهم؟
هذا ما لا يتخيله العقل..
السادس: حلم مزعج.. حلم مزعج..
السابع: قتلوا سبعين..
الأول: أسروا سبعين.
الثالث: ما فيهم أحدٌ مغمور.
كلٌ منهم فارس حلبة.
الخامس: كل منهم زينةُ مجلسْ.
السادس: عدنا بالعارِ الأبدي.
الثاني: يا ضيعة سمعتنا بين العربِ!!
طرداءٌ.. ضعفاءٌ.. كفروا باللاتِ وبالعزى
هربوا من مكة تحت ستار الليلْ
الرابع: قتلوا سادتهم..
صالوا.. جالوا في بدر
كوحوشٍ ضاريةٍ عطشى للدمْ
السادس: والأوس كذلك والخزرج.
الثالث: يا عار قريش ياللعار.
الطرداء.. وكذلك من سموهمْ بالأنصار
وقعوا مخدورين بسحرِ محمدْ.
الثاني: قال لهمْ من قتِل اليومَ.. له الجنة.
خمرٌ.. عسلٌ..
فاكهة.. من رمان.. أعناب.. ونخيل
وحدائق تجري بالأنهار
ونساء سماهم بالحور العين.
الأول: يا للخزي.. وياللعار.
(أصوات جماعية على هيئة هتاف من خلف المسرح):
اعْلُ هبل.. المجد للاتٍ والعُزى
اعلُ هبلْ.
اعل هبل..
اعل هبل.. المجد للات والعزى..
(ينظر أحدهم ناحية مصدر الصوت ـ ويهتف بصوت جهوري:
ها قد جاء أبو سفيانْ
ها قد جاء أبو سفيان (أصوات مختلطة من العائدين من بدر..)
أبو سفيان؟ "أبو سفيان؟ أبو سفيان؟!
(يدخل أبو سفيان في زي مُهندم.. وعلى وجهه أماراتُ الحزن الشديد.. فيهتف الجميع في أصوات غير منتظمة).
اعل هبل..
اعل هبل..
المجد للات والعزى
اعل هبل.
(يشير أبو سفيان بيده فيتوقف الهتاف)
الأول: يا سيد مكة..
سبعون قتيلاً منا..
ومن الأسرى سبعون أُخَر (أصوات مختلطة)
الأصوات: ياللعار!..
(مختلطة) ياللعار!..
ياللعار!
السابع: هل يهدر هذا الدم..
ولا مِنْ أحدٍ يأخذ ثأرًا؟!..
الثالث: صُرِع الأحبابُ.
فما قيمة عيش بعد الأحباب؟!
السادس: لا كان العيش أبا سفيان.. (هتاف جماعي)
لا كان العيش..
(يستوي أبو سفيان على صخرة في الساحة ويطرق برأسه لحظات، ثم يرفع رأسه)
أبو سفيان: يا سادة..
العيش مزيج من حلوِ.. وكذلك مرّ.
والحرب بها كرٌّ، وبها فر.
والحرب سجال:
يكسر فيها الجيشُ
ويأتي بعد النكبةِ نصرْ
وأنا قد كنتُ مع العير.. تجارتكم
حمدا للات.. أنقذتُ تجارتكم
من أسر محمد.
ولذلك لم أشهد معكم بدر (ينهض)
أنا ما شاهدت الكر.. وما شاهدت الفر
لكن المؤلم حقًا
أن تنكسر الكثرةُ من قلة.
أن يهوي الفرسان الأمجاد.
أمام الفقراء المطرودين
أن ينكسر السادةُ والقادةُ
بسيوف عبيد مضعوفين
السابع: أن يُصرع مثل أميةَ وابن الحجّاج
أمام العبد بلالِ بن رباح
الأول: ورأيت كذلك عبد الله بن مسعود
يحز بسيف مثلوم رأس الحكم بن هشامِ
الثاني: بل يطأ بقدمٍ رعناءٍ صدر الحَكَمِ
أبو سفيان: العارُ هنا.. العارُ هنا
والآنَ لأسألْ: عمن قتل السادةَ
من أبطال قريشْ..
من قاتلُ عتبة بن ربيعة ؟
(أصوات) حمزة...
إبن عبد المطلب
أبو سفيان : من قاتل شيبة بن ربيعة ؟.
(أصوات) حمزة..
أبو سفيان: وعقيل بن الأسودِ: من قاتله؟
أصوات: حمزة..
أبو سفيان: والبطلُ نبيه بن الحجاج.. من ذا قتله ؟.
(أصوات) حمزة..
أبو سفيان: وأبو قيس بن الوليد.. من قاتله؟
(أصوات): حمزة..
أبو سفيان: والفارسُ في كلِّ مجالِ: أعني: الأسودَ
أقوى فتيان أبيه.. عبد الأسود..
من ذا قتله؟
(أصوات): حمزة.. حمزة..
أبو سفيان: والفارسُ إبنُ الـ..
لكن هذا يكفي (لحظات من الصمت)
هِيهْ..
أفتى فتيان قريشٍ
وصناديدُ العربِ
لم يصرعْهم إلا حمزة!! ؟
أصوات: حقًا.. حقًا..
حمزةُ.. حمزه
أبو سفيان: أنا أعرفه.. أسدٌ كاسرْ
لا يرهبُ إنسانًا في سلم أو في حرْبْ
(لحظات من الصمت والتفكير)
حمزةُ هذا لو وُوزن بالجيش بأسرهْ:
رجَحَ عليهْ..
الثالث: بل قُلْ لو قيس بجيشين ... ثلاثة..
أبو سفيان (وقد تهلل وجهه وهو يدق بقبضته اليمنى على كفه اليسرى)
هذا يعني لو فينا من يصرعُ حمزةْ
لكسرنا أقوى
شوْكاتِ محمد.
(الجميع في أصوات مختلطة) هذا حقّ.. هذا حق..
أبو سفيان: حقٌّ لا يحتملُ جدالاً...
وبُعَيْدَ شهورٍ.. أو عام
لا بد من الزحفِ ليثربْ
للأخذ بثأرِ السبعينّ
وسنجعلُ.. مالَ العيرِ ـ تجارتِكمْ
للإنفاقِ على جيش الزحفْ ـ
جيش الثأرِ المنشودِ..
الجميع (بأصوات مختلطة).
ـ حقا.. حقًا.. لا بدُّ من الزحفِ.. الثأْرْ.
ـ الموت لأعداء اللات
ـ الموت لأعداء العُزَّى
ـ اعلُ هبلْ.. اعل هبل..
أبو سفيان (مشيرًا بيده فيسكت الجميع):
صبرًا.. صبرًا..
وأكررُ..
لو فينا من يصرعُ حمزةَ..
لكسرنا أقوى شوّكاتِ محمدْ
وهزمْنَا جيشَ الفقراءِ المطرودينَ
ومن ساندهم من أوسٍ أو خزرجْ..
ومن الآنْ..
لِنُعدَّ العدَّةَ لليومِ الحاسمْ.
أصوات مختلطة.. من باكرْ.. من باكرْ.
لا بدّ من الزحفِ عليهم..
أبو سفيان: لا.. بل من هذي اللحظةْ...
لا للزحف.. ولكن للإعدادِ لهذا الزحف..
ونعدُّ الفارِسَ من هذي اللحظةْ
صنديدا.. ليبارزَ حمزةَ.
في مفتتح المعركةِ القادمةِ هناك
معركةِ الثأرِ المتنظرهْ
.. يتدربُ ليلَ نهار
ويشربُ فنَّ السيفْ..
يتعلمُ كيفَ يداورُ
كيف يحاورُ
كيف يناور
حتى يضربَ حمزةَ ضربةَ موتٍ صاعق..
(لحظات من الصمت.. ثم ينظر للحاضرين)
هِيهْ!!.
من منكم يحرصُ أن يحظَى بالشرفِِ الأعظم
ويبارزُ حمزةَ حتى يصرعَهُ؟
(صمت تام.. ويظهر الاضطراب على وجوه الجميع ) منْ منكمْ يحرصُ أن يحظَى بالشرفِ الأعظمْ.. مصرع حمزة ؟ (يصرح فيهم بغضب)
من منكمْ؟
من منكمْ؟
(صمت يخيم على الجميع، وتخفت الإضاءة على المسرح.. ويبدأ تسلل الموجودين واحدًا.. واحدًا إلى أن يظلم المسرح تمامًا، وتسلط الأضواء على وجه أبي سفيان فقط).
وبحقِّ اللات وبالعزى
أنا أعلمُ سَلفًا ما حَدَثَ الآنْ
ما فيهمْ من يجرؤُ أن يلقىَ حمزةَ
ويواجههُ ويبارزه في ميدان مفتوح
لكنَّ الحيلةَ غلابةْ
والجبنُ مع الكيدِ البارع
قد يحظى بالنصر الفائقْ
(ستار)
المنظر: أبو سفيان بن حرب، وجبير بن مطعم في بهو واسع في دار جبير بن مطعم وقد جلسا على أريكتين.. وإلى اليسار يقف وحشي الحبشي عبد جبير بن مطعم وفي يده حربته.. وهو فتى فائق القوة والطول ـ أسود البشرة مجعد الشعر).
أبو سفيان: إيه.. يا وحشي.. يا حبشيْ..
وحشي (محنيًا رأسه في شبه ركوع ثم يرفعه ثانية)
لبيكَ يا سيدَ مكةَ
وابن الأشاوسةِ الكرامْ..
يا سيدي لبيكَ.. مُرْ
عبدٌ أنا..
وأطيعُ.. إِذْ ما تأمرُ
فالعبدُ رهن إشارةٍ من سيدِهْ.
أبو سفيان: لا.. ما كنتُ يومًا سيدَكْ (مشيرًا إلى جبير..) هذا جبيرُ بنُ مطعم..
هو سيدُك..
وحشي: فكلاكما لي سيدُ
وأنا المطيعُ المستجيبُ بلا ترددْ.
أبو سفيان: هذا جميلْ:
اسمع أبا شحمةَ.
أنت مِن أرمى الرماهْ.
هذى شهادتُنا جميعًا.. لا خلافْ
فلأنت حقًا خيرُ من يرمي برمحٍ أو سهامْ.
هذا صحيحٌ يا جبير؟
جبير: هذا صحيحٌ..
لم يرمِ ظبيًا نافرًا.
إلا وأثبته برمح أوْ بسهْم
أنا لم أشاهدْ في حياتي
من يسدِّدُ مثلَه
أبو سفيان (وعلى فمه ابتسامة)
ولقد علمتُ بأنه
يسطيعُ يرمي طائرًا من بعد ميلْ..
جبير: هذا صحيحٌ.. لم تبالغْ.
(يظهر شيء من الزهو على وجه وحشي)
أبو سفيان (بلهجة بطيئة، وهو يضغط على مخارج الحروف)
وحشيُّ.. يا حبشيَّ.
يا بطلاً شجاعْ
هل تقبلنْ: مائةً من الدنانير الذهَبْ.
من هندِ زوجي
(يُخرج صرة من جيبه ويرمي بها إلى أعلى قليلاً.. ثم يلقفها ثانية ويكرر ذلك وعينا وحشي على الصرة)
جبير: وأقولُ ـ إن وافقتَ:
"أنت ـ أيا وحشي ـ حر"
ولْيشهد اللاتُ العليُّ على مقالي
ولْتشهدْ العُزّى عليه.
أبو سفيان (وهو يقترب من أذن وحشي):
الانطلاقُ الحرُّ.. والعيشُ الرغيدْ..
والمجدُ يسعى نحوَ وحشيِّ العتيدْ
(يظهر الانشراح على وجه وحشي)
وحشي (في لهفة): فلْتأمُرَا.. وأنا المطيع (متحدثًا إلى نفسه)
مائةٌ من الدنانيرِ الذهبْ؟؟!
وأعيشُ حرًّا في انطلاق؟ (موجهًا الحديث إليهما):
فلتأمُرَا.. وأنا المطيعْ..
أبو سفيان وجبير (في نفس واحد)
قتل حمزةْ.
قتل حمزة.
إبنُ عبدِ المطلبْ.
وحشي (في اضطراب شديد)
حـ..حـ..حـ..حمـ..حمــ
مم مم.. مم.. حمـ.. حمزة.. حمزة؟؟!
سيدي: أتقولُ حمزةْ؟؟
أبو سفيان: نعم: هو قاتلُ يستأهلُ الموتَ الزوُامْ
في بدرِ جندلَ شيبةَ عمَّ هندٍ زجتي
وكذا أباها.. عتبةً
جبير: وكذاك من صرعاه: عمي طُعَيمْة
طعيمة بن عدي
وحشي: سيدي:
هل في الورى من يستطيعُ نزالَ حمزة؟
حمزة؟!!
هه!!
ومَنْ وريثي بعدَ ذلك في المائةْ
أعني الدنانير الذهبْ
من بعدِ أن أهوى صريعًا في النزالْ.
وأنا رقيقٌ ليسَ لي بعدي وريثْ (بعد لحظات من الصمت)
حمزة؟؟!
أيبارزُ القطُّ الجبانُ الليثَ في وضَحِ النهارْ؟
أبو سفيان: من قال سوفَ تواجهُهُ؟
جبير: لا.. لا تخفْ
إذ ليس ثمة من بِرازٍ.. أو صراعٍ...
أو تشابكِ بالسيوف أو الرماحْ.
أبو سفيان: فلأنتَ تعلمُ أن حمزةَ منْ يواجهُهُ انكسرْ
جبير: وإذا يقاتلُ ينطلقْ
وكأنه الأسدُ الهصورْ
أبو سفيان: الكرُّ ديدنُهُ.. وما عَرفَ الفرارْ
فلتختبئ.. وتوارَ عن عينيهْ
حتى إذا حَمِىَ الوطيسْ
ورأيت ثمة فرصةً سنحتْ لقتلِهْ:
فلترمِ حربتك اللعينة من بعيد
لتصيب منه مقاتله
جبير: هوَ لنْ يراكَ..
وبعدها..
ستكونُ وحشيَّ الغنيَّ الحرَّ.
في ظلِّ السعادةِ والغِنى
أبو سفيان: هِيهْ.. ماذا تقول؟؟!
وحشي: (وعلى وجهه ابتسامة عريضة)
ماذا أقول؟ (وهو ينظر إلى بعيد نظرات حالمة)
حريةٌ...
ودنانيرٌ.. مائة.
ضُربتْ من الذهبْ الخِلاصْ
والخمرُ
واللحمُ اللذيذُ
وجاريةْ..
وأكونُ سيدَّ عيشتي..
وأنامُ أو أصحو بملءِ إرادتي.
ماذا أقول؟
(يرفع حربته في هيئة من يستعد للطعن)
أقولُ.. أقولُ؟
أقولُ أقتل حمزةً.. بل ألفَ حمزةٌ.
(ستار)
الفصل الثاني
(لهيب الضمير)
[ المنظر: طريق واسع يظهر أنه في أطراف البلدة، وفي الثلث الخلفي من المسرح يتوسط كوخ متواضع، وخلفه على البعد بيوت أعلى وأفخم على امتداد البصر. وفرادى من الناس يمرون أمام الكوخ جيئة وذهابًا.
ومن الناحية اليمنى من المسرح يدخل رجلان غريبان، يبدو عليهما أثر السفر، يستوقفان أحد المارة].
الأول: قلْ لي بالله: وحشيُّ.. الحبشيُّ.. تعرفُهُ؟
المار: أعرفُهُ؟ هل من أحدٍ لا يعرفه؟!
الثاني: عفوًا.. قُدْنا بالله إلى بيتهْ.
المار: بيتِهْ؟! تعني كوخَهْ (يشير إلى الكوخ).
ذاك هُوَ.
الأول: هو يا تُِرى الكوخ؟
المار: هو لا يبرح عُقْر الكوخْ.
في الخمر يعيشُ.. فلا يصحو أبدًا من سُكْرْ.
(ينصرف الرجل.. يطرق الأول باب الكوخ.. ويصيح:
وحشِيّْ... وحشيُّ يا حبشيّْ..
وحشِيّْ... وحشيُّ يا حبشيّْ..
ضيفانِ غريبان من الكوفة
هلا.. تلقانا..
وحشيّْ..
(يخرج وحشي وهو يترنح من السكر.. وفي يده كأس من فخار.. وعليه ثياب رثة.. يزيد ترنحه إلى أن يهوى أمام الكوخ.. ثم يعتدل جالسًا، وهو يترنح برأسه).
الثاني: جئناكَ من الكوفة نسْعى
اسمي: عقلانُ بن الأشرفْ
الأول: وأنا حمّالُ بن زيادْ.
الثاني: دع عنك الخمرَِ... وعَبَّ الخمرْ..
الأول: واسمعْ ـ افتح عينيكَ وأذنيكْ..
الثاني: لا خمرَ الآن..
دع عنك الكأسَ وشربَ الخمرْ
(يأخذ من يده الكأس ويلقي بها جانبًا) (يرفع وحشي رأسه في تثاقل، ويتكلم بنبرة ثقيلة بطيئة):
الخمر!!
هل أشربُ هذي الملعونةَ إلا كي أحيا في غيوبة؟؟
كي أنسى مأساتي.. آثامي.
ودماءَ الطاهرِ عمِّ رسول الله..
الأول: حمزة ؟؟
وحشي: حمزة..
الثاني: ولذلك جئنا..
فلْتقصصْ خبرَ المأساة..
الأول: من أولها.. حتى الآخرْ..
هَهْ.. كيف التقيتَ بسيد الشهداء حمزة ؟
(ينهض وحشي متثاقلاً، ولكنه أكثر وعيًا.. وينظر إلى الأفق الممتد كأنما يستمده أحداث الماضي).
وحشي: سيد الشهداء حمزة.. حمزةْ.. حمزةْ..
تابعتُهُ.. راقبتُهُ..
ورأيتُهُ امتشقَ الحسامْ.
فكأنما استلَّ السعيرَ مِنَ الظلامْ
ـ خَلَّوا الطريقَ لحمزةٍ..
فيمينُهُ..
تسقى أعاديهِ المرارةَ والحِمام .
ـ يا حمزةَ الحربِ اتئدْ..
(لا يتئدْ)
وقريشُ في فرٍّ.. وفرْ.
لكنَّ حمزةَ كان كالليثِ الهصورِِ
مضىَ عَلَى كرٍّ.. وكرّْ.
مترجِّلاً يُرْدِى الفوارسَ في ثباتْ.
ورأيتُ بعضَهمُو من الفزع الرهيبِ
هوى وماتْ
الأول: وأينَ كنتَ وحمزةٌ يجتاحُ جيشَ الكافرينْ؟
الثاني: ويمزقُ الأبطالَ كالأسدِ الهصورْ ؟
وحشي: أنا ؟.. أنا ؟
قد كنتُ مختبئًا بعاري خلفَ صخرةْ..
متلمسًا من حمزةِ الحمَلاتِ غِرَّةْ..
أنَّى لِمثْليِ..
أو ألوفٍٍ مثل مِثْلي.
أن تواجه ذلك العصْفَ الرهيبْ. ؟!!
لكنما بالغدرِ ينتصرُ الجبانُ.. ولو لِحينْ
"يأيها الحبشيُّ.. يا وحشيُّ..
هذا اليومُ يومُكْ
فبطعنةٍ نجلاءَ مِنْ وكري الخفيِّ
أفكُّ عن عنقي الذليل قَيودَ رِقىَّ
وأعيشُ حرا، لا أباع كما المتاعْ
اليومُ يومُك يا لئيمْ.
اليومُ يومُك يا زنيم".
الأول: هل كنت تمتشقُ الحسامْ ؟
وحشي: أمتشقُ الحسامْ ؟!!
أنَّى لمثلي أن يجرِّدَ سيفَهُ
ليواجه الموتَ الزؤام ..؟
بل كان رُمحي في يَدي
قبَّلْتُه
وهززتُهُ حتى استقامْ
ورضيتُ عنْه.
ونفثْتُ فيه حقارتيِ ودعارتيِ
وبقدر ما حُمِّلْتُ
من أرَقِ السنين الهالكةْ
وبقدْر ما عُذِّبْتُ
في سودِ الليالي الحالكةْ
أرسلتُ رمحي النذلَ منهومَ السنانْ
أرسلتُهُ من مخبئ في صخْرتي
فأصابَ عُمْقَ حشاهُ
حتى استل منه الروحَ
في صمتٍ رهيبْ..
الثاني: هل قال شيئًا عندما
غاصَ السنانُ ببطنهِ؟
وحشي: يا ليتَهُ قد قال شيئًا
أيَّ شيْء..
لكنه ألقَى عَلَيَّ بنظرةٍ بَصَقَتْ عليّْ
"لِمَ لِمْ تواجهْني بسيفِك يا جبانْ ؟
أوَ لَسْتَ تملكُ لمحةً مِنْ أرْيحَيَّةْ ؟
أوَ ليسَ فيكَ رجولةٌ
في حَدِّها الأدْنى الضئيلْ؟
حتى تلاقِى فارسًا، أو راجلاً
وجهًا لوجْهْ ؟
الأول: لكنْ شعورُك بعد أن سقَطَ البطلْ ؟
وحشي: (في أسى شديد، ونبرة متهدجة)
آه...
ويسودُ صمتٌ كالحُ الوَجناتِ أغْبَرْ
وتعلقَتْ عيناي بالبطلْ الصريعِ
ووجهُِهُ الزاكيِ المعَفَّرْ.
فرأيتُهُ..
متشبثًا بالسيفِ في يمناهُ
لم يتخلَّ عَنْهْ
الثاني: في نزعه الموْتىِّ..
لم يتخل عنه ؟؟!!
وحشي: في نزعه الموتىِّ. لم يتخلَّ عَنْهْ..
فكأنما وُلِدا معا.
الثاني: والرمحُ في أحشائِهِ ؟
وحشي: والرمح في أحشائِهِ.
ورأيتُهُ.
وبكفِّه اليُسرى..
يحاولُ نَزْعَ رُمحي مِنْ حشاهْ
كيما يُقَاتِلَ من جديدْ
لكنّ سِنَّ الرمحِ كان بعمْقِ بَطْنِهْ
يمتصُّ مِنْهُ نخاعَهَ
ودمَ الترائبِ والكبدْ..
(في نبرة صارخة متلاحقة.. وعلى وجهه أمارات الفزع)
يالعنةَ الشيطانِ..!!
حمزةُ لم يمتْ..
ما زالَ حيًّا يَنْبضُ...
يالعنةَ الشيطانِ...
حمزةُ هل يقومْ؟!!
ليواصلَ الهجماتِ في حسمٍ مُدمِّرْ؟!
يا حمزة الحملات.. مُتْ
مُتْ.. لا... لا تقُمْ
فأنا جبانْ
مُتْ.. لا تقُمْ..
لا تنهضنْ ... حتى أعيشْ
آه...
لا هندُ تدفعُ سيفَك المغوارَ عنِّي
أو ألوفٌ مثلُ هندْ
ولا جبيرٌ
ابنُ مُطْعِم
أو ألوفٌ من جُبَيْرْ (يضع وجهه في كفيه ويجهش بالبكاء)
الأول (هامسًا لصاحبه الثاني):
هندٌ؟.. جُبيرْ؟!
ما شأنُ هندٍ.. أو جبيرْ؟
الثاني: فلنستمع ماذا يقول..
قطعًا سيذكر عنهما خبرًا يقينْ
وحشي: (يواصل كلامه)
ويلاهْ..
نظراتهُ.. كادتْ تَشُلُّ النبضَ
في قلبي الهلوعْ
نظراته سدَّت أمامي كلَّ وجهٍ للهربْ..
(يعلو صوته في نبر مختنق متلاحق):
أين الطريقْ؟
الشمسُ تُشْرِقُ من هُنا ؟!
لا.. من هناكْ..
أنا لا أرى شمسًا
ولا ليلاً..
ولا نجمًا..
ولا قمرًا..
ولا جبلاً..
أنا هاهنا ؟!
أم ها هناك ؟
ما عُدتُ آعرفُ ما هنا..
ما عدتُ أدري ما هناك
أنا لستُ شيئًا ها هنا.
أنا لست شيئًا ها.. هناك..
إني حقير مثلما سقطِ المتاعْ..
إني ضياعْ..
إني عَدَمْ..
إني.. هلاكْ..
يا ويلتا يومَ الحسابْ.
يا ويلتا يومَ الحسابْ..
(يحثو على ركبتيه كمن يجثو للتشهد في الصلاة، ويحني رأسه ويدفن وجهه في كفيه، ويجهش بالبكاء.. يلتفت الأول إلى صاحبه قائلاً):
لكنَّهُ ذكرَ ابنَ مُطْعِم...
(موجهًا كلامه إلى وحشي):
هل كان سيدُك ابن مطعمْ.
ذا يَدٍ في قتلِ حمزة ؟!
(ينهض وحشي في بطء، وينظر إلى الأمام ورأسه مرتفع بعض الشيء إلى أعلى، وكأنه سيتحدث إلى شخص غير مرئي):
آه..
هل قادني للنار إلا سيدي..
ابن الأكابر..
ابنُ مطعمْ. (بصوت أحدّ وأعلى):
يا سيدي... يا ابنَ الأكابر
يا جبيرٌ.. يا ابنَ مطعمْ.
أعطيتني حريتي ؟؟!
هَِهْ..!!
أعطيتني حريتي؟؟! (محاولاً تقليد صوت سيده)
"يأيها الحبشيُّ.. يا وحشيُّ..
أنت اليومَ حرْ.. (يعود إلى لهجته الأولى)
سُحقًا لها حريةً..
حققتها غدرًا بدمْ..
يا سيدي يا ابنَ الأكارِم
يا ابن مطعمْ..
أنا لم أنلْ حريتي..
ما زلتُ أرْسِفُ في العُبودةْ..
يا سيدي يا ابنَ الأكابرِ يا جبير...
أرأيتَ هندْ...؟
أرأيت هند...؟
الثاني: هندٌ.. نعمْ..
ما بالُ هندٍ؟
قلْ لنا..
هل حرضتْكَ غداتَها كي تقتلَهْ ؟
وحشي: (دون أن يلتفت إلى سؤاله)
هندٌ هنا..
هندٌ هناك..
ليستْ هنا..
ليست هناك.. (وبصوت هادئ فيه بكاء..)
قد كان آخرَ ما رأيتُ بكفها السكينُ
يوُمضُ مثلَ عينَيْ أرْقمِ..
تهوي به في بطنِ حمزْة..
فيعانقُ السكينُ سنَّ الرمحُ
في اعماق بطنِهْ...
وتلوكْ هندٌ كِـبْد حمزةْ
وتلوكُ هندٌ كِبْد حمزة
ويسيلُ من فمها فتاتٌ من كَـبِدْ
قدْ خالطتْهُ خيوطُ دمْ (لحظة صمت ويعلو صوته في صراخ)
"يا هندُ أنتِ من الحرائرِ..
من بيوتاتِ الشرفْ
ما كنتِِ مثلي خسةً.. وحقارةًً..
وضياعَ أصْلْ" (تهدأ نبراته بعض الشيء)
لكنَّ هندًا أنعمتْ
يا ليتها ما أنعمت
برَّتْ بوعد لم تخنْهُ (يرق صوته)
"يأيها الحبشيُّ.. يا وحشيُّ
يا أسدًا هصورْ
هذى دنانيرٌ مائهْ
صيغتْ من الذهب الخِلاصْ..
اقتله.. تُجْـزَ بها..
فأنت بها جدير" (يعود إلى صراخه الناشج):
وجبيرُ قال لِيَ: "انطلقْ
فلقد وفيْتَ بما وعدْتْ
فلتنطلقْ..
حرًا ككل السادةِ الأمجادِ
في أرضِ العربْ"
الثاني: وحشيُّ.. يا حبشيُّ..
فلتهدأ قليلاً..
وكفاك أنك صرتَ حرًّا.
من تسلط بنت عتْبه
وكذاك من رقّ ابن مُطعِمْ
ما عدتَ يا وحشيُّ عبدًا في قريشْ
هل بعد ذلك نعمةٌ؟
وحشي: حرٌّ أنا مِنْ أسْرِ هِنْدْ ؟!
حر أنا من رقِّ سيدنا جُبيرٍ
أو قريش ؟
آه..
حرٌ أنا
لأغوصَ في أسْر الدمِ الزاكي النقيٍّ ؟
وأعيشَ عبدَ الإثم
مقهورًا شقي.
فأنا تلاحقُني صباحَ مساءَ
أحزانُ النبيْ (بصوت حزين)
رباه..
من ذا قد طعنْتْ ؟
من ذا قد طعنت ؟
محمدًا.. أم حمزةً ؟
يا ويل أمي!!
قد كان حمزةُ من رسول الله أُمَّهُ
قد كان منه أباه.. والحامي الوفِيْ.
قد كان حمزةُ حصنهُ العالي القوِيْ..
الأول: ونعيدُ ما قلناه:
أنَّك صرت حرًا..
من يومها ما عدتَ رهن القيدِ والرقّ! الذَّميمْ.
وحشي: حرٌّ أنا منْ رقِّ هندٍ
وابنِ مُطعم أو قريشْ ؟
لأعيش عبدَ الذكريات
الذكرياتِ الساعراتِ القاتلاتْ..
يأتين في حَلَكِ الليالي المُسْهَدَاتْ
يطرقْنَ بابي
"قُمْ لا تَنَمْ..
قسما بأنك لن تنامْ".
الذكرياتُ الساعرات
يطرقن بابي
يطرقن بابي
بابي أنا ؟
أأقولُ بابي ؟؟
هل لعبد غادر بابٌ ليُطْرق ؟
هل لمن قتلَ الكرامَ بغدرِهِ
بابٌ يقيهْ ؟
الذكرياتُ الساعراتُ
يَهِجْنَ في حَلَك الليالي
يطعنَّ قلْبي في قساوةْ
يجلدنَ ظهري في ضراوةْ
"لا تنمْ
أنا دمُّ حمزةْ
لا تنمْ
وذُقْ الألمْ
أنا صوتُ حمزةَ أيها العبدُ الزنيمْ
أنا سيفُ حمزةَ ما غُمِدْ
يا أيها الوحشيُّ..
لن يجدِيكَ في يوم ندمْ"
الأول والثاني معًا: لا حول ولا قوة إلا بالله..
وحشي: يا هندُ.. يا بنتَ الغطاريفِ الكرامْ
أنا لا أنامْ.
يا ليتني قد دمتُ عبدًا يا ابن مطعِمْ
في معيتكَ الحرامْ
أرمي السهامَ على الطيورِ الغادياتِ الرائحاتْ
وأسددُ الرمح العقورَ على غزالٍ شاردِ
وأعودُ بالصيد السمينِ
إليك في ساع الغروبِ
لأطهوَ اللحم الدسمْ
لك والضيوفِ
وبعدها يقعون في سُكْرِ معربِدْ
يتغزلون بقدرة العُزى
ولاتٍ . أو مناةٍ أو هبلْ.
وتهيمُ كفى في البقايا من فتاتِ أو عظامْ
فإذا عثرتُ بعظْمةٍ
فيها بقايا من دسمْ
أمتصها من جوعِيَ المسعورِ
مجنونَ النهمْ
وأصبُّ في فميَ المُعَنَّى
ما تبقَّى من ثُمالاتِ الكئوسْ
ولسانِيَ المنهومُ يلعقُها ككلبٍ ظامِئ
وأروحُ في نومٍ عميقٍ بعْدَها
عندَ الجدارْ.
الثاني: لا حول ولا قوة إلا بالله
رفقًا بنفسِك يا فتى.
وحشي: قد كنتُ يا هندٌ أنامْ
مستشعرًا طعم السلام
واليوم عَزَّ علي ـ يا هندُ المنامْ.
وأعيش مسلوبَ السعادةِ والسلامْ (يجهش بالبكاء)
الأول: (يربت على كتفه):
رفقًا بنفسك يا وحشيُّ..
ولتهدأ قليلاً.
وحشي: آه..
في ليلىَ المصلوبِ
أشهدُ سيفَ حمزةْ.
في صباحي والظهيرة والأصيلْ
ينتابني الفزعُ الوبيلْ
فتردِّدُ الوديانُ: حمزةْ..
حمزةْ.. حمزةْ
وأفرُّ مخلوعَ الفؤادْ
وأظلَّ أعدُو
فيكادُ يقتلني الظمأْ
فأمدُّ كفي كي أعبَّ الماءَ
من بئرٍ بعيدةْ..
فإذا بماء البئر يصرخُ عاصفًا:
"لا تشربَنْ
فأنا مصيرُك أيها العبدُ العَفِنْ
أنا صوتُ جرحٍ نازفٍ
بدماء حمزة".
وأعودُ أعدو من جديدْ
ويكاد يقتلني اللهاثْ
فلأسترحْ
ولأمسحْ العرقَ الصبيبَ براحتي
فأراه أحمرَ قانيًا
وكأنه من دمِّ حمزة
فأواصلُ العدْوَ المثقَّلَ بالفزعْ
لكنْ إلى أينَ المفرُّ، ولا مفرْ؟
رُحماك ربي: لا مفرْ
لا مستقرَّ
ولا مقرّْ!! (يدفن وجهه في كفيه ويجهش بالبكاء)
الثاني: لكنما أسلمتَ يا وحشيُّ بعد جريمتكْ
وشهدتَ أن الله واحدْ
ومحمدًا هو خاتمُ الرسْلِ الأمينْ
الأول: والدينُ يمحو كلَّ ذنبٍ قبلهُ.
وحشي: أسلمتُ حقًا.
وشهدتُ أن اللهَ واحدْ
وشهدتُ أن رسولَه الهادي الأمينْ
هو خاتمُ الرسْلِ الكرامْ.
الثاني: ومَثَلْتَ بيْن يَدَيْ رسولِ الله
تعلنُ توبتَكْ؟
وحشي: أقعيتُ بين يديهِ في ذلِّ ذليلْ..
"يا سيدي.. أسلمتُ
أشهدُ أن رب الخلقِ واحدْ
أسلمتُ
أشهد أنك الهادي الأمين
وختامُ كل المرسلين"
الأول: وبما أجاب. ؟
وحشي: "هلْ أنت قاتلُ سيدِ الشهداءِ حمزةْ". ؟
ورأيتُ في عينيه دمعةْ
وشعرتُ بالزلزال
في جوف البسيطة يضْطرمْ
فهتفت مصروعًا مُعَنَّى
"يا رسول الله عفْوًا".
فيقول:
"فلْتغْربْ بوجهِكََ لا أراكَْ
ولا تراني.."
ـ "يا رسولَ الله عفوًا
ما قيمتي إن مِلْتَ عني ؟
ما قيمتي إن لم أرَكْ ؟
وجهي إذن حَمَّاُل آثامٍ
وأوزارِ وعارْ
سيظلُّ حتى الموتِ
رمزًا للخيانة والبوارْ
فأنا الأثيمُ ابن الأثيمْ
وأنا الزنيمُ ابن الزنيم.. (يشتد بكاؤه وتأخذه رعدة شديدة)
الثاني: مَهْلاً أيا وحشيُّ مهلاً..
فالوقت جزء من علاج المشكلات
كم من قتيلٍ قد قُتل
ومع السنينِ تذوبُ ذكراهُ.. وتُنْسَى..
وحشي: ليسَ منهمْ حمزةُ
ما كان حمزةُ بالقتيل الهيّنِ
قد كان حمزةُ من رسول الله
يُمناه القويةْ
قد كان حمزةُ من رسول الله
أمهُ.. وأباهُ.. والحامي الوفيْ
قد كان حمزة حصنَهُ العالي القويْ
ولذاك قال ـ وقوله صدقٌ وحقْ ـ
"سيدُ الشهداء حمزة"
الأول: لكنْ إذا لم تنس يا وحشيُّ
حاول أن تَناسَى
الثاني: بالتناسي تنمحي سودُ الفِكَرْ
الأول: وتموتُ كل الذكرياتِ الحالكاتْ
تموت شيئًا.. ثم شيئًا.
وحشي: أواهُ.. واكرباهُ..
هيهاتَ أن أنسى..
ويتركني سعارُ الذكريات
ودماءُ حمزةَ في سناني ملصَقَهْ
الأول والثاني (في نفس واحد)
دماءُ حمزةَ في سنانِكَ مُلْصقَهْ ؟!!!
وحشي: صبرًا عليّ
(يدخل كوخه ويخرج برمحه وسن الرمح أحمر اللون كأنه صيغ من الدم)
فلتنظرا (يقرب منهما سن الرمح)
هذي دماهُ الزاكياتُ بسنِّ رمحي
مرَّت ـ من السنوات تسعٌ
والدماءُ كما هِيَ..
(تظهر الدهشة على وجهَيْ الغريبين)
الأول: هلا غسلْتَ الرمحَ يا وحشيُّ حتى..
وحشي: قد غسلتُهْ.
آهْ.. كم قد غسلتُهْ
لكنما.. الدمُّ ثابتُ لا يزولْ
وكأنما قد صيغَ سنُّ الرمح
من لهبٍ ودمٍّ
لا حديدْ
وغسلتُهُ
آلافَ مراتٍ غسلتُهْ
والسنَّ أحمرُ.. لا يزولُ الدمُّ منْه
الثاني: عجبًا لأمرِكَ يا فتى..
فاتركْهُ.. أو حطّمْ سنانَهْ
وحشي: لم أستطعْ..
حاولتُ أن ألْقِي به
من فوقِ ثهلان
فخِلتُ الأرضَ مادتْ في عُيوني
ورأيتُني.. وكأنما
أهوِي إلى غورٍ سحيقْ
الأول: أضغاثُ أحلامٍ.. وصدقني
وحشي: تكونُ مع الظهيرةْ ؟!!
الثاني: قد يحلمُ اليقظانُ.. يا وحشيُّ
من فرطِ الفزعْ..
فيرى الحقيقة كالسرابْ.
الأول: ويرى السرابَ كأنه ماءٌ زلالْ
ـ ويرى الخيالَ كأنه عينُ الحقيقةْ
وحشي: لا ... لا
ما كنتُ موهومًا
ولا في أسْرِ أحلامٍ بصحوٍ أو منامْ
هذا هو الرمحُ المصبّـغُ بالدمِ
هاكمْ خذوه.. وانظروهْ
(يعطيهما الرمح.. ويدخل الكوخ ويحضر إناء فخاريًا به ماء. يأخذه الأول منه ويصب الماء على سن الرمح.. والثاني يحك السن بيده، ولكن اللون الأحمر لا يزول)
الثاني: إنه أمرٌ عُجَابْ..
ذاك شيء لا يصدَّقْ
وحشي: لا بلْ فقلْ:
إنها اللعنةُ قد صُبَّتْ عليَّ
أنا أسيرَ جريمتِهْ
.. فلْتأخذا الرمح الكئيب وخلِّصاني
الأول: نعم.. حتى نريحك من همومهْ
(يحاول أن يرفع الرمح ويمشي به فلا يستطيع)
يالَلْعجبْ..
ما أثقلَ الرمحَ الكئيبْ.
كأنه في الأرض نبتٌ ذو جذور ثابتهْ !!!
الثاني: (يحاول ما حاوله الأول فيعجز أيضًا..)
عجبًا فليس الأمرُ وهْما.. (يتناول وحشي رمحه بسهولة)
وحشي: صدقتماني؟؟
الأول: الله أعلم بالظواهر والخفايا
الثاني: والله غفارُ الذنوبِ
فتبْ إليه.. وكن نَصوحَ التوبةِ
ثم استقمْ..
سترى الجهادَ هو الطريقْ
الأول: فالزمه.. يا نعم الطريق (ينصرفان .. ويتجه وحشي لكوخه)
(ستار)
الفصل الثالث
(سلام الضمير)
المنظر: (ظهرْ جبل، وعلى اليمين واليسار طريقان إلى الوادي الذي لا يظهر للرائي.. وأمام ظهر الجبل نصبت خيمة كبيرة فاخرة مفتوحة للناظرين، ومعلق على مسمار بأحد أعمدتها عباءة مزركشة، وعصا جميلة مذهبة مسندة إلى العمود. وأمام الخيمة المفتوحة يقف عبدان أسودان في يدل كل منهما حربة.
يقف مسيلمة بن حبيب الكذاب هو وقرابة عشرين من أصحابه في أقصى الجهة اليسرى من قاعة المسرح حيث الجمهور (دون أن يشعر بهم أحد) وتبدأ مسيرة هذا الجمع مع أول صوت.. ويفتح الستار ببطء شديد عند بداية المظاهرة ولا يتم فتحه إلا بوصول الموكب إلى المسرح، على رأس هذا الموكب مسيلمة الكذاب وهو شخص ضئيل ـ نحيل مدبب الوجه. ويتميز عن بقية أفراد الموكب بثيابه الذهبية).
صوت: (بصوت جهوري قوي) :
مسيلمهْ بن حبيبْ
مسيلمهْ بن حبيبْ
نبيُّنا الحبيبْ
رسولنا الأريبْ
ما فيه ما يريبْ
مُسَيْلِمَااااا.. ياااا
المجموعة (مع التصفيق، وهم يتجهون إلى المسرح)
يا مسيلمه
هَهْ.. ها
يا مسيلمهْ
هه ها.
نصف المجموعة:
أنتَ نبيٌّ
أنت رسولٌ
أنت رسولٌ
أنت نبيٌّ
أنت نبيٌّ.. أنت رسولٌ
أنت رسولٌ.. أنت نبيٌّ
يَااا
الجميع: يا مسيلمهْ
هَهْ.. ها
يا مسيلمهْ
هَه ها
(تستمر الهتافات بالصورة السابقة إلى أن يصعد الجميع إلى المسرح ويجلس مسيلمة على وسادة مرتفعة وتجلس المجموعة حوله على وسائد أقل مستوى)
شخص (1): اليومُ يومكَ يا رسولْ.
شخص (2): اليومُ يومك يا نبيْ.
شخص (3): والنصرُ لكْ.
شخص (4): والغُنْم لكْ..
شخص (5): أنت الذي كسفَ الشموسَ بطلعتِهْ
شخص (6): أنتَ الذي كسَرَ الظلامَ بعزمَتِهْ.
شخص (7): السيفُ: سيفُكَ لا يطاقْ..
فطعامُهُ هامُ الملوكْ..
وشرابُه. الدمُّ المُراقْ
(تظهر مسحة من الغرور والزهْو على وجه مسيلمة وعلى فمه ابتسامة عريضة)
شخص (1): (وهو يميل على شخص (2) ويهمس في أذنه):
قلْ.. واصدقْنِيَ القولَ بربِّ الكونْ
هل تؤمنُ أن مسيلمةَ بن حبيبٍ
هذا المِسْخُ .. نبيٌّ ورسولُ ؟
شخص (2): لا والله..
لكنْ ماذا أفعلُ وأنا حنفِيٌّ من أرضِ حنيفةْ
أيْ أن قريشًا لا أنتسبُ إليها.
وأرى كذَّابًا منا.. خيرًا من صادقِ هاشمْ
شخص (1): (وعلى فمه ابتسامة عريضة)
لا تنْسَ كذلك أسمطتَهْ
حِمْلانٌ مشويّهْ
وثريدٌ عَبِقٌ يُجري الريقْ.
شخص (2): ومحمد لا يملكُ أسمطةً أو حُملانًا
بل كِسْراتٍ مِنْ خبْزِ قَديدْ
(يقهقهان في خفوت ولا يقطع قهقهتهما إلا دخول أحد رجال مسليمة)
الرجل (في لهجة متلاحقة)
يا سيدنا.. يا مبعوثَ الرب:
القائدُ مُجَّاعة بْنُ مرارةْ
نائبك المخلصُ
يأتي من ناحيةِ الوادي
كالسَّهم المارقِ
لهفان كأن الأمرَ خطيرْ
(بعد لحظات يدخل مجّاعة.. وعلى وجهه أمارات الاهتمام البالغ).
مسيلمة (وقد نهض في بشر معانقًا):
أهلاً بوزيري مُجَّاعةْ..
واشوقاهُ إلى عودتِك الميمونةُ
هَِيه..
ماذا يفعل أتباع أبي بكر؟ ما أخبار جنودهُمُو
الآن؟!
مُجّاعة (في لهجة متتابعة لاهثة):
يا مبعوثَ الربِّ
بثَثْتُ عيوني في كلِّ مَراقبِ هذا الوادي.
القومُ عليهم خالدْ..
الجميع (في فزع ولغط وأصوات متداخلة):
ابنُ الوليد؟
خَالدْ؟ خَالدْ؟
ابن الوليد؟
أقوى فرسانِ العربِ وأمهرُهُمْ
خَالدْ؟
خَالدْ؟
مُجَّاعة (يسكتهم بإشارة يده)
والحلُّ بنظري.. يا مبعوثَ الربّْ
أن تستنزلَ وحىَ الله
لنرى ما سوفَ يئولُ إليه الأمْرُ.
وماذا نفعلُ في غدنا
مسيلمة (في سخرية مشوبة بالغضب):
ما هذا يا مجاعةُ.. يا ابنَ مرارهْ!!
ما هذا.. يا يَدِيَ اليمْني!!
أستنزلُ وحْيًا؟
أستدعي مَلكًا؟
هل أكذبُ وأقولُ: الوحيُ نزلْ؟
الوحيُ أنا لا أستنزلُهُ
بل ينزله الله عليَّ متى شاء.
(لحظات من الصمت.. ثم بصوت بطيء هادئ)
لنزولِ الوحي علاماتٌ:
نفسانيهْ.
.. جثمانيهْ
.. وعصا..
وعباءةُ تسترُ عنكم ـ لا عَنِّي ـ
رؤيةَ حاملِ هذا الوحْى إليُّ
أعني المَلَكَ المبعوثَ إليّ بوحيِ الله..
لكنْ من يدري؟
قد ينزلُ هذا الوحي إذا..
(تظهر عليه علامات الاضطراب.. ويهتز اهتزازات شديدة كمن أصيبَ بصرع.. ويتمايلُ في شدة وسرعة يمنةً ويسرة.. ويصرخ):
أََ أََ أََ أََ أََ أََ
الـْ الـْ لِلِـ لِلِـ
الو حْ حَ حَ الوحي..
الجميع (في صوت واحد) الوحيُ.. الوحيْ..
(وفي أصوات مختلطة):
العباءةَ والعصا..
العصا.. العصا..
العصا والعباءة..
(يهوى مسيلمة جاثيًا على ركبتيه، ويسرع مجاعة بتناول العباءة ويطرحها على رأس مسيلمة رافعًا مقدمها بالعصا فتكون شبيهة بالخيمة.. وتستر العباءة جانبي مسيلمة وجانبي وجهه ولا يظهر من وجهه إلا جزؤه الأوسط . يسود الصمت لحظات.. ويهدأ مسيلمة) .
مجاعة: صمتًا صمتًا..
لا ينطق أحدكمُو حتى لو هَمْسًا
المَلَكَ مع المبعوثِ الرباني
ينزلُ بالوحي عليه الآنْ..
(فجأة تصدر من مسيلمة أصوات مضحكة يشبه بعضها صوت امرأة أجاءها المخاض)
مسيلمة: آه.. آه.. آه
لا لَلا لَلَلا
إي.. إي.. إي
هيه.. هيه هيه..
حا.. حا.. حااا.. حاااا. حااا
شخص (1) وهو يغالب الضحك ويميل على شخص: (2)
ماذا؟ هل هذا وحي؟
هل مُسخَ مسيلمةُ حمارًا؟
(يهدأ مسيلمة بعد دقيقتين، ويلقي العباءة والعصا.. وينهض سريعًا.. وعلى وجهه أمارات البشر والسرور)
مسيلمة: طوبى يا أنصارَ رسولِ الله
مسيلمة بن حبيب
طوبى لكمُ يا منْ آمنتُمْ بِي..
الجميع: (في أصوات مختلطة في لهفة شديدة)
هَِيهْ ـ هَِيهْ .. يا سيدنا
ماذا قال الوحيْ ؟
ماذا قالْ ؟
مسيلمة: الوحْيَ يقولْ
خالدُ مقتولْ
وأنا المنصورْ
عددُ القتلى منهم بالتقريبْ
عشرةُ آلافٍ بالتقريبْ
كلهمُو في نارِ جهنمْ
أما قتلانا بالأكثرْ
فقرابةُ خمسةِ فرسان
وهمو في جنة رضوان
وأنا المنتصر الجبار
أحرق أعدائي بالنار
(يهلل الجميع.. ويهتفون)
يا مسيلمة
هَهْ هَا
يا مسيلمةْ
هَهْ ها!!
أنت نبيٌّ أنت رسولٌ
أنت رسولٌ أنت نبيٌّ
يااا
يا مسيلمةْ.. هَهْ... هيه..!!
مسيلمة: (وهو يلوح بيده ليصمت الجميع)
ولأن النصرَ القادمَ لا مِرْيةَ فيهْ..
قررنا ـ نحنُ رسولََ اللهِ ـ مسيلمةَ بنَ حبيبْ
تخفيضَ الصلواتِ اليوميةْ
فنصلي ثِنَتَيْن فقط بدلاً من خَمْسْ..
(يعلو التهليل مرة أخرى)
مجّاعة: هاتوا نخبَ النصرِ القادمْ
هاتوا النخْب
(يظهر أحد العبيد ويصب الخمر في كؤوس ويدور بها على الحاضرين)
والآن.. فلنضحك من خيبة خالدْ
وجنودِ محمدْ (يتجه إليه الجميع بأنظارهم)
أحدُ عيوني أخبرني:
شاهَدَ في قلب الجيشْ
عبدًا عملاقًا
معه رمحٌ مصبوغُ السنِّ بلونِ الدمْ
يمشي في ركب القائِد خالْد
يبكي بالدمع الموجوعْ
ويقول بكلم مفجوعْ:
"هلْ يا رباهُ يقدَّرُ لي
أن أغسلَ عاري ؟
أن أطفِئَ في أعماقِي نارِي ؟
هل يا رباه بنفسِ الرمحِ
سأغسلُ عاري..
هل يا رباهُ.. ؟
مسليمة (مقاطعًا): مجنونٌ يهذي..
لكنْ هلْ حدَّثه خالد؟
مجاعة: ردّ عليه وقالْ:
يا وحشيّْ..
(أو يا متوحشُ) لا أذكرْ
اللهُ يُعينكَ يا مسكينْ
ستكفِّر عن كلِّ ذنوبك
شخص (2): لكنْ ماذا يعْني؟
مجاعة: هذيانُ جنون من طولِ السَّفَرِ
وبُعْدِ الشُّقَّةْ
هذا يحدثُ أحيانًا إن حلَّ النَّصَبُ
بجيشٍ زاحفْ..
(يدخل أحد قادة مسيلمة وهو يلهث):
القائد: يا مبعوثَ الرب..
خالدُ منا في مَرْمَى سهمينْ..
مسيلمة: (في اهتمام)
قل لي.. أنتم.. ما موقفكم؟
القائد: أعددْنا العَّدة كاملةً
للقاءٍ حاسمْ..
والنصرُ لنا:
الميمنةُ عليها معسورُ بْن الأَيِّدْْ
والميسرة عليها عيَّارُ بنُ فزارهْ
والقلبُ عليه
(يسمع صيحات مختلطة تزداد اقترابًا ووضوحًا وقوة وكذلك صهيل خيل وصليل سيوف وقعقعات سلاح)
الله أكبر.. الله أكبر..
الحربَ يا رجال.. الحربَ يا رجال..
(يجرد الجميع سيوفهم ويصرخ فيهم مسيلمة):
ـ هيا للحربِ.. بل النصْرْ.
النصرِ العاجلِ لا الآجلْ
فالوحيُ صدوقٌ لا يكذبْ.
(يمضي الجميع من اليمين واليسار إلى ميدان المعركة ويزداد الصخب والصياح.. وينطلق مجاعة ومسيلمة وراء الجمع، ولكن مجاعة يلتفت إلى مسليمة):
مجاعة: كنْ أنتَ هنا يا مبعوثَ الربّْ
لتديرَ المعركة من الخيمةْ
بأبي أنت وأمي يا مبعوث الرب..
(ينطلق مجاعة، ولا يبقى على المسرح إلا مسيلمة وحارساه العبدان . يزداد الصخب والهياج، والهتاف والصهيل والصليل . وفجأة يدخل وحشي من الناحية اليمنى وفي يمناه رمحه المعروف)
وحشي: (في صوت جهوري): أنا وحشيٌّ الحبشيُ
فأينَ الكذابُ مسيلمةُ؟
(يختبئ مسيلمة وراء الخيمة، ويصرع وحشي أحد حارسيه، بينما يهرب الثاني من الجانب الآخر من الجبل، يظهر مسيلمة أمام الخيمة مرة أخرى يدخل أحد رجاله صارخًا وعلى ثيابه آثار دم):
ـ يا مبعوثَ الربْ..
خالدُ مزَّق ميمنةَ الجيش وميسرتَهْ
مسيلمة: ومجَّاعة.. قل ماذا يفعلْ؟
القائد: استسلمَ وهْوَ الآنَ أسيرْ..
مسيلمة: أتقولًُ أسيرْ؟ أسير؟ (بعد لحظات من الصمت)
لا تأسَوْا.. فالنصرُ لنا
والْحَقْ بجنودكِ لا تبطئ (يسرع القائد خارجًا)
(بعد لحظات يدخل جنديان من جنود مسيلمة، وفي يد كل منهما سيفه)
الأول: لم يَبْقَ من القلب عدا مائةٍ.
الثاني: والقائدُ حيَّانُ بنُ الأجنبِ داستْهُ الخيلْ
الأول: ماذا نفعلُ يا مبعوث الرب ؟
(في هذه اللحظة يدخل وحشي من الجهة الأخرى، وهم لا يشعرون به)
وحشي: (صارخًا): مبعوثُ الربّْ!! الله أكبر (يهرب الجميع إلا مسيلمة)
ـ هأنذا ألقاكَ أخيرًا.
يا مبعوثَ الشيطانْ..
لن يشفيني من دائي غيركْ.
واشوقاه إلى دمِكَ الملعونْ
مسليمة: (في خوف وفزع)
لكنْ منْ أنت..؟
وحشي: إنّي قدرُكْ..
إنّي موتُكْ..
أنت الداءُ ـ وأنتَ شِفائِي..
مسليمة (في هدوء): لم أفْهم شيئًا مما قُلْتْ
فانظر خلفَكْ .. (ينظر وحشي.. فيولي مسليمة هاربًا)
(فيسرع وحشي وراءه.. وأثناء انعطافه إلى الجانب الأيسر من الجبل يسدد إليه وحشي رمحه.. فيعود مسيلمة إلى المسرح والرمح مغروس في ظهره في الوقت الذي دخل فيه بعض الجنود إلى المسرح وهم يهتفون هتاف النصر..)
ـ الله أكبر.. جاء الحقُّ وزهق الباطلْ إنَّ الباطل كان زَهوقًَا.
(ينزع وحشي رمحه من ظهر مسيلمة في فرح غامر):
وحشي: سقطَ الباغي الكذابُ الأشِرُ.
حمدًا لله..
حمدًا لله..
بيدي أسقْطتُ الباغي الكذابْ
(ينظر إلى رمحه ويقبله)
يا رمحي..
بسنانِكَ أرديتُ عظيمَ الناسْ.
وصَرَعْت بكَ اليومَ الشيطانَ الخنَّاسْ
(يمسح سنان الرمح بطرف ثوبه فيزول أثر الدم ويبدو أبيض ناصعًا.. فيهتف بفرح عظيم)
حمدًا لله. حمدًا لله.
قد زالَ الدمّْ
ما عادَ لحمزةَ في رمحي دَمْ
حمدًا لله..
حمدًا لله..
أطفأتُ بأعماقي بركانَ النارْ
حمدًا لله..
فغدًا ألقاهْ.
بالوجهِ الآخرِ ألقْاهْ.
ورسولَ اللهْ
بغدٍ ألقاهْ
في جنةِ رضوانٍ ألقاهْ
وأقولُ بقلبي ولساني
لرسولِ اللهْ..
قد زالَ عن الرمح العارْ
ما عادَ على رمحي عارً
ما عاد علي وجهي وصمةُ عارْ
حمد لله..
حمدًا لله..
(ستار)