المقراض
من المسرح السياسي (11)
بقلم الأديب الكبير: علي أحمد باكثير
(في مكتب الرئيس بالقصر الأبيض)
السكرتيرة: إنه يعلم يا سيدي أنك في مكتبك.
الرئيس: فقولي له إذن إني متوعك وقولي له أيضاً إنه هو الذي أعداني بزكامه لما جاءني منذ يومين فهل يريد أن يعديني اليوم بفقره وإفلاسه؟
السكرتيرة: لكن يا سيدي....
الرئيس: قولي له ذلك ولا تخافي فإن هذا السفير البريطاني صفيق ولا يحس!
السكرتيرة: إنه يقول إن الأمر خطير.
الرئيس: خطير... هل عرضت إمبراطوريتهم في المزاد الدولي؟ أم هل أكلت تماسيح النيل جنودهم في القنال؟
السكرتيرة: لا ينبغي ذلك يا سيدي... إنه رجل مهذب...
الرئيس: هيه يا سكرتيرتي الصغيرة... لعلك أعجبك هندامه فخطر لك أن تأخذي بالثأر من امرأة المستر إيدن التي سرقت رجلاً أمريكياُ ونبذت زوجها الأنيق؟
السكرتيرة: (محتجة) ما هذا يا سيدي؟
الرئيس: يا حمقاء إن صاحبنا الأمريكي الذي سرقته امرأة وزير خارجيتهم رجل مليونير... أما سفيرهم هذا فإنه لا يساوي بكل ملابسه ونظاراته وبيته خمسمائة دولار حتى ولو صنعنا من المواد التي في جسمه صابوناً مثلاً كما كان هتلر...
(يخنقه البكاء عن إتمام كلامه)
السكرتيرة: يا ويلتنا... إنك لتبكي يا سيدي الرئيس... ماذا يبكيك؟
الرئيس: ويلك ألا تعرفين ماذا أبكاني؟ حزني على أولئك السادات الذين صنع هتلر من زيوت أجسامهم صابوناً... هيا اخرجي فقولي لهذا السفير البريطاني ما أمرتك.
السكرتيرة: سمعاً يا سيدي (تخرج).
الرئيس: (يتمتم محدثاً نفسه) أبكي.. علام أبكي عليهم؟ ما أشد حمقي! وددت لو أن الملعون هتلر قد تخلص منهم جميعاً.. إذن لخف ظهري من ثقل الأفضال التي يمنون بها عليّ!
(تعود السكرتيرة)
الرئيس: هل طردت السفير؟
السكرتيرة: كلا يا سيدي..
الرئيس: ويلك لِمَ لم تفعلي ما أمرتك؟
السكرتيرة: وجدت معه سفير إسرائيل يستأذن أيضاً لمقابلتك.
الرئيس: سفير إسرائيل! انطلقي فائذني له!
السكرتيرة: وسفير إنجلترا هل آذن له أيضاً؟
الرئيس: اتركيه أولاً حتى نفرغ من استقبال سفير إسرائيل!
(تخرج السكرتيرة ثم تعود ومعها السفيران اليهودي والإنجليزي)
الرئيس: مرحباً مرحباً بسفير إسرائيل! بعد.. أنتما اثنان وإنما أذنت لواحد فقط. هل لك يا مستر جونبول أن تنتظرني في بهو الاستقبال حتى أفرغ من مقابلة المستر كوهين لعله يريد أن يحادثني على انفراد؟
اليهودي: كلا يا سيدي الرئيس.. إن الأمر بيني وبين سعادة السفير البريطاني مشترك.
الرئيس: مرحباً بكما إذن.. تفضلا.
الإنجليزي: (يمد يده ليصافح الرئيس) ألا تصافحني أنا أيضاً يا سيدي الرئيس؟
الرئيس: لا داعي للمصافحة يا مستر جونبول فقد أعديتني بزكامك لما جئتني منذ يومين.
الإنجليزي: يؤسفني ذلك يا سيدي الرئيس.
الرئيس: ماذا ينفع الأسف الآن؟ تفضل.. اجلس.
اليهودي: ألم تأت المسز روزفلت بعد؟
الرئيس: المسز روزفلت.. دائماً يا مستر كوهين تسأل عن المسز روزفيلت! ما شأنها اليوم بيننا؟ لقد أخذت كل حوائجها من البيت الأبيض يوم غادر زوجها المر... إلى غير رجعة!
اليهودي: (في تهديد مستتر) تذكر يا سيدي أن لها مكانة في نفوس قومنا وأننا قد نستغني عن خدمات غيرها ولكنا لن نستغني عن خدماتها!
الرئيس: معذرة يا سيدي.. انس ما قلته في حقها وهبه كأن لم يكن.
السكرتيرة: (تظهر على الباب) المسز روزفلت يا سيدي.
الرئيس: أخرجيها حالاً!
السكرتيرة: (متعجبة) أخرجها؟!
الرئيس: أيتها السكرتيرة البليدة.. أخرجيها من بهو الانتظار وأدخليها هنا حالاً!
السكرتيرة: تفضلي مسز روزفلت! (تدخل المسز روزفلت)
الرئيس: أهلاً بربة البيت الأبيض سابقاً!!
هي: يا سيدي الرئيس إن الذين في أيديهم أن يقرروا "سابقاً أو لاحقا" هم جماعة هذا السفير الإسرائيلي الكريم!
الرئيس: أوه.. لقد زلَّ لساني مرة أخرى.. تفضلي يا مسز صهيون.. تفضلي!
هي: (غاضبة) ماذا تقول؟
الرئيس: لا تغضبي.. لقد ظننت أن هذا لقب تشريف لك.
هي: أجل إنه للقب تشريف، ولكني لا أدعى هكذا في الناس.
الرئيس: إذا أبيت إلا التواضع يا سيدتي فسأدعوك مسز روزفلت.. تفضلي يا مسز روزفلت!
اليهودي: تعالي يا سيدتي اجلسي هنا بيني وبين المستر جونبول.
هي: شكراً يا مستر كوهين.
(يتهامس الثلاثة)
الرئيس: عجباً... إنكم تتهامسون أنتم الثلاثة... كأنكم كنتم على ميعاد لتقابلوني؟
اليهودي: نعم.
الرئيس: ترى ماذا حدث في الدنيا وأنا لا أعلم؟
اليهودي: المقراض يا سيدي.. المقراض!
الرئيس: المقراض.
الإنجليزي: نعم يا سيدي الرئيس.. المقراض.
هي: المقراض الذي سيقطع رقابنا جميعاً!
الرئيس: رقابنا نحن الأربعة؟
هي: (متأففة) أوه! هذه كناية.
الرئيس: أفصحوا بحق السماء.. إني لا أحب الكنايات ولا أفهمها.
اليهودي: لقد قضي على أمل الإنجليز في التفاهم مع إيران إلى الأبد.
الرئيس: أهذا كل ما هناك؟ ويلكم لقد روعتموني! سامحك الله يا مسز صـ.. عفواً يا مسز روزفلت. إنك تبالغين كعادتك... هلا قلت: رقبة إنجلترا بدلاً من قولك: رقابنا جميعاً؟
هي: بل رقابنا جميعاً... رقبة أمريكا أولاً.
الإنجليزي: ورقبة إسرائيل أيضاً يا سيدي الرئيس!
الرئيس: يا للداهية! الأمر إذن أخطر مما تصورت.. لكنكم لم تبينوا لي ما هذا المقراض وأين هو؟ في الشرق أم في الغرب؟
هي: في الشرق!
الرئيس: ها قد فهمت ما تقصدون... هذا المقراض في يد ستالين.. هه؟
هي: كلا!
الرئيس: في يد صاحبه زعيم الصين؟
هي: كلا!
الرئيس: ففي يد من إذن؟ أفصحوا.. لقد كدت أجن!
اليهودي: في يد مصطفى النحاس باشا والدكتور مصدق!
الرئيس: النحاس باشا والدكتور مصدق.. هناك مقراضان إذن؟
هي: كلا بل مقراض واحد.
الرئيس: ويلكم أتريدون أن تغالطوني في أبسط قواعد الحساب؟... النحاس باشا واحد والدكتور مصدق واحد. واحد زائد واحد يساوي اثنين!
هي: (متأففة) أوه!!
اليهودي: تول أنت الكلام يا مستر جونبول لعلك تستطيع أن تفهم الرئيس!
الرئيس: ترى هل جاء هذا الأفاق الذي اسمه أنشتين بتقليعة جديدة فغير بها قواعد الحساب المعروفة؟
هي: كف لسانك عن هذا العبقري فإنه من الشعب المختار!
الرئيس: معذرة... لقد غاب ذلك عن بالي... ماذا أصنع؟ أنتم الذين أحدثتم في عقلي هذه البلبلة!
الإنجليزي: أصغ إلي يا سيدي الرئيس..
الرئيس: أجل أدركني يا مستر جونبول... اشرح لي!
الإنجليزي: ليس الجمع هو الذي وقع بل الضرب..
الرئيس: الضرب على رأس من؟
هي: (نافدة الصبر) أوه! على رؤوسنا جميعاً!
الإنجليزي: أعني الضرب الحسابي يا سيدي الرئيس.. واحد مضروب في واحد فكم الناتج؟
الرئيس: واحد طبعاً.. لكن من الذي ضرب أحدهما في الآخر؟
هي: أوه!!
اليهودي: دعيه يا سيدتي.. سيتولى المستر جونبول إفهامه!
الرئيس: أدركني يا مستر جونبول.. من الذي ضرب أحدهما في الآخر؟
الإنجليزي: أنت يا سيدي الرئيس.
الرئيس: أنا؟
الإنجليزي: نعم أنت
الرئيس:هذا محال يا مستر جونبول..في وسعي أن أثبت للعالم أجمع أنني ما قابلت النحاس باشا في حياتي قط ولا رأيته!
هي: أوه!!
الرئيس: (يتفجر غاضباً) أوه! أوه! في كل كلمة أقولها تقولين: أوه أوه!!
اليهودي: هدئ من غضبك يا سيدي الرئيس.. دعيه يا سيدتي... المستر جونبول سيتولى إفهامه!
الرئيس: أدركني يا مستر جونبول ويلك.. وإلا قمت من عندكم وتركتكم؟ أي يوم هذا في الأيام؟ لا شك أنه يوم نحس!
الإنجليزي: أصغ إلي يا سيدي الرئيس... ألم يكن الدكتور مصدق عندكم منذ أيام؟
الرئيس: الدكتور مصدق.. نعم. لكن النحاس باشا... لا؟
الإنجليزي: حسناً... والتمس منكم قرضاً لبلاده؟
الرئيس: نعم.
الإنجليزي: فجعلت أنت تماطله حتى غضب.
الرئيس: جعلت أماطله من أجلكم أنتم لأظفر منه بشروط لمصلحة بلادك أنت!
هي: فقد طار الآن إلى مصر!
الرئيس: وما ذنبي في ذلك؟ هل كان في مقدوري أن أمنعه عن الرحيل حتى لو أراد الرحيل إلى الكرملين؟
اليهودي: يا ليته طار إلى الكرملين! إذن لكان الخطب أهون!
الرئيس: ماذا تقول يا مستر كوهين؟ ويلكم.. ماذا جرى؟ ماذا حدث؟
هي: كل هذا من سوء تصرفك... آه لو كان زوجي حياً!
الرئيس: (محتداً) دعيني من حديث زوجك... أنا صاحب القصر الأبيض اليوم!
اليهودي: لا تختصما هكذا... إن الخطر الذي يتهددنا جميعاً لأعظم من أن نتخاصم فيه.
الرئيس: إني والله ما أدري هذا الخطر الذي تتحدثون عنه.. ألا تخبروني ما هو؟.
هي: (متشفية) أحقر مواطن أمريكي ولو كان من الزنوج السود يستطيع أن يدرك الخطر من زيارة الدكتور مصدق لمصر في هذه الظروف الحرجة!
الرئيس: ومن قال لك إنني لا أدرك هذا الخطر؟ ألم تعلمي أنني قد كلفت سفيرنا في إيران بأن يرفع إلى جلالة الشاه عدم ارتياحنا لتلك الزيارة.
هي: وهل أجدى ذلك شيئاً؟
الرئيس: ما ذنبي أنا في ذلك؟
هي: ألم تعرف بعد ما ذنبك؟ ما طلته في القرض حتى يئس وغضب!
الرئيس: هذا ليس ذنبي.
هي: ذنب من إذن؟
الرئيس: (ثائراً مهتاجاً) ذنب هذه الدولة التي نرقع فيها دون جدوى!.. هذه الدولة التي صارت عبئاً على ظهورنا لا يطاق.. هذه الدولة التي تريد منا دائماً أن نطعم رجالها ونساءها وأطفالها من مالنا ونكسوهم وننفق على مساكنهم ومصانعهم وملاهيهم! هذه الدولة التي أصبحت شبحاً لا حقيقة له وهي لا تزال تسمي نفسها "بريطانيا العظمى"!
الإنجليزي: (يتضاحك) سامحك الله يا سيدي الرئيس...
الرئيس: وتضحك أيضاً يا مستر جونبول؟؟
الإنجليزي: ماذا أصنع؟ شرُ البلية ما يضحك.. لو أنك راجعت نفسك قليلاً لتذكرت يا سيدي أننا لا ذنب لنا في مسألة القرض الذي طلبته إيران منكم.
الرئيس: ويلك ألم ترفع إلينا رجاء حكومتك أن ننظر بعين الاعتبار إلى مصالحكم في إيران؟ أتنكر اليوم ذلك؟
الإنجليزي: كلا يا سيدي ولكنا لم نطلب مماطلتكم للدكتور مصدق، بل طلبنا منكم التعجيل له بعقد القرض مع اشتراط ما يحفظ لنا بعض المصالح في إيران مما يمكن التفاهم معها عليه.
هي: ولكنك ما طلت وسوّفت واحتجبت عن لقاء هذا الزعيم الخطير حتى طار من يدك؟
الرئيس: أو يهمك يا مسز روزفلت صالح بريطانيا العظمى إلى هذا الحد؟ لعلك تفعلين ذلك من أجل الصداقة التي كانت بين المرحوم زوجك والمرحوم الآخر الذي اسمه تشرشل!
هي: كفى سخرية! مصلحة بلادي هي التي تهمني.. مصلحة الولايات المتحدة التي أنت اليوم رئيسها!
الرئيس: لكنا لم نفقد شيئاً بعد.
هي: بل فقدنا كل شيء.. فقدنا الأرباح التي كانت ستعود على بلادنا من ذلك القرض الذي لم يتم.
الرئيس: لكن ما ذنبي أنا في ذلك؟
هي: سياسة المماطلة التي اتبعتها مع الدكتور مصدق.. هذا ذنبك ألم تفهم بعد؟
اليهودي: رويدك يا سيدتي.. لا داعي الآن للوم الرئيس على ما قد فات. وعلينا أن نفكر جميعاً فيما يمكن تلافيه.
هي: كلا يا مستر كوهين.. لا بد من إثارة هذه المسألة في الكونجرس!
اليهودي: لا داعي يا سيدتي إلى ذلك.
هي: كلا بل لا بد من ذلك. إن دستورنا لم يخول رئيس جمهوريتنا السلطات الواسعة إلا ليحسن استعمالها في رعاية مصالح البلاد على الوجه الأتم وبأقصى سرعة ممكنة، لا ليضيع بها مصالح البلاد ويفوت عليها المنافع والأرباح!
الرئيس: اسمعي يا مسز روزفلت وافهمي ما أقول. إنك لن تجرئي على أن تثيري هذه المسألة في الكونجرس.
هي: ماذا يمنعني من ذلك؟ لست امرأة فرانكلين روزفلت إن لم أفعل!
الرئيس: لقد تبرأت من روزفلت فانظري إلى من تنتسبين؟
هي: سوف نرى!
الرئيس: أتريدين أن تعرفي السبب؟
هي: نعم أريد أن أعرف هذا السبب.
الرئيس: حكومة إسرائيل هي التي أوعزت إلينا أن نماطل الدكتور مصدق حتى يدرك – وهو الذكي الألمعي – أن سبيله إلى تحقيق هذا القرض هو أن تعود حكومة بلاده إلى الاعتراف بإسرائيل وإنشاء روابط المودة معها كما تفعل جارتهم تركيا.
هي: كلا.. لو كان هذا حقاً لبلغني ذلك فإن ساسة إسرائيل لا يخفون عني شيئاً.
الرئيس: لقد أخفوا عنك هذا الأمر في هذه المرة.. اعلمي يا مسز روزفلت وليعلم صاحبك المستر تشرتشل أنه بعد ما نفق ذلك الإفريقي الذي اسمه سمطس لم يعد في الدنيا أحد يساميني في المنزلة عند هؤلاء القوم.
هي: أصحيح: يا مستر كوهين ما زعمه الرئيس أن حكومتك هي التي أوعزت بالمماطلة؟
اليهودي: نعم يا سيدتي قد كان ذلك مع الأسف.
هي: (تنهض غاضبة) فاعتمدوا إذن بعد اليوم على غيري!
اليهودي: إلى أين يا سيدتي؟ ألا تبقين هنا حتى ننتفع برأيك ومشورتك؟
هي: كلا لم يعد لي في هذا المجلس مكان! (تخرج)
الرئيس: دعها تخرج.. أي رأي عندها وأي مشورة؟ ما للمرأة وللسياسة؟ للمرأة أن تحترف الغناء مثلاً إذا كان صوتها عذباً كصوت ابنتي مرجريت، أو التمثيل على الشاشة البيضاء. أما التردد على البيت الأبيض والتدخل في شؤون صاحب البيت الأبيض فالزنوج السود أحق منها بذلك!
الإنجليزي: بل ليتها بقيت معنا يا سيدي الرئيس لعلها تشير علينا برأي نافع.
الرئيس: رأي نافع في ماذا يا مستر جونبول؟
الإنجليزي: في هذه المشكلة.
الرئيس: أي مشكلة؟
اليهودي: مشكلة المقراض.
الرئيس: المقراض.. ويلكم ما هو هذا المقراض الذي ظللتم تتحدثون عنه دون أن تبينوا لي حقيقته؟
الإنجليزي: أجل لقد تشعب بنا الحديث يميناً وشمالاً دون أن نشرح للرئيس حقيقة هذا المقراض.
الرئيس: (منفعلاً) حذار الآن أن ينطق أحدكما بكلمة واحدة قبل أن تشرحوا لي هذا المقراض (بصوت عالٍ) ما هو المقراض؟!
اليهودي: مشروع القرض المصري الذي اتفق عليه الدكتور مصدق مع النحاس باشا لتسد به الحكومة الإيرانية حاجتها إلى المال لاستئناف العمل في إنتاج بترولها وإدارة معامل تكريره.
الرئيس: ماذا تقولان؟ من أين بلغكما هذا النبأ؟
الإنجليزي: من قلم استخباراتنا في مصر.
الرئيس: هذا لا شك خبر كاذب.. لم يعد لقلم استخباراتكم قيمة بعد ما جازت عليه حيلة النحاس باشا فأعلن إلغاء المعاهدة وهذا القلم نائم لا يدري شيئاً.
اليهودي: كلا يا سيدي الرئيس فقد تلقينا نحن أيضاً هذا الخبر من جواسيسنا في مصر!
الرئيس: يا للداهية! لكن لا تخافا.. من أين للحكومة المصرية أن تقرض القروض وهي نفسها بحاجة إلى القروض؟
الإنجليزي: إنه قرض وطني يا سيدي ستطرح أسهمه على الشعب.
الرئيس: أو تظنان أن الشعب المصري سيقبل على شراء أسهمه؟
اليهودي: لم لا يا سيدي؟ إنه سيفيد مصر اقتصادياً إذ سيمتص كثيراً من تضخمها النقدي، ويساعد أغنياءها على تشغيل أموالهم المعطلة في البنوك والمصارف، كما يساعد عامة الشعب على التوفير والادخار.
الإنجليزي: ثم لا تنس يا سيدي هذه الآونة بالذات إذ بلغت حماستهم الوطنية درجة الغليان.
اليهودي: أضف إلى ذلك أن الحكومتين معاً تضمنان هذا القرض.
الرئيس: لكن كم مبلغ هذا القرض؟
الإنجليزي: لا ندري على التحقيق كم مبلغه.
الرئيس: لن يتجاوز مليونين أو ثلاثة على أي حال، فماذا يصنع هذا القرض لإيران وهي في حاجة إلى مائة وعشرين مليون دولار؟
الإنجليزي: هذا صحيح ولكن وجه الخطورة في هذا المشروع أنه قد يكون فاتحة لمشروعات مماثلة في البلاد الإسلامية الأخرى، فقد بلغنا أن المصريين سيقومون بدعاية في باكستان وأفغانستان والعراق والمملكة العربية السعودية لتساهم بدورها في هذا القرض.
الرئيس: يا لليوم الأسود, هل تدريان ما معنى هذا إن نجح؟
الإنجليزي: معناه القضاء على سلطان الدولار في رقعة كبيرة من العالم.
اليهودي: بل ربما في العالم كله بعد ذلك.
الإنجليزي: أجل ستعقد قروض مثل هذا بين بعض الدول الإسلامية وبعض، من الدار البيضاء غرباً إلى إندونيسيا شرقاً كلما احتاجت إحداهن إلى القيام بمشروع لاستثمار مواردها التي لا تنضب.. ثم قد تعقد القروض بعد ذلك بين هذه الدول الإسلامية وبين سائر الدول الشرقية كالهند وبورما والحبشة وربما الصين بعد ذلك واليابان والفلبين.
الرئيس: (فزعاً) اسكت! لقد روعتماني.. لقد كدت أجن. هذا خطر أعظم من خطر الروس.
اليهودي: بل أعظم من خطر ألمانيا الهتلرية. تصور يا سيدي الرئيس ماذا يكون مصير إسرائيل يومئذ.. إسرائيل التي أنفقتم في إنشائها الأموال وعقدتم عليها الآمال؟
الرئيس: أجل. ماذا يكون مصير إسرائيل؟ أستطيع أن أتصور زوال بريطانيا من الوجود بل أوروبا كلها بل حتى الولايات المتحدة، ولكن الهلع يقتلني إذا تصورت زوال إسرائيل!
اليهودي: مرحى يا سيدي الرئيس! مرحى يا سيد حكماء الأرض!
الرئيس: سجل كلمتنا هذه وبلغها لحكومتكم ولجميع هيآتكم في العالم.
اليهودي: سأفعل يا سيدي الرئيس.. إنها كلمة عظيمة لا يستطيع أن يقولها إلا عظيم مثلك!
الرئيس: ويلكما لا بدَّ من العمل السريع.
الإنجليزي: أجل.. إنا ما اقتحمنا عليك البيت الأبيض على غير موعد سابق إلا لنحثك على العمل السريع لتلافي هذا الخطر الداهم.
الرئيس: أين سكرتيرتي؟ مس آلن! مس آلن!
السكرتيرة: (تدخل) نعم يا سيدي الرئيس.
الرئيس: اتصلي بجميع مستشارينا ليحضروا حالاً.
السكرتيرة: المستشارين الرسميين يا سيدي؟
الرئيس: الرسميين وغير الرسميين... ابدأي أولاً بغير الرسميين... ابدأي بالمستر باروخ والمستر مورجنتاو وسائر العصبة!. هيا هيا أسرعي.
السكرتير: حالاً يا سيدي حالاً. (تخرج)
الرئيس: وأنتما أليس عندكما ما تشيران به عليّ ريثما يحضر هؤلاء؟
اليهودي: أن تتصلوا بأسرع ما يمكن بالدكتور مصدق في مصر قبل أن يبرحها إلى بلاده.
الإنجليزي: وتعرضوا عليه ما يشاء من القرض بكل سخاء حتى يعدل عن ذلك المشروع الخطير.
الرئيس: أجل سنقرض إيران أي مبلغ تريده ولو استغرق كل الاعتمادات التي خصصت للنقطة الرابعة!
اليهودي: أجل هذا عين الصواب يجب تدارك هذا الأمر بأي ثمن.
الرئيس: سنعطيها القرض بدون قيد ولا شرط.
الإنجليزي: نعم. نعم.. لكن لا بأس يا سيدي الرئيس أن تشترطوا عليها التفاهم معنا لضمان بعض مصالحنا هناك.
الرئيس: كلا.. لتذهب مصالحكم إلى الجحيم.. سنعطيها القرض بدون قيد ولا شرط.
اليهودي: صدقت يا سيدي.. بدون قيد ولا شرط.. اللهم إلا أن تلتمسوا منها أن تعود إلى الاعتراف بإسرائيل فإنها لن ترفض ذلك ولا سيما إذا أجزلتم لها القرض بكل كرم وسخاء.
الرئيس: طبعاً طبعاً يا مستر كوهين.. هذا شرط لا جدال فيه.
الإنجليزي: وإنجلترا يا سيدي الرئيس؟
الرئيس: حسبها أننا سنضمن لها البقاء في الوجود!
اليهودي: وسيبقى لها أيضاً لقب "بريطانيا العظمى"!
الرئيس: أجل.. ثق يا مستر جونبول أننا لن نجرّد دولتك من هذا اللقب.
الإنجليزي: ماذا نصنع بهذا اللقب يا سيدي الرئيس؟
الرئيس: اصنعوا به ما تشاؤون.. خوفوا به من لا يزال يخافكم من زنوج أفريقيا الاستوائية!
الإنجليزي: حتى هذا اللقب يا سيدي الرئيس سيطير منا إذا لم تتداركه أنت بعطفك ومعونتك.
الرئيس: كلا لن يطير منكم هذا اللقب أبداً حتى ولو ماتت دولتكم فعلاً فسندعوها يومئذ "المرحومة بريطانيا العظمى"!
"ستار"