الحضارة السوداء
تفتح الستارة
المنظر : جزء من غرفة النوم ، مضاءة إضاءة خفيفة ، تظهر صورة معلقة على حائط الغرفة ، ومكتب صغير في الوسط ، وأوراق مبعثرة هنا وهناك .
المشهد : صاحب الغرفة ـ سالم ـ يظهر وهو يجوب الغرفة يمنة ويسرة ، وكأنه يفكر في أمر ما .
سالم : لابد .. لابد .. من مشروع كبير وضخم .. و .. وحديث .. ترى ما هذا المشروع ؟ ما هو ؟ ـ يتوقف قبالة الجمهور ـ وجدته .. شقق مفروشة للعزاب .. نعم للعزاب .. شريحة مهملة .. ومحتقرة .. وحاجتهم للسكن ملحة .. لا سيما وأنهم غرباء مساكين .. سأستغل هذه الفرصة .. التجارة مهارة و .. و .. لكن ما هذا يا حاج سالم ؟ أين أخلاقيات التاجر المسلم ؟ أين الصدق والأمانة ؟ والعطف على المساكين ؟ لا .. لا .. سأترك هذا المشروع وأبحث عن مشروع .. مشروع آخر .. آخر .. نعم .. نعم .. لقد وجدته .. مشروع الموسم .. مؤسسة عملاقة متخصصة في الصرف الصحي !! المدن الكبيرة والمجمعات السكنية الضخمة تشتكي من طفح مياه المجاري التي تهدد البيئة التحتية .. وبالتأكيد سيدفعون كل ما أريد في سبيل تخليصهم من هذه المشكلة و .. و .. ولكن ما هذا ـ يضع يده على أنفه ـ صرف صحي .. مجاري .. ما هذه القذارة يا حاج سالم ؟ المسلم يتنزه عن هذه الأعمال الممتهنة .. أووه .. لقد تعبت في الحصول على مشروع .. أضرب به السوق .. وأحقق به الأرباح العالية .. أنا أبحث عن مشروع حديث يدر علي الملايين .. يحتاجه الناس جميعاً ويبحثون عنه .. إذن ما هذا المشروع ؟ ! يقف فجأة .. وجدته .. وجدته .. يا لسعادتي ـ يدور حول نفسه ـ يا لسعادتي .. السعادة .. الجميع يبحث عنها .. الصغير والكبير .. الغني والفقير .. يبذلون من أجلها الأموال ليسافروا إليها كل مكان .. سأقدمها لهم في أطباق من ذهب .. سأطلق قنبلة القرن .. سأكون حديث العالم .. الصحف والمجلات .. ومحطات التلفزة .. وأجهزة الحاسوب .. ومواقع الإنترنت .. يا للسعادة .. إلى السعادة .. يا سادة .. إلى السعادة .
تضاء خلفية المسرح .. لوحة عملاقة كتب عليها " الحاج سالم .. للسعادة الجاهزة " يظهر سالم تحت اللوحة في الانتظار .. يسمع وقع أقدام .. يظهر من يمين المسرح رجل عجوز وقد اكتسى رأسه بالشيب .. تضح معالم العجوز شيئاً فشيئاً .. إنه الروائي الأمريكي " همنجواي " .
همنجواي : طاب مساؤك .
سالم : ومساؤك .
همنجواي : الحاج سالم صاحب حانوت السعادة ؟
سالم : بشحمه ولحمه واسمه ورسمه .. أنا سالم وهذا الحانوت (يشير إلى اللوحة).
همنجواي : شكراً لله .. لقد وصلت أخيراً .
سالم : هل من خدمة ؟
همنجواي : يبدو أنك لا تعرفني يا بني .
سالم : يسرني أن أتعرف .
همنجواي : أنا " أرنست همنجواي " .. الروائي الأمريكي ..
سالم : " الشيخ والبحر " و " لمن تقرع الأجراس " ؟ .. و " مائة عام من العزلة ".
همنجواي : (مقاطعاً) بل مائة عام من الشقاء والتعاسة .. صدقني يا بني .. صدقني ..
سالم : وجائزة " نوبل " ؟
همنجواي : جائزة نوبل والأضواء والشهرة والأموال لم تصنع لي السعادة إنني في بحر متلاطم من القلق والمرض والوحدة .. أحس أن شيئاً عظيماً ينقصني ..
سالم : و ..
همنجواي : وجئت إليك في سبيل الحصول على السعادة التي بحوزتك .. سأدفع لك كل أموالي وأضوائي وشهرتي .. فقط امنحني السعادة .. امنحني السعادة أرجوك .
يجثو " همنجواي " على ركبتيه .. ويستند على كفيه .. ويجهش بالبكاء .. بينما تسلط عليه إضاءة خفيفة .. وقع أقدام أخرى .. تضاء الإنارة يدخل شاب في الأربعين من عمره .. يبدو عليه القلق والاكتئاب تظهر صورته بوضوح .. إنه " ديل كارينجي " .
ديل : عمتما مساءً .
سالم : السلام على من اتبع الهدى .
ديل : أيكما الحاج سالم ؟
سالم : نعم .. هل من خدمة ؟
ديل : أنا (ديل كارينجي) .. جئتك من أقصى الأرض أنشد السعادة التي أعلنتها عبر موقعك في الإنترنت .
سالم : انتظر قليلاً .. انتظر .. يهرش رأسه .. كارينجي (دع القلق وابدأ الحياة) .. ألست أنت ..؟
ديل : بلى ! أنا من كان يعالج القلق .. أنا من كان يشق للناس طريق السعادة .. لكنني أقسم لك يا سيدي إنني أعيش القلق الآن .. أعيش العذاب .. حاولت أن أوهم نفسي بالسعادة .. شربت كثيراً .. أكلت حتى أتخمت .. رقصت حتى تعبت .. ولكن لا فائدة .. لا فائدة ..
سالم : عجيب !
ديل : لا تعجب .. يا سيدي إنها الحقيقة المرة .. نعم .. هي ما أحدثك به الآن .
سالم : وكتبك ومؤلفاتك أموالك وشهرتك .
ديل : إنها المزيد من الشقاء .. بل هي الشقاء بعينه .. أرجوك لا تكثر علي يا سيدي وامنحني سعادتي .. وسأمنحك ما تريد .. أرجوك .. أتوسل إليك .
" ينتبذ مكاناً قصياً من المسرح ويجهش بالبكاء حيث تسلط عليه الإضاءة .. وقع أقدام تقترب أيضاً .. يظهر رجل في الخمسين من عمره وقد عصب رأسه وذقنه بعصابة من القطن الأبيض .. تتضح معالمه .. ويظهر للجمهور .. إنه الفنان العالمي فان جوخ يقترب من الحاج سالم .
جوخ : هنا الحاج سالم ؟
سالم : أنا سالم .
سالم : وأنت ؟
جوخ : فان جوخ .. الفنان العالمي .
سالم : بالطبع أنت عالمي .. ومحظوظ بالشهرة والملايين .
جوخ : (في حزن) هكذا يقولون .
سالم : يقولون ...؟!
جوخ : بل يزعمون .. إنهم لا يعلمون بالجحيم الذي أعيشه .. أتنفسه .. أمضغه . ها .. ها .. ها .. (يضحك) .
سالم : يا سيد فان .
جوخ : (وقد تشبث بسالم) بل أنت سيدي .. أنت منقذي .. سأهبك كل ما أملك من أجل الحصول على سر الحياة .. إكسير الحياة الذي بحوزتك .. السعادة .
سالم (في خبث) : كل ما تملك ..؟! حسناً .
" تضاء الأنوار فيظهر الجميع في المسرح " .
همنجواي : بل أنا الذي سأدفع لك ما تريده .
ديل : بل أنا سأكتب لك كل شيء .. كل شيء .
جوخ : بل أنا .
همنجواي : قلت لك أنا .
ديل : اصمتا .. أنا الذي سأحصل على السعادة أولاً .
سالم : ها .. ها .. ها .. (يضحك) أشقياء .. لا يمكنكم الحصول على إكسير السعادة .
الجميع : لماذا ؟!
سالم : لأنكم تأخرتم كثيراً .. كثيراً جداً .
الجميع : تأخرنا .
سالم : نعم .. يا سادة .. لقد انتحرتم .. اخترتم نهايتكم بأنفسكم .. الشهرة .. الأضواء .. المعجبون .. الأموال الطائلة لم تمنحكم السعادة .. أما أنا فسر سعادتي في قلبي .. في إيماني بربي .. بقناعتي برزقي .. وبيقيني بربي .. في صلاتي .. سعادتي في يدي .. (يصرخ) هيا انصرفوا لن أبيعكم سعادتي .. هيا .. هيا ..
الجميع : لا .. لا .. لا ..
(تطفأ الإنارة ويعم الظلام المسرح .. وتختفي الأصوات .. يضاء المسرح وتظهر غرفة وقد خلت من كل شيء إلا من سرير النوم وعليه سالم يتقلب على فراشه وهو يصرخ) .
سالم : هيا .. انصرفوا .. انصرفوا ..
(يدخل صديقه خالد ينظر إلى الساعة ثم يتقدم إليه ليوقظه) .
خالد : أووه أما زلت نائماً ؟ .
سالم : هيا استيقظ .
(سالم يستيقظ وهو يغالب النوم) .
سالم : أين أنا ؟
خالد : أنت هنا يا سيدي .
سالم : وأين فاخ جوخ .. وديل كارينجي ؟
خالد : سالم .. ما الذي حدث لك يا عزيزي ؟ لقد تأخرنا كثيراً عن موعد المقابلة في الوظيفة الجديدة .. هذه عاشر مؤسسة نتقدم لها .
سالم : وظيفة .. أي وظيفة ؟.
خالد : أووه هل ستعود مرة أخرى .. هل نسيت أننا نبحث عن وظيفة منذ سنتين بلا فائدة ؟
سالم : ولكن مشروعي القادم .
خالد (مقاطعاً) : عدت للحديث عن مشاريعك .. سأنصرف .. وسأتركك للأحلام .. وداعاً سالم (وهو يهم بالخروج) خالد : انتظر يا صديقي .. انتظر ..
(يتبعه سالم .. تطفأ الإنارة)
ستارة
وسوم: العدد 626