حوار مع الأديب الشاعر الدكتور حيدر الغدير
(1/4)
المقدمة:
ولد حيدر الغدير عام (1359هـ/ 1939م)؛ على ضفة نهر الفرات بدير الزور في سورية، وأنهى تعليمه العام في مدينته الجميلة. حصل على الإجازة في اللغة العربية من جامعة القاهرة، وعلى الدبلوم العام في التربية من جامعة دمشق، وقدم رسالة الماجستير بعنوان: "الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ"، بجامعة القاهرة، والدكتوراه بعنوان: "عمر أبو ريشة دراسة فنية" وقد صدرت بعنوان "عاشق المجد.. عمر أبو ريشة شاعراً وإنساناً"، بجامعة عين شمس، بعد إضافة وحذف وتعديل. له أربع مجموعات شعرية: من يطفئ الشمس؟، وغداً نأتيك يا أقصى، وعادت لنا الخنساء، وقسماً لن أحيد، وقد أخذت هذه المجموعات أمكنتها في الجزء الأول من "ديوان حيدر الغدير" الذي صدر، والجزء الثاني الذي لم يصدر بعد. وله من الأعمال النثرية: صلاة في الحمراء، وبقايا ذاكرة، ورجال ومواقف.
عمل في السعودية مدرساً في التعليم العام، ثم عمل في الندوة العالمية للشباب الإسلامي، وفي المجلس الأعلى للإعلام. أحب الإسلام والعرب والعروبة والعربية، وأثرت السنوات الجامعية في حياته أثراً بالغاً, وأحب القراءة في مجالات متنوعة, وفي السنوات الأخيرة ركز على الشعر, والسياسة, وهموم الأمة. وأحب الأسفار فسافر إلى عدد من البلدان, وأعانه على ذلك عمله في الندوة العالمية للشباب الإسلامي ومن طبيعة أعمالها المخيمات, والمؤتمرات.
وأولع بحضور المجالس والديوانيات، مثل مجلس الأستاذ العقاد, ومجلس شيخ العربية الأستاذ محمود محمد شاكر, ومجلس محمد يوسف موسى في القاهرة, ومجلس عبدالعزيز الربيع في المدينة المنورة, ومجلس عبدالعزيز الرفاعي, ومجلس عثمان الصالح, ومجلس راشد المبارك, ومجلس أنور عشقي, ومجلس أحمد باجنيد في الرياض. وقد زادت هذه المجالس من معلوماته, ووسعت من علاقاته, وعدّلت في آرائه, وشجعتنه على مراجعة نفسه, وهيأت لي فرصة نادرة جداً للقاء عدد من أعلام الدين والأدب والسياسة من داخل المملكة وخارجها؛ وإلى الحوار:
س: كيف كانت بداياتك الشعرية؟ وما أبرز المؤثرات في موهبة حيدر الغدير الأدبية من الشعراء القدامى والمعاصرين؟
ج: تعلقت بالشعر منذ صباي الأول، لكن هذا التعلق كان في حدود أمثالي من الزملاء، ولكني مع الزمن وجدت هذا التعلق يزداد، حتى إذا جاءت المرحلة الثانوية وجدتني أحسم خياري في الدراسة الجامعية، فدرست الأدب العربي في جامعة القاهرة، واستأثر الشعر بمعظم اهتمامي في أثناء هذه الدراسة.
شغفت في البداية بشعر شوقي، وأعجبت به ولا أزال معجباً، وقد أدمنت النظر فيه ولا أزال، وهو بحق شاعر عبقري وعملاق.
ثم شغفت بالمتنبي ولا أزال، وهو جِنِّيُّ الشعر العربي وعبقريه، وذو قدرة كبرى على الحشد والتركيز، فضلاً عن معرفة عميقة بأسرار النفس الإنسانية ونوازعها، وهذان الأمران أهم أسباب خلوده وتميزه. وعند بعض الناس أنه حكيم وفيلسوف لا شاعر، وعند بعضهم الآخر أنه حكيم وفيلسوف من ناحية، وشاعر من ناحية أخرى، وأنا من هؤلاء، لقد انفرد إلى حد كبير بالقدرة على الحشد والتركيز، والغوص في أعماق الإنسان وميوله، وكان له في ذلك تفوّق بارز، لكنه شارك الشعراء العظام الآخرين في أمجادهم الشعرية، وحين أقرأ روائع شعره أشعر أن دمي يتغير، وأن الكهرباء تسري في جسمي، وأتمثله قائماً أمامي، وينتابني إزاءه إعجاب شديد، وقد عكفت على ديوانه مرات لا أحصيها. وشغفت أيضاً بالشاعر الكبير بدوي الجبل، وقد قرأت ديوانه هو الآخر مرات كثيرة لا أحصيها.
وليس لي أن أغفل الشاعر الكبير عمر أبو ريشة، لقد كنت معجباً به من قديم، وازداد إعجابي به لما صار موضوع رسالتي للدكتوراه، وهذا ما جعلني أقرؤه مستمتعاً من ناحية، ودارساً فاحصاً من ناحية أخرى عدة سنوات.
إن هؤلاء الشعراء الأعلام أبرز أساتذتي في الشعر، كانوا ولا يزالون، وإن بصماتهم عليَّ واضحة جداً.
وعكفت أيضاً على بعض كتب المختارات، لأن فوائدها كثيرة، فهي تجمّع ما تفرق هنا وهناك، ثم إنها في العادة تنتقي روائع الشعر، والتنوع الذي فيها يطرب من ناحية، ويغني من ناحية، ويبعد الملل من ناحية، وأذكر أني قرأت عدة مرات، وبغاية الدقة «المختار من الشعر الأندلسي» للدكتور محمد رضوان الداية، و«الزهرة» للأصبهاني، و«السحر والشعر» للسان الدين بن الخطيب، و«الشعر العربي روائعه ومدخل لقراءته» للدكتور الطاهر أحمد مكي.
وحين يقع لي نص شعري يعجبني في جريدة أو كتاب أو مجلة، أصوّره، ثم أضعه مع أمثاله في ملف خاص، وأقرؤه مرة بعد مرة، ثم أتركه، ثم أعود إليه بعد زمن يطول أو يقصر، فأعكف عليه من جديد، وهكذا، حتى أشعر أني تشربته تماماً، وربما قرأت بعض هذه النصوص أكثر من عشرين مرة، وهو أمر فعلته مع «القوس العذراء» لشيخ العربية الكبير محمود محمد شاكر، أما قصيدة «أسعف فمي» للشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، فقد أعجبت بها جداً، ولعلي قرأتها مئة مرة أو أكثر، ولا أزال مشوقاً إليها.
ولقد كان لهذه الطريقة في اختيار النصوص الممتازة، وإدمان النظر فيها، وتشرّب معانيها وأساليبها وموسيقاها وصورها أثر كبير فِيّ.
***
س: من ينظر في تاريخ صدور مجموعتك الشعرية الأولى "من يطفئ الشمس؟" ثم "غداً نأتيك يا أقصى، فـ"عادت الخنساء"، ثم "قسماً لن أحيد"؛ يصنفك في نوابغ الشعراء، فما سبب ذلك؟
ج: أشكرك على هذا التصنيف، وعسى أن أكون مستحقاً له، وأوضح ذلك في إيجاز:
لقد كنت في العقد السابع من العمر حين بدأت نشر هذه المجموعات، وهو سن النضج والاكتمال، والشعر في دمي منذ صغري، وفي بداية العقد السادس من عمري أخلصت له غاية الإخلاص، حيث صار شاغلي الكبير، وأحياناً شاغلي الوحيد. وكنت أدمن النظر في دواوين الأربعة العظام: المتنبي، وشوقي، وبدوي الجبل، وعمر أبي ريشة، بشكل خاص، وسواهم من العظام بدرجة عادية.
وقد أكرمني الله عز وجل بإخوة كرام لهم خبرة عميقة بالشعر، -وأنت أحدهم- وكانوا في منتهى الصراحة معي رفضاً وقبولاً، وكنت بهم سعيداً جداً ولاأزال.
وقد ظللت أقرأ الشعر وأنظمه، ولكني لا أنشر منه شيئاً لعدم رضاي عن معظم ما أنظمه، ثم شغلتني عن الشعر صوارف كثيرة، من العمل، ومن القراءات الكثيرة المتنوعة، حتى إذا وصلت الخمسين وجدتني أعود للشعر بقوة، ووجدتني أبدأ بنشر ما أرضاه من القصائد، وقد أدى هذا التأخر إلى ضعف شهرتي شاعراً، وأدى إلى أني لم أندم على ما نشرت، لأني نجوت من تعجّل النشر الذي يعمد إليه بعض الشعراء ثم يندمون على ذلك، لأنهم بعد النضج لا يرضون عما تعجلوا نشره، وبعد الخمسين صار الشعر هاجسي الأكبر، وأحياناً الوحيد.
***
س: هل تفاضل بين مجموعاتك الشعرية الأربع؛ موضوعياً أو فنياً؟ ولماذا أعرضت عن المجموعات الصغيرة؛ فأصدرت الأعمال الكاملة قبل أن تكتمل؟
ج: إن المجموعات الشعرية الأربع عندي سواء، وأنا راضٍ عنها بل معتزٌ بها، وقد استقر ذلك عندي بعد مراجعة دقيقة لها، وقد شاركْتَني في هذه المراجعة ولك الشكر. وقد صدرت المجموعة الأولى بعنوان "من يطفئ الشمس؟"، والثانية بعنوان "غداً نأتيك يا أقصى"، والثالثة بعنوان "عادت لنا الخنساء"، والرابعة بعنوان "قسماً لن أحيد".
أما إصداري الجزء الأول من "ديوان حيدر الغدير"، فمرده دافعان؛ الأول: أني أحسست أن شعري قد استوى على سوقه، وتشكلت له خصائصه. والثاني: أني وجدت نفسي في خريف العمر، فأردت أن أستبق الأجل، فعملت على إصدار الجزء الأول من "ديوان حيدر الغدير"، في عام (1436هـ/2015م)، وأكملت إعداد الجزء الثاني ولم أصدره بعد. وأنا الآن أعمل في إعداد الجزء الثالث، وقد تم إيراد قصائد المجموعات الأربع في الجزء الأول الذي صدر، والثاني الذي ينتظر.
وينبغي لي أن اذكر بالشكر الجزيل أن الأخوين الكريمين الأستاذ عبد الرزاق دياربكرلي، والدكتور أحمد البراء الأميري، قد كتبا مقدمتين ضافيتين بإحكام وإتقان، ويمكن أن توصف هاتان المقدمتان بأنهما مدخلان جيدان جداً لمعرفتي إنساناً وشاعراً.
***
س: كيف تنشأ القصيدة في داخلك؟ وهل تنقحها على مبدأ الحوليات؟
ج: أنا أحب النظم في الأحوال التي يفرغ فيها البال، ويعتدل المزاج، وتغيب الصوارف، وتطول الخلوة، وتجتمع الشوارد، وأغرق تماماً فيما أكتب، والقصيدة التي أضع لها اسمها في أعلاها وتاريخ نظمها ومكانه في أسفلها أكون قد رضيت عنها، وأجزتها، وإلا فإنها لا تزال تحت المراجعة لفترة تطول أو تقصر.
وقد أكتب قصيدة ثم أنصرف عنها وقتاً يطول أو يقصر، فإذا عدت إليها ورضيت عنها، أو عدلتها تعديلات طفيفة، فإني أضع لها تاريخها القديم، أما إذا كثرت التعديلات فإني أضع لها تاريخها الجديد.
وأنا اجتهدت في شعري بشكل عام طلباً للإتقان، لكنني في بعض الأحيان أفرغ منه سريعاً كأن القصيدة كانت مختزنة فيَّ بكاملها، وكأنها كانت تكتبني ولا أكتبها، وكأنها ماء في صنبور فتح فتدفق، وهذا ما حصل لي على سبيل المثال في قصيدتي «هوية»، وفي أحيان أخرى يطول بي الأمر فتأخذ القصيدة مني عدة شهور كما حصل لي على سبيل المثال في قصيدتي «صلاح الدين».
ومن أفضال اللَّه عز وجل عليَّ -وأفضاله لا تحصى- أني أستشير ثلة من كرام الإخوة فيما أودّ نشره، فأضعه بين أيديهم، وأنتظر آراءهم، وأعيد النظر فيه على ضوء هذه الآراء، وكانت الصراحة هي قانون التعامل، وكنت أفرح بنقدهم مهما كان، انتقاصاً أم ثناءً، وربما طويت القصيدة جملة وتفصيلاً إذا اقتنعت بما بيّنوا لي فيها من عيوب، لقد كانت لهؤلاء الإخوة أيادٍ بيضاءُ على شعري، وكان صدري يرحب بملاحظاتهم أجمل ترحيب، وكانوا يعرفون مني ذلك ويشكرونني عليه، وأبرز من كانوا يصوِّبون لي شعري ويقوِّمونه: الدكتور عبد الباسط بدر –رحمه الله-، والدكتور أحمد البراء الأميري، والأستاذ صدقي البيك، والأستاذ شمس الدين درمش، والأستاذ عبد الرزاق دياربكرلي؛ وكان أجرأَ الجميع عليَّ، وربما مزق القصيدة التي بين يديه لضعفها، فكنت أبتسم وأشكره، وربما استجبت لرأيه وألغيت القصيدة، جزاهم اللَّه عني خير الجزاء، فقد كانوا عوناً في ارتقاء شعري.
***
س: لك رحلات كثيرة في بلدان قريبة وبعيدة أثرت في شعرك ونثرك؛ ما أبرز تلك الآثار فيما يمكن تسميته أدب الرحلات؟
ج: أنا مولع بالتاريخ مكاناً وزماناً؛ ولذلك كانت سياحاتي ذات حس تاريخي عميق، فهي سياحات للراحة والاستجمام، ولكنها قبل ذلك سياحات ثقافية وتاريخية، وحين كنت أقف في هذه السياحة أو تلك على موقع عنيت بأمره؛ كنت أقف متأملاً متذكراً باحثاً عن العبرة، فأطيل الوقوف جداً، والموقع الذي يزوره سواي في ساعة أزوره في ساعات، وقد أعود إليه لا مرة، بل مرات، ويصدق ذلك على ما زرته فعلًا، وعلى ما تمنيت أن أزوره.
وقد وضع ذلك بصماته على شعري، في قصائد أعتز بها، في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وهما أعظم مدينتين في الدنيا، وهما بمكانتهما الدينية وشموخهما الدائم؛ موئل أشواق المسلمين أجمعين في الدنيا كلها، تتجاوز قيمتهما كل شيء، فيهما عظمة الزمان والمكان، والآثار الممتدة في نشر الهداية في الدنيا كلها؛ كانتا ولا تزالان.
فمن قصائدي التي نتجت عن سياحاتي المكانية قصيدتي في مكة المكرمة؛ بعنوان "هي الكعبة الزهراء"، وقد أهديتها للشاعر العبقري الكبير بدوي الجبل، وحاكيت فيها قصيدته الرائعة "الكعبة الزهراء"، والتزمت القافية والوزن على غرار ما فعل. وقصيدة بدوي الجبل تشهد له بالصدق، والإيمان، والاعتزاز بالإسلام، وقد قرأتها مرات كثيرة، وبكيت في عدة مواضع منها، إنها من درر شعره، بل من درر الشعر العربي عامة.
ومثل ذلك يقال عن قصيدتي الأخرى في مكة المكرمة، "حللت على نعماك"، ويقال أيضاً في قصيدة "طبت داراً"، التي تشرفت بإهدائها إلى المدينة المنورة، عاصمة الدولة الإسلامية الأولى، ومنطلق الفتوح إلى الدنيا، وقصيدة "أبا الزهراء" التي كتبتها في الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، حين تجرأ عليه السفهاء والجهلة.
وقصيدة "رسالة إلى المعتصم" بطل معركة عمورية التي ثأر فيها للمرأة الهاشمية التي لطمها علج وضيع، فاستغاثت به، وأكرمه الله بالنصر المبين.
وقصيدة "أيا صوفيا" التي دارت في خاطري وأنا أتجول في هذا المبنى العريق، الذي جعله محمد الفاتح مسجداً عامراً، لكن أتاتورك جعله متحفاً، وخيل إليَّ أن كل مكان فيه يحن إلى الأذان.
أما قصيدة "حكايات عمرو" فقد كتبتها في مصر، لأنها أعظم بلد كسبه الإسلام بعد الجزيرة العربية، وقد اخترت لها اسمها؛ لأن عمرو بن العاص العبقري الداهية المسدد؛ الذي اختاره الخليفة الثاني الأكثر عبقرية وسداداً. فالمجد والثناء لمن اختار، والمجد والثناء لمن وقع عليه الاختيار. وعمرو فاتح مصر عظيم، وهي عظيمة.
أما قصيدة "الكهف والزيتونة"؛ فقد كتبتها بعد أن زرت زيارة تأمل واعتبار موقع أهل الكهف في الأردن، وأنا أتذكر ما قاله القرآن الكريم عن قصة هؤلاء الفتية الذين آمنوا.
وقصيدة "صلاح الدين" كتبتها في البطل النادر نصراً وأخلاقاً صلاح الدين الأيوبي، وأذكر أنها أخذت مني مدة شهور مرهقة جداً، وجميلة جداً، حتى رضيت عنها. وشاركني في هذا الجهد الطويل، والسعادة الغامرة أخي الصبور القوي الأمين "شمس الدين درمش"، إذ كان يطبع ويوافق ويخالف، ويقترح ويعبر؛ حتى جاءت القصيدة باهرة ناضرة.
أما قصيدة "اليقين لا السفين"، فقد اختزنت في خلدي وقتاً طويلاً بعد أن زرت جبل طارق ومضيقه عدة مرات، ثم وقع في خاطري أن السفين كان عدة قوية لدى طارق بن زياد؛ لكنه وجد اليقين عدة أقوى، فحرق السفين.. وبذلك اختار الفاضل على المفضول، وغلَّب اليقين على السفين، فأكرمه الله بالنصر المبين.
وقصيدة "أشواق أندلسية" لها مقدمة تروى، وهي أني كنت في حمراء غرناطة، برفقة أخي الصفي الوفي محمد المكي الوزاني الحسني، وهو من أبناء تطوان، المشهورين المعدودين.
وجاء وقت صلاة الظهر أو العصر، فوجدت شباباً مغاربة بملابسهم المغربية الجميلة المميزة؛ يقوم أحدهم فيؤذن، ويؤدي الجميع الصلاة بخشوع، فخُيِّل إليَّ أن غرناطة والأندلس كلها تشتاق إلى عودة الإسلام إليها، وتداعى التاريخ إليَّ بمآسيه ومفاخره، فجاءت القصيدة، ولعلها من أحسن شعري.
وفي ضاحية من ضواحي غرناطة تسمى "حسرة العربي"؛ وقف أبو عبدالله الصغير آخر ملوك غرناطة بعد أن سلم المدينة للغالبَيْن الإسبانيين فرديناند وإيزابيلّا، ومضى مهاجراً إلى المغرب؛ وقف على هذا التل المرتفع، وألقى نظرة الوداع على مدينته، وبكى. فقالت له أمه الرزان الحصان "عائشة": ابك كالنساء ملكاً لم تحافظ عليه كالرجال. وقفت على هذا التل عدة مرات، وبكيت، ثم وفقني الله عز وجل إلى كتابة قصيدة قصيرة محكمة عن عائشة وابنها سميتها "حسرة العربي".
وما قلته في الأندلس شعراً يماثله ما قلته نثراً، في ست مقالات جياد، هن: صلاة في الحمراء، والمسجد المحزون، وصخور وعزائم، ولعينيك يارندة، ورعب في قلب مدريد، وأندلسيات حسناوات جدًّا، ولي مقالة عن ماليزيا بعنوان "ليلة لا تنسى"، و"حكاية الفلفل" في لكنو بالهند، و"أربعون صلاة" في المدينة المنورة، وغيرها.
أما قصائدي التي سافرت فيها عبر الزمان فهي عديدة، ولا تقل أهمية عن تلك التي كتبتها في أسفاري ورحلاتي المكانية، ومنها قصيدتي "بشراك يا خالد"؛ فقد التقى في نسيج واحد: ما قرأته عن الفاتح العظيم "خالد بن الوليد" الطويلة، مع زيارتي لقبره الطاهر في حمص، ومع وقوفي على موقع معركة اليرموك في الأردن، وأشعر أن الله عز وجل منَّ عليَّ فيها بالتوفيق.
وقصيدة "الطاهرة" التي كتبتها في أمنا الصديقة بنت الصديق التي برأها الله عز وجل، في آيات تتلى إلى آخر الدهر، ففيها حشود متآخية من التاريخ والجغرافيا، وروعة الإيمان، وخمود النيران، وبطولة سعد بن أبي وقاص؛ الذي كسر دولة الأكاسرة، وأطفأ نار مجوسهم، وحررهم من غباء عقولهم فاهتدوا إلى الإسلام مختارين.
ومن أجود قصائدي ذات العبق التاريخي قصيدة "عماد الدين زنكي"، وهو أول أبطال الأمة الذين عملوا على إجلاء الصليبيين من ديار المسلمين، كان ديِّناً صيِّناً كتوماً، صاحب قرار ومفاجأة، وقد حاصر الرها، وهي مدينة تقع جنوب شرق تركيا، وكان الصليبيون قد جعلوها إمارة مميزة من إماراتهم في ديار المسلمين، وأحكم الحصار في خطة جريئة حاسمة، حتى استسلمت المدينة له. وكان فرح المسلمين كبيراً جداً، فقد انكسرت فيهم هيبة المحتل الصليبي، وعظم لديهم الأمل في استرداد بقية الإمارات، وهذا ما تم من بعده.
وكنت قد قرأت عن عماد الدين زنكي من قديم ما بهرني، لكن الأستاذ شمس الدين درمش زودني بمواد ثمينة عنه، فازددت انبهاراً، ولعله فعل ذلك بحمية القربى بعد حمية الدين؛ لأن العماد تركماني، وشمس الدين تركماني أيضاً، وهذا من التعصب المحمود!..
ولي أن أشيد على عجل بقصائد تاريخية أخرى، مثل "محمد الفاتح"، و"أمتي"، و"هذي الديار"، و"جلنار"، و"هوية"، و"حلم موسى"، و"موئل"، و"في بلاط السيف"، و"راعي جمال"؛ والمقصود به المعتمد بن عباد، ذلك أن ملوك الطوائف في الأندلس فكروا في دعوة يوسف بن تاشفين، أمير دولة المرابطين في المغرب لنجدتهم، خوفاً من ألفونسو السادس، الذي ضم طليطلة إلى مملكته، وطمع في سواها، وتخوف بعضهم من أن يوسف بن تاشفين، وكان في أوج قوته، قد يعجب بممالكهم فيضمها إلى دولته، فقال لهم المعتمد ملك إشبيلية جملته الخالدة: "أكون راعي جمال عند يوسف؛ ولا أكون راعي خنازير عند ألفونسو". وجاء يوسف مسعفاً محتسباً، وكانت معركة الزلاقة، وانتصر المسلمون انتصاراً رائعاً، ويومها كان المعتمد من الشجعان المستقتلين.
وقصيدة "تركنا الحساب ليوم الحساب"، وهي الجملة العبقرية البليغة التي قالتها زبيدة زوجة هارون الرشيد للمسؤول المالي عن الإنفاق على المشروعين النادرين اللذين كلفته بهما، وهما "عين زبيدة"، و"طريق زبيدة"؛ لما جاءها بسجلات الإنفاق، وهي كثيرة، وكانت على شاطئ دجلة في بغداد، فألقت بهما في النهر، وقالت ما قالت طلباً لرضا الله لا للثناء. وغيرها من القصائد.
وأنا لا أستقصي كل القصائد والتداعيات التاريخية التي جاءت في شعري فهي كثيره جداً، جملة وتفصيلاً، وإيماناً وبطولة، وزهداً وكرماً، وأسماء أمكنة وأزمنة، وعبارات موجزة خالدة دخلت التاريخ، ولاتزال لها جدتها ونضارتها.
إنني مولع جدًّا بالتاريخ الإسلامي، أدمنت النظر فيه، وتشربته روحي وعقلي، وجناني وبياني، فلا غرابة أن يظل في شعري، وأنا بذلك سعيد. وأنا كنت ولاأزال أقول: إن تاريخنا لا يخلو من أخطائنا، المسلمون بشر يخطئون ويصيبون، ولكنه في مجمله أشرف تاريخ في الدنيا على الإطلاق، ولا فخر!.
فمن غرر شعري قصيدتي التي كتبتها عن مكة المكرمة بعنوان "حللت على نعمال" أقول فيها:
(غداً نأتيك يا أقصى)
ومن شعري في المدينة المنورة من قصيدة بعنوان "جل المتاب":
(من يطفئ الشمس؟).
ومن غرر شعري عن الأندلس قصيدة عنوانها: "أشواق أندلسية"، أذكر فيها القائد البطل عبد الرحمن الغافقي، فأقول:
(غداً نأتيك يا أقصى)
***
(2/4)
س: يلاحظ أن حبك للشعر جعلك تحرص على زيارة الشعراء في أماكنهم، وحيث نظموا هنا وهناك.. فحدثنا عن ذلك.
ج: من أطرف أحوالي مع الشعر أني حرصت كثيراً على زيارة أمكنة الشعراء الذين كنت أقرأ لهم وأعجب بهم. وأبدأ من القاهرة بشوقي رحمه الله، فقد زرت بيته الذي سكنه آخر عمره، وهو يطل على النيل في القاهرة العامرة، وقد حولته وزارة الثقافة إلى متحف محفوظ، على ما كان عليه في حياة صاحبه. زرته عدة مرات متذكراً متأملاً، متخيلاً حياة الشاعر من خلال الأثاث، والمكتبة وغرفة الضيوف، وما إلى ذلك. وفي دمشق تذكرته جيداً حين زار دمشق، وكتب فيها قصيدته الخالدة التي مطلعها:
أعجب من ذلك وأطرف أني حرصت في لبنان على زيارة "زحلة" و"بكفيَّا" لأنه ذكرهما في شعره، بل إني ظللت في إسبانيا أبحث عن القرية التي أقام فيها أيام منفاه، واسمها "فلفديرا"، وهي تقع على جبل عال يشرف على مدينة "برشلونة"، وجدتها قرية صغيرة جداً، أنيقة نظيفة هادئة، وحين كنت أتجول فيها كنت أشعر أن خطاي تقع في موضع خطا الشاعر الكبير، وفي غرناطة تذكرت السينية التي أبدعها محاكياً فيها سينية البحتري في إيوان كسرى. وإن لدي رغبة تغيب وتعود في أن أقلد الشاعرين العظيمين في سينية أعدها بإتقان، وعساي أن أفعل.
وفي إسبانيا ظللت أبحث عن بلدة الشاعر الكبير لسان الدين بن الخطيب، واسمها العربي "لوشا"، وحين وصلتها وجدتها تحمل اسم "لوخا"، وهي حتى اليوم قرية وادعة، وتجولت فيها وأنا أنشد موشحه الشهير، بل أشهر موشحة في ديوان الشعر العربي، مطلعها:
أما قصتي مع الشاعر الأندلسي الشهير "أبي البقاء الرندي"، فهي في غاية الطرافة!.. ذلك أني كنت ليلاً أقود السيارة في جنوب إسبانيا، وفجأة رأيت لوحة تشير إلى "رندة"، فوجدتني أجعل وجهتي إليها بدون إعداد ولا معرفة عن المسافة والاستراحات، ودخلت في رحلة طويلة وشاقة جداً، أعاني التعب والسهر والرغبة الملحة في النوم، وقد دخلت المدينة بسلام في آخر الليل.
وفي النهار تجولت فيها، وتتبعت آثار المدينة الباقية، وطفت بمعالمها، ثم انصرفت وأبو البقاء في مخيلتي، أشكره شكراً جزيلاً على قصيدته الخالدة:
وعلى دعوته إياي لهذه الزيارة الجميلة الشاقة، وقد كتبت عنها مقالة دقيقة شيقة بعنوان "لعينيك يا رندة"، في كتابي "صلاة في الحمراء".
وفي تونس ذهبت في رحلة طويلة كانت مملة لوحدتي فيها، ولطول الطريق ووحشته في عدة أجزاء منه، وذلك لزيارة "توزر" مدينة الشاعر أبي القاسم الشابِّي، ووصلتها فوجدتها مدينة صحراوية صغيرة، لكنها أنيسة وادعة، عليها بصمات الإسلام والعروبة، بأكثر من سواها، وزرت معالمها، ووقفت على قبر الشاعر الشابِّي، ودعوت له، وأنا أستحضر في خلدي ما بقي في الذاكرة من قصيدته الذائعة:
وليس لي أن أنسى المعتمد بن عباد لولعي بالأندلس، وزيارة قصره في إشبيلية ايام سعده،وقبره في المغرب بعد عزله.
زرت قصر المعتمد في إشبيلية، وهو أنيق جداً كل شيء فيه يدعوك إلى التأمل، ثم إنه جديد. ذلك أن الإسبان جددوه تماماً وفق ما كان لأهداف سياحية، تجولت فيه وأعجبت بما فيه من افبداع، وحزنت لما فيه من السرف، وتذكرت قصته مع زوجته "اعتماد الرميكية" يوم صنع لها من أخلاط العنبر والمسك والكافور وما إلى ذلك؛ طيناً ممزوجاً بماء الزهر، فقامت ومعها بناتها يطأن فيه، ذلك أنها رأت من النافذة فلاحاتمن القرى المجاورة يطأن في الطين في يوم ماطر، فأحبت تقليدهن.
ثم إني سافرت إلى المغرب، وفي مدينة صغيرة اسمها "أغمات" قرب مراكش كانت مكان منفاه حياً، ومدفنه ميتاً؛ وقفت على قبره وقبر زوجته اعتماد؛ مفكراً معتبراً، ودعوت لهما.
***
س: يحتل الموت في شعرك مساحة واسعة تلفت النظر، فما الداعي إلى ذلك؟
ج: هذا صحيح، ومرد الأمر إلى أني نشأت مسلماً، وعلمنا مشايخنا أن الموت قدر لا بد منه، وعلى الإنسان أن يحسن الاستعداد له، باجتناب المعاصي والزيادة في الطاعات، وكنت أتذكر الموت وأهابه، دون أن أقع في الخوف القاتل منه، الذي يفسد على الإنسان دينه ودنياه.
ظللت على ذلك حتى قرأت عن الصحابي العظيم الشهيد سعد بن معاذ رضي الله عنه، وقرأت أن للقبر ضمة لساكنه حين يودع فيه، تختلف فيها أضلاعه، ولو كان أحد ناجياً منها لنجا سعد بن معاذ.
وكنت شاباً في بداية العقد الثالث نشيطاً متفائلاً، لكني مع الشباب والنشاط والتفاؤل أحسست أن قلبي وقع فوراً بين قدمي!.. قلت لنفسي: كيف تنجو من هذه الضمة التي لم ينج منها سعد بن معاذ!؟ وهو من أعظم الصحابة، وذهب إلى ربه شهيداً، وأخبر الرسول الكريم أن عرش الرحمن اهتز لموته، وأن الملائكة كانت تزاحم الناس في حمل نعشه.
استبد بي ذعر شديد، وزاد من هذا الذعر ما كنا نسمعه من بعض الوعاظ الذين يروون الصواب والخطأ في ضمة القبر، ليخاف الناس، ويحرصوا على الاستقامة، وهو أسلوب غاية في الخطأ، ولن تشفع لهؤلاء الوعاظ نيتهم الطيبة، لأنها حمقاء جداً، ومؤذية جداً!..
ظللت على هذا الحال حتى أدركني لطف الله عز وجل، حين قرأت أو سمعت أن الأرض هي أمُّ الإنسان، لأنه منها خلق، فإذا عاد إليها ضمته الضمة المزعجة إن كان من العصاة، وضمته ضمة الحب والرفق إن كان من الصالحين، فسُرِّي عني واسترحت.
ثم وقع بين يدي كتاب "رحلة الخلود" للشيخ "حسن أيوب"، فقرأته عدة مرات، وفرحت به فرحاً شديداً. لقد وفق في عنوان الكتاب، لأن الموت هو رحلة المرء إلى الدار الآخرة، حيث الخلود الدائم للمرء إن صالحاً، وإن طالحاً. وزاد من فرحي بالكتاب أن مؤلفه عالم أزهري ضليع، لا واعظ جاهل!.. وأنه قرر في بداية كتابه أنه لن يعتمد إلا على آيات القرآن الكريم، وعلى الحديث الصحيح والحسن. ومن ذلك اليوم صار تعاملي مع الموت قوة إيجابية نافعة، إذ صار الخوف في حجمه السوي، فإن مات من هو أكبر مني قلت لنفسي: ستلحق به عن قريب. وإن مات من هو أصغر مني قلت لنفسي: سبقك إلى الدار الآخرة، مع أنك جئت الدنيا قبله!.. فانظر كيف مدَّ الله في عمرك، واشكره بالصالحات. وكنت دائماً أدعو للموتى عامة، ولمن لي بهم علاقة خاصة، أياً كانت، ولاأزال أجد أن الدعاء لهم حق دائم عليَّ.
ثم اتسعت رؤيتي للموت والحياة، فالتفت إلى حياة المسلمين، وانتبهت أن عليهم أن يحرصوا على طلب الشهادة حين تتعرض الأمة للمهالك، أما في حالة الأمن فعليهم أن يحرصوا على عمارة الدنيا بالبناء والإصلاح والدعوة. وبهذا يكون طلب الموت وعمارة الدنيا جناحين متقابلين، ولا يجوز أن يأخذ أحدهما مكان الآخر، كما قال الله تعالى: {وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} [آل عمران: 157-158].
وهنا أود أن أشير -وشكري لله عز وجل يملأ كل ذرة فيَّ- إلى قصيدتين لي في الموت، الأولى تحمل عنوان: "صداقة"، وفيها أتحدث أن الموت قد أخافني، ثم صافاني، إذ دخلت في حوار طويل معه، يخبرني فيه أنه ينفذ أوامر الله عز وجل، في الآجال، وأنه لا يزيد في أجل أحد يوماً قط، ولا ينقص منه يوماً قط!..
وتستمر القصيدة فتصور يدي في يده، ونحن صديقان مبتسمان، وقد أنهيتها بهذين البيتين المفعمين أملاً ورجاء بالنور يوم القيامة:
والقصيدة الثانية تحمل عنوان: "وأسلمت للرحمن"، وفيها أصور خلوة طويلة مع نفسي، أستعرض فيها دوران الحياة والموت، وأن الموت قادم لا محالة!، فأجد نفسي راضية بأقدار الله في الآجال، ممتلئة بالفوز والنجاة، وتنتهي القصيدة بهذا البيت الرائع:
وكما أني صرت لا أخشى الموت؛ فإني أستعد له بأهم ما ينبغي وهو طلب العون من الله سبحانه، من قصيدة بعنوان "عون" فأقول:
(عادت لنا الخنساء)
***
س: لك قصائد عديدة تقف فيها مع نفسك وتحاسبها، وجوهرة هذه القصائد هي: ستون، وسبعون، وثمانون؛.. وأرجو أن تكتب: تسعون! فهل تأثرت بأحد من الشعراء بهذا الأسلوب أو الاتجاه!؟ وهل سبقك شاعر من القديم أو الحديث بذلك؟
ج: في ديوان الشعر العربي منذ القدم يكثر هذا النوع من الشعر، خاصة عنما يكبر الإنسان، ويشعر أنه مودع. ولا أذكر الآن أسماء شعراء بأعيانهم أثروا فيَّ، لكن هنا التأثير حقيقة ماثلة. يضاف إلى ذلك أن لي مواعيد دائمة في محاسبة النفس؛ منها ما يكون بضع دقائق، وهو ما أفعله يومياً قبل النوم، أحاسب نفسي على ما فعلت في يومي الذي ذهب، ومنها أطول وهو يوم الجمعة، أحاسبها على حصيلة الأسبوع، ثم تأتي حالات أطول عند بداية فصل من السنة، وحالات أطول في نهاية عام وبداية عام، وفي مواسم التقوى والتوبة في رمضان والحج، ووفاة هذا أو ذاك. وقد استفدت من هذا كله فوائد جليلة، وأنصح الجميع باللجوء إلى هذا الأسلوب، وليختر كل إنسان مواعيد المحاسبة كما يود.
وفي نهاية قصيدتي "ثمانون" تساءلت: هل سأكتب "تسعون"!؟ يشجعني على ذلك الحديث الشريف: "خيركم من طال عمره وحسن عمله" (صحيح الترمذي)، والحديث الآخر: "وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً" (صحيح مسلم).
ويشجعني أيضاً أني تجاوزت الثمانين، ولايزال جسمي بخير، مع تداعيات الشيخوخة، التي لابد منها. ولعل السبب أني مولع بالمشي منذ شبابي ولا أزال، والتزامي بأوامر الأطباء الذين أراهم بين الحين والآخر. وأنا أحفظ حكمة تقول: "من حفظ الله في شبابه حفظه الله في شيخوخته"، والمعنى في الحديث المعروف: "احفظ الله يحفظك" (الترمذي)، ومن دعائي اليومي صباح مساء: "اللهم إني حاولت أن أحفظ لك شبابي فاحفظ لي شيبتي"، وحرصت على أن تكون الجملة: "إني حاولت" بدلاً من "إني حفظت"، وهو من باب الأدب مع الله عز وجل، لأن الإنسان لا بد له من أخطاء بين الحين والآخر، وعسى أن يمد الله عز وجل في عمري وعمرك لأكتب لك قصيدة "تسعون"، وكعادتك الطيبة تعدل وتقترح وتشكر وترفض، حتى تأتي القصيدة كما تحب وأحب.
وقصيدة "ستون" كانت وقفة محاسبة وتأمل ومراجعة، قلت فيها:
(غداً نأتيك يا أقصى)
وبعد عشر سنوات قلت قصيدة "سبعون"، وفيها شعور أشد بدنو الأجل، واستحضار صحف الأعمال، وجاء فيها:
(غداً نأتيك يا أقصى)
وبعد عشر سنوات أخرى وجدتني في قصيدة "ثمانون" أقف مندهشاً من مرور كل هاتيك السنين الثمانين، وكأنها غفوة وإفاقة، وأجد نفسي أقرب إلى الله سبحانه متأملاً رحمته وجنته، فأقول:
الديوان (الجزء الثالث)
وفي قصيدتي "صحوة" أرى أن الحياة الحقيقية بعد الموت:
(غداً نأتيك يا أقصى)
***
س: لا يخطئ من يتابع شعرك أن فيه اعتزازاً كبيراً بالعرب؛ فما مردُّ ذلك؟
ج: هذا صحيح جداً، لأني عربي خالص العروبة، أعتز بالعرب قوماً، وبالعروبة سجايا، والعربية لغة، وأتعصب لذلك تعصباً رشيداً حكيماً، والتعصب الرشيد الحكيم تعصب مباح، بل مطلوب ومحمود، وربما كان واجباً أو فريضة، والإسلام إنما يحرم التعصب الجاهلي المذموم، الذي يجعل صاحبه يبالغ في الثناء على قومه ويتنقص من مزايا الآخرين، وأنا مع حبي للعرب والتعصب لهم؛ أفرح لسواهم من المسلمين غير العرب حين أجدهم يتعصبون لأقوامهم تعصباً رشيداً حكيماً.
وحين يتلاقى التعصب الرشيد الحكيم من العرب مع المسلمين غير العرب لقاء صادقاً كما يريده الإسلام؛ يحقق المسلمون نتائج باهرة، والأمثلة كثيرة جداً، وأظهرها ما جرى أيام الحروب الصليبية إبان عملية التحرير وإجلاء المعتدين حين تلاقى العرب والأكراد والتركمان والأتراك والشركس، والمماليك وهم من بلدان مختلفة، وأعراق متعددة، وسواهم من المسلمين، فنصرهم الله عز وجل نصراً مؤزراً، جعل الصليبيين ينهزمون ويرحلون أذلاء مدحورين، بحيث أصبح ما أحرزوه خبراً ذميماً في سجل التاريخ.
وأنا أحفظ جملة ذكية وجيزة بليغة نسيت قائلها، ولعله الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله، وهي: "القليل من التعصب يعمِّر، والكثير منه يدمِّر"، وقيل: "خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم".
إن للعرب مزايا مقررة، ولغيرهم مزايا مقررة، لكنهم في الجملة بما لهم وبما عليهم، أوسع أفقاً، وأعز نفساً، وأسمح قلباً، وأسخى يداً، وأفصح لساناً، وأكثر مروءة، وأذكى عقلاً، ولا عجب في هذا، فهو من لوازم اختيار اللَّه تعالى لهم لحمل رسالته وهو أعلم: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام:124]، وهو أمر شهد به الكثيرون من غير العرب، من مسلمين وغير مسلمين.
وهنا يحسن إيراد ما قرره الشيخ الحكيم، القارئ للتاريخ، العميق النظر، أبو الحسن الندوي رحمه الله، فيما يرجوه لعودة المسلمين إلى مكان القيادة والريادة من شروط جعل منها أن تكون القيادة بيد العرب. ومرة أخرى مرحباً بالتعصب الرشيد الحكيم، وبعداً للتعصب الضال الأحمق.
س: حبك للعرب عامة أمرٌ مسلَّم، وقد أفدتنا في الحديث عنه، لكن ما مسوغات إعجابك ببني أمية خاصة؟
ج: صدقت أخي الكريم، وأشكرك على هذا السؤال. إن الدولة الأموية هي أعظم دولة في التاريخ الإسلامي بعد الدولة الراشدية، أما دولة الخلفاء الراشدين فسبقها للجميع أمر هو البداهة المنصفة، وكيف تتقدم عليها دولة أخرى، وخلفاؤها العظام وقياداتها وفرسانها وعموم المقاتلين فيها هم تلاميذ الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم!؟
زالت دولة الخلفاء الراشدين كما يزول كل شيء، وخلفتها الدولة الأموية التي عاشت حوالي قرنٍ (40-132هـ)، وفي هذا المدى القصير جداً في أعمار الدول وطدت الأمن، وقمعت فتن الضلال الديني والسياسي، وأرسلت أبناءها تفتح العالم، فوصلت إلى حدود الصين شرقاً، وإلى المحيط الأطلسي غرباً، ومن المغرب عبرت جيوشها إلى شبه جزيرة إيبيريا (الأندلس)، حيث توجد دولتا إسبانيا والبرتغال، وبسطت سلطانها عليهما، وقد تم فتح هذين البلدين في سنتين فقط، حتى قال بعض المؤرخين: إن جيش الفتح كان يحقق الانتصار تلو الاتنصار بيسر، وكأنه سكين تقطع قالباً من الحلوى!.. ثم تولى القائد عبد الرحمن الغافقي فتح فرنسا، وحقق انتصارات مباركة، ولكنه في معركة "بواتيه" كما تسميها الرواية الفرنسية، و"بلاط الشهداء" كما تسميها الرواية العربية، ويقع مكانها جنوب باريس بمئة كيلومتر؛ ظفر في البداية وانهزم الفرنسيون، فذهب كثير من المسلمين لجمع الغنائم، خلافاً لأوامر القائد، فكرَّ عليهم الفرنسيون فهزموهم، واستشهد الغافقي، وعاد المسلمون إلى الأندلس ليظلوا فيها قروناً عدة.
هذه المساحات الهائلة التي ظفرت بها الدولة الأموية للإسلام لم تستطع أي دولة أخرى أن تفعل مثلها، أو جزءاً منها. وهذا يصح على أطول دولتين عمراً في تاريخ الإسلام، وهما الدولة العباسية والدولة العثمانية، اللتان استمرتا خمسة قرون أو أكثر. ولا بد أن للدولة الأموية أخطاء، فهذا من سنة الله في الخلق أفرادًا ودولاً، ولكنَّ أخطاءها لا تقارن قط بإنجازاتها الهائلة.
وهنا ينبغي لنا أن ننظر بكثير من الحذر، إلى المؤرخين الذين تحدثوا عن بني أمية في عهد الدولة العباسية، فبالغ بعضهم في الأخطاء، وأغفل الحسنات؛ إرضاء للدولة التي يعيش في ظلها، ومثال ذلك يقال عن أهل الزيغ والضلال الذين كرهوا هذه الدولة لأنها كانت حريصة جداً على تبني الإسلام الصحيح السمح، ومقاومة سواه.
ومن القصائد التي أذكر فيها الدولة الأموية قصائدي في الشام، لأنها كانت عاصمتهم، وفي إحداهن أقول:
و"الأشج" هو لقب الخليفة الأموي العظيم عمر بن عبد العزيز؛ المجدد الأول للإسلام، فقد سقط عن فرسه ذات مرة فأصيب بشجة في رأسه.
***
(3/4)
س: يشيع في شعرك التفاؤل بمستقبل الأمة؛ كيف لك بذلك ولها متاعب جمة، بعضها من ضعفها، وبعضها من سطوة أعدائها، وهم أقوياء وكثيرون؟
ج: أنا سعيد جداً بهذا التساؤل، وإليك الجواب: أمتنا مثل سواها من الأمم تمر بفترات ضعف وقوة، لكنها قادرة على تجاوز ضعفها بما تملكه من العقيدة الدافعة التي تحملها على العدل، إن غَلَبت، وعلى النهوض إن غُلِبت. وبما تملكه من الثروات الهائلة المتجددة منها والناضبة، والممرات المائية الإستراتيجية المهمة التي تملك بعضها كاملة، وبعضها بالاشتراك. وتملك الأراضي الواسعة التي تعيش عليها، وتتصف بالتزايد السكاني الذي يجعلها تنمو أكثر من سواها.
ولقد مرت الأمة بنكبات هائلة لو أصابت أمة أخرى لانقرضت. ويكفي أن نتذكر حروب الردة، والغزو المغولي والتتاري، والحروب الصليبية، وحركة الاستعمار الحديث، التي سيطرت في القرنين الماضيين على العالم الإسلامي كله إلا مناطق قليلة.
لقد هزمت الأمة، لكنها نهضت، وأخطأت في نهوضها وأصابت، لكن العاقبة كانت للصواب. وبذلك صارت هذه النكبات القاتلة خبراً دميماً منسياً في صفحات التاريخ.
واليوم نجد الأمة بما لها وما عليها، بصوابها وخطئها، في المحصلة النهائية؛ لـمَّا تفعل يتحسن أداؤها، وتصح خطواتها. إن يومها خير من أمسها، وغدها سيكون -بإذن الله- خيراً من يومها. إن الله عز وجل تعهد كتابه العزيز بالحفظ، وبإظهار دينه على الدين كله. والمؤشرات على ذلك تتكاثر، وأنا من المنحازين لهذا الرأي بقوة، وشهودي عليه مجرى الأحداث من ناحية، وأقوال مأثورة مشهورة، لعدد من كبار العلماء، والعقلاء والمفكرين، من أقطاب الأمة؛ منهم: الشيخ أبو الحسن الندوي، والشيخ محمد متولي الشعراوي، والشيخ علي الطنطاوي، والشيخ صالح بن حميد، والشيخ صبحي الصالح، والأستاذ عباس محمود العقاد، وهناك الكثيرون، وأهم من ذكر الأسماء أن التفاؤل وعدم اليأس، والنظر إلى المستقبل، وعدم الارتهان بأخطاء الماضي، خلق وعقيدة إسلامية، فمن هنا ظهر في شعري هذا التوجه بوضوح.
ومن القصائد النابضة بالأمل والاستبشار بالمستقبل: "إلى الثالث الميمون"، و"غداً نأتيك يا أقصى"، و"بشرى"، و"سل الزمان"، و"غد أغر"، و"حلم موسى"، و"أصنام"، و"بعض الرؤى"، وستظل ملء الدهر"، و"أمل".
وأختار بعض الأبيات والمقاطع الذي يسري فيها التفاؤل في مستقبل الأمة الإسلامي، فأقول في قصيدتي "من يطفئ الشمس؟"، وقد حمل الديوان اسم القصيدة:
(من يطفئ الشمس؟)
وأخاطب المسلمين بكل ثقة ويقين في قصيدتي "موتوا تعيشوا":
الديوان (الجزء الثالث)
وأقول مخاطباً الأمة الإسلامية أيضاً بعنوان "ستظل ملء الدهر":
(عادت لنا الخنساء)
ويملؤني اليقين الجازم بخلود هذه الأمة فأقول مخاطباً الديار التي خرج منها الجيل الأول في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بعنوان "موئل":
(عادت لنا الخنساء)
وعن فلسطين والقدس أقول موقناً بتحريرهما، بعنوان "صباح مؤمن":
(غداً نأتيك يا أقصى)
***
س: يلحظ في أعمالك بوضوح أثر الرثاء، دراسة وإبداعاً؛ فما دوافع هذا الاهتمام؟
ج: ذكر الجاحظ في كتابه البيان والتبيين أنه: "قيل لأعرابي: ما بال المراثي أجود أشعاركم؟ قال: لأنا نقول وأكبادنا تحترق. وقال أبو الحسن: كانت بنو أمية لا تقبل الراوية إلا أن يكون راوية للمراثي. قيل: ولم ذاك؟ قال: لأنها تدل على مكارم الأخلاق".
إن ما قاله هذا الأعرابي، وما روي عن بني أمية صحيح بشكل عام، وينطبق عليَّ قول الأعرابي بالخصوص، فأنا أرثي من أحب وأجل، ثم إن الصدق ديدني في الحياة من الصغر، وهي سجية وهبية لا كسبية، واجتماع الصدق مع الحزن يرتقي بالمراثي.
وقصائدي في الرثاء قليلة بالقياس لمجموع شعري، والحب والإجلال سبب ذلك، وإني أعتز بالمراثي التي كتبتها على قلتها، ومنها "شهيد القدس"، وهي في الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله، الذي كان علامة فارقة في عصره، ومنها "شاهد القرن" في الشيخ علي الطنطاوي، و"ترجلت في التسعين" في الشيخ عبد العزيز بن باز، و"لوحت للناس" في الشيخ أبي الحسن الندوي، وهؤلاء الدعاة الأعلام من أعظم الدعاة في عصرهم، وقصائد أخرى: "الصقر" في نجم العربية الأكبر في عصره محمود محمد شاكر، و"نم في البقيع" في الشاعر الكبير عمر بهاء الدين الأميري، و"مأتم الشعر" في الشاعر عمر أبو ريشة، وهما من أعلام الشعراء في عصرهما، و"ستبقى في فؤادي" في الدكتور الألمعي العصامي المتميز عبد الباسط بدر، و"قد كنت أرجو" في الوالدة الغالية، و"نم هنيئاً" في أخي مصطفى الغدير، وفي شعري قصائد جيدة أخرى، وأذكر أنك كتبت مقالة مطولة عن هذه القصائد نشرت في المدونة.
فمن رثائي لأخي مصطفى الغدير بعنوان "نم هنيئاً" أقول:
(من يطفئ الشمس؟)
ومن رثائي للشيخ أبي الحسن الندوي بعنوان "لوحت للناس":
( من يطفئ الشمس؟)
وفي رثائي للشيخ محمود محمد شاكر بعنوان "الصقر"، أقول:
(من يطفئ الشمس؟)
ومن رثائي للشاعر عمر أبي ريشة بعنوان "مأتم الشعر":
(عادت لنا الخنساء)
وقلت في رثاء أديب العربية الفذ مصطفى صادق الرافعي قصيدة بعنوان "لأنك آليت":
(غداً نأتيك يا أقصى)
رحمهم الله جميعاً، وأسكنهم جنات النعيم.
***
س: يرى بعض القريبين من شعرك أنك تطيل القصائد، وكثير منها فاقت المعلقات المعروفة في الشعر العربي، فماذا تقول؟
ج: هذا صحيح؛ والسبب أن شوقي كان أستاذي الأول في الشعر، وظل منفرداً بهذه الأستاذية، حتى زاحمه عليها سواه، وشوقي ممن يطيلون. هذا سبب؛ والسبب الثاني أني أنظم القصيدة في موضوع ملك عليَّ فؤادي، وهذا يدعوني إلى الثناء والتنويع في الصور، وقد نبهني إلى هذه الظاهرة في شعري بعضهم، وأنت أحدهم، فصرت أميل إلى القصائد المتوسطة، أو الموجزة. والسبب الثالث أني حين أدمنت النظر في ديوان المتنبي وجدته يميل إلى الإيجاز والإحكام، فعملت على تقليده في ذلك، وشكراً له ولك.
***
س: يحمد لك في شعرك ما نظمته عن أبنائك، وأحفادك، ولكن يلاحظ أنه احتل مساحة كبيرة عدداً وتنوعاً.
ج: هذا صحيح، قلت لك من قبل: إني مولع بالأطفال جداً، منذ صباي الأول، وأذكر أني كنت أداعب الأطفال الصغار من أبناء زملائي، الذين سبقوني إلى الزواج، ومن المعارف والجيران، وقد رافقني هذا الولع دائماً، وازداد بعد أن أكرمني الله عز وجل بالأبناء ثم الأحفاد، وأنا الآن تجاوزت الثمانين، ولا أزال على ما كنت عليه، والآن أداعب حفيدتي "دالة"، وعمرها سنة واحدة فقط، وأكون في منتهى السعادة، حتى إن من يراني يخيل إليه أني فزت بأول مولود أو أول حفيد بعد قلق وانتظار.
أما كثرة القصائد فمردها إلى أني أكتب لكل واحد قصيدة، أدون فيها تاريخ ولادته، ومكانه، فضلاً عن اسمه. ثم تتعدد القصائد لكل واحد، بمناسبة العيد، أو التفوق العلمي، أو حفظ القرآن الكريم، وأقدر أن لدي من قصائد الأبناء والأحفاد ما يزيد على ستين قصيدة، وأحياناً أحرص على إهداء من أكتب فيه القصيدة وهي بخط يدي في نسخة، وهي مطبوعة في نسخة أخرى.
إنني أعتز بهذه القصائد جداً، وذلك هبة العقل السوي، والفطرة النقية، وتواصل الأجيال، بين جيل يولد، وجيل ينمو، وجيل يكتمل، وجيل يودع. ومن أفضل قصائدي في هذا المجال قصيدة" أبني كونوا"، وقد كتب عنها الدكتور عبد الباسط بدر -رحمه الله-، مقالاً ضافياً عنوانه: "الأدب الإسلامي والأبوة الحانية"، نشر في مجلة الأدب الإسلامي العدد (113)، أجاد فيه وتألق، وهو ذو حس نقدي رائع، وأثنى عليها ثناء أرجو أن أستحقه.
واسمح لي أن أختار من هذه القصيدة المطولة أبياتاً مميزة؛ لسببين: الأول: أنها في الأبناء أجمعين لا في واحد منهم، والثاني: أني كتبتها بعد الستين من العمر، وهو سن النضج، وقبل هذا وذاك عون الله عز وجل وتوفيقه:
ومن الشعر الخاص في الأبناء والأحفاد -وهو كثير- ما كتبته في ابنتي "أمامة" بعنوان: "أُمامُ موعدنا":
الديوان (الجزء الثالث)
ومن شعري في ابني "معاذ" قلت بعنوان "عدني معاذ":
الديوان (الجزء الثالث)
ومما قلته في ابني "أحمد" بعنوان "وأوما إليه":
(غداً نأتيك يا أقصى)
وكتبت في ابني "محمد" وهو بار بي كثيراً، فقلت:
(قسماً لن أحيد)
***
س: كنتَ قريباً من الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، وكان يشجعك ويثني عليك، وقد أحسن الظن بك شاعراً؛ فكيف كان ذلك؟
ج: أنا من الجيل الذي تفتح وعيه والشيخ علي الطنطاوي ملء السمع والبصر، فبهرني جداً، واتصلت به من خلال الخطبة والإذاعة والتلفاز والكتاب، ثم اتصلت به صلة شخصية طويلة وطيبة، سمعت منه وسمع مني، لذلك لي أن أقول باعتزاز: إنه أحد أساتذتي البارزين الذين وضعوا بصماتهم عليَّ علماً وفكراً وبياناً، وقد زرته مرات لا أحصيها، في بيته في مكة المكرمة، وفي بيته الآخر في جدة. وكنت أحرص على أن أسأله عن أشياء تشغلني، حتى لا تكون الزيارة مجرد تحية وتهنئة وسلام، وكنت أسأله بشكل خاص عن أفكار شكلتها ببطء، واقتنعت بها، مع أنها تخالف كثيراً أو قليلاً مَنْ حولي فيلومونني لوماً هادئاً أو حاداً، وكان الشيخ في معظم الأحوال يؤيدني ويربط على قلبي.
وكنت حريصاً جداً على معرفة رأيه في شعري، لأني خشيت أن أكون مجرد ناظم، ولأني سمعت أنه قرأ لي قطعة صغيرة فلم تعجبه. وفي إحدى زياراتي طلبت منه أن يقول لي: أنت شاعر بالفطرة والممارسة، أو أن يقول لي: دع الشعر فأنت مجرد ناظم، وقلت له يومها: سأقرأ عليك قصيدة أعدها من أجود شعري، وبعدها قل لي رايك بصراحة وأنا سعيد بما تقول أياً كان الجواب!.. فأبى الشيخ أن يعد بشيء، وكررت الطلب، فظل الشيخ على إبائه، ذلك أنه أراد أن ينفي عن نفسه الحرج، وعني الإحباط إن كانت النتيجة سلبية.
وعلى كل قرأت له القصيدة وهي بعنوان: "جرح الشام"، فسُرَّ كثيراً وطرب، وكرر قوله عدة مرات: عظيم!.. ثم أردف قائلاً: إن المرء يسكت أحياناً من شدة الإعجاب، ففرحت كثيراً، ووجدت أن الشيخ أجازني شاعراً. فشجعني هذا على مزيد من العناية بالشعر نظماً وتحسيناً، ولقد كتبت فيه عدة قصائد، لعل أجودها رثائي إياه في قصيدتي "شاهد القرن". ومن فرحي بثنائه الطيب دونت تاريخ هذه الزيارة فوراً بدافع الاعتزاز بها، وهو يوم الجمعة 6/2/1412هـ، الموافق 16/8/1991م، مكة المكرمة حرسها الله.
وحين حصلت على الدكتوراه (1414هـ/1994م)؛ بادر بالاتصال بي من بيته في مكة المكرمة، إلى حيث أنا في الرياض ليقول لي: أنا ما اتصلت بك لأهنئك بالدكتوراه، بل لأهنئ الدكتوراه بك!.. فاستبد بي فرح غامر، وألهمني الله عز وجل هذا الجواب البليغ، فقلت له بديهة: هذا الثناء أجل عندي من قرار اللجنة العلمية التي منحتني الدكتوراه.
وحين طبعت رسالة الدكتوراه، وهي عن الشاعر "عمر أبو ريشة"، وقرأها الشيخ أثنى عليها ثناء كبيراً، ووصف كتابي أنه مدهش ممتاز!.. وأن لغته عالية، وقال لي: لقد أنصفت الشاعر، وكنت أقر بجودتك كاتباً، لكني لم أظنك بهذا المستوى، وأنا الآن أشيد بقدرتك كاتباً بعد أن أشدت بقدرتك شاعراً. عندها تشجعت وطمعت بمزيد من ثناء الشيخ، فقرأت له قصيدتي "يا شام"، فسُرَّ بها كثيراً، ومن فرحتي بذلك دونت فوراً تاريخ الزيارة التي كانت في بيته العامر في جدة، وهو: الخميس (21/2/1428هـ، الموافق 26/7/1997م).
وأنا الآن إذ أدون ذلك أجد فائدتين نبيلتين فيه: الأولى أن على الأساتذة الكبار أن يشجعوا تلامذتهم الواعدين، والأخرى أن على التلامذة الطامحين أن يعرضوا ما لديهم على أساتذتهم، ويستفيدوا من إجاباتهم نقداً أو تشجيعاً.
وأختار مقطعاً من قصيدة "يا شام" في الجزء الثالث من الديوان، فأقول:
وقد قلت في رثاء الشيخ علي الطنطاوي قصيدة بعنوان "شاهد القرن" أراها من جياد قصائدي، ومنها:
(من يطفئ الشمس؟)
***
(4/4)
س: في شعرك ظاهرة الحوار بما يشبه القصة الشعرية، مع تعليقك على هذا؟
ج: أنا يا أخي مولع بالحوار مع أهل الدين والفضل من العلماء الأذكياء الصرحاء الذين يبتغون الحق لا الغلبة، وأشعر أن الحوار معهم يغني العقل، ويجدد المعرفة، ويصحح الخطأ، ويعلي الصواب، ويعود الإنسان على احترام الآخر، وتقبل النصح، وشجاعة الاعتراف بالخطأ. وهذه مغانم ممتازة لا تتاح إلا لهذا الصنف من المتحاورين، وحين أضطر إلى حضور مجلس يدور فيه الحوار على غير هذا الأسلوب الرشيد، اشعر بالضيق، وألتزم الصمت، وإذا شق علي الأمر انسحبت من المجلس.
وأنا أحاور هذا الصنف الممتاز النادر، وأحاور نفسي في هذه الخلوة أو تلك، وأحيانا أحاور شخصا آخر إنْ في الرؤيا، أو في الرؤية حقيقة، أو مناماً، وهو ما أشرت إليه في السؤال السابق.
وحبي للحوار الحصيف جعلني أحاور ابنائي منذ كانوا صغاراً، وأقبل منهم نقدهم واعتراضهم، واصحح لهم برفق عند الخطأ، وأشيد بما نقدوني فيه عند الصواب. وهذا جعل الصلة بيني وبينهم صلة صديق لهم؛ أكثر مما هي صلة أب. والآن وبعد أن شبوا وأصبحوا آباء لأبنائهم أجد أن سلوكي معهم كان صواباً، واشجعهم على أن يمارسوه مع أبنائهم.
إذن فلا غرابة أن يجد هذا الأسلوب طريقه لتسلل إلى شعري، وأنا بذلك سعيد. إن هذا الحوار يدفع الملل، ويشيع الشوق والرغبة فيما لدى هذا وذاك، وفي هذا نشاط للعقل والنفس على السواء.
***
س: معظم شعرك على النهج (الخليلي)، ولا يخلو من قصيدة التفعيلة، هل تفاضل بين النوعين؟ وهل قلت شعر التفعيلة عن قناعة، أم مسايرة للتوجه العام الذي ساد في مرحلة ما؟
ج: المعوَّل على الجودة، وفي الشعر الخليلي الجيد والرديء، ومثل ذلك يقال عن شعر التفعيلة، وقد كتبت في هذا وذاك، لكن معظم شعري كان في النمط الخليلي، لأن قراءتي العظمى في الشعر العربي كانت عليه، ومن هنا استبد بي، وأنا معتز بهذا الاستبداد.
وقد كتبت قصائد عديدة بشعر التفعيلة، ومنها القصيدة الأولى "غداً نأتيك يا أقصى" في الديوان الذي حمل العنوان نفسه، فأقول:
لعهدك أيها الأقصى، وعهدك جمرة فينا
وحلم في مآقينا
ينادينا فلا ننسى، وكل خلية فينا هي الأخرى تنادينا
إلى الأقصى إلى الأقصى
***
سنأتي في غد نارا
وبركاناً وإعصارا
لنصنع مرة أخرى
وقد لاحت لنا البشرى
بعون الله حِطينا
ونغضب غضبة كبرى
ونصنع خَيبراً أخرى
ونحمي الأرض والدينا
***
س: يلاحظ في معظم القصائد الحرص على إنهائها ببيت أو بيتين؛ فيهما إيجاز ودلالة واضحة، فما معنى ذلك؟
ج: هذا صحيح، وقد أخذت هذا الأسلوب من الشاعر الكبير عمر أبي ريشة، وهو أحد من وضعوا بصماتهم على شعري، فقد كان يعطي الخاتمة كل قواه، فيأتي بما يسميه "بيت المفاجأة"، ليكون ختاماً رائعاً يبهر السامعين. وحين كنت أفرغ من قصيدة أرهقتني وأعجبتني، أطويها وقتاً يطول أو يقصر، لأني لم أسترح لختامها، فإذا وفقت في الختام المأمول دفعت بها إلى النشر.
ويحسن أن نذكر بعض الأمثلة من خواتيم القصائد التي تجمع الفكرة والعبرة:
(من يطفئ الشمس؟ أيها المال)
(عادت لنا الخنساء، يقين)
(عادت لنا الخنساء، أعماك حقدك)
(قسماً لن أحيد، أصنام)
(غداً نأتيك يا أقصى، عامٌ)
(غداً نأتيك يا أقصى، إنها السم)
(الديوان – الجزء الأول: فطام)
(الديوان – الجزء الأول: قصاص)
***
س: في شعرك ظاهرة (الرؤيا)؛ فلماذا تلجأ إليها وأنت تكتب في اليقظة؟
ج: أنا مولع جداً بالخلوة للمراجعة والتجدد، ونقد الذات، وكثيراً ما أجد نفسي في هذه الخلوة أو تلك -وأنا يقظ لا نائم- أحاور نفسي، أو شخصاً آخر أتخيله جالساً إزائي، وقد استفدت من هذه الرؤى استفادة واسعة إذ وجدتها تفتح لي آفاقاً جديدة، وتخرجني من رتابة الحياة المعتادة، وتذكرني بعبرة من هذا العلم أو ذاك، وبموعظة من هذا النصر أو تلك الهزيمة. وهذا النوع من الرؤى إيجابي جداً، ومفيد جداً، على أن يظل محكوماً بضابطي الشريعة والعقل، فبدونهما يضل ضلالاً جزئياً أو كلياً.
على أن هذا لا يمنع أنني كنت أرى في نومي رؤيا عامة أو خاصة؛ فإذا استيقظت ووجدتها جيدة دونتها نثراً حتى لا أنساها، ثم أصوغها شعراً.
إن الشاعر بحاجة إلى طفولة مستمرة تجعله يندهش أمام الأشياء، فتدعوه إلى القول؛ خلافاً لسواه ممن يمنعه من ذلك التكرار والعادة. وبطبيعة الحال هذه الطفولة طفولة نفسية تجعله يغضب ويطرب ويندهش، واجتماع ما يراه الشاعر من رؤيا في نومه، ورؤية في يقظته، مع إنزال كل منهما منزلته الصحيحة مفيدة جداً للإبداع والتجديد.
***
س: قصائدك تتسم بالجدية والمتانة والجزالة في الموضوعات واللغة والأسلوب، ولكن ذلك لم يمنع وجود عدد لا بأس بها من قصائد الدعابة والطرافة والظرافة، فهل تلقي الضوء على هذا الجزء من قصائدك بواعثها ومناسباتها ومآلاتها؟
ج: هذا صحيح، لي عدد من القصائد في هذا الميدان، أذكر منها: "أنا شامية وأنت عراقي"، و"الزلفي"، و"يا حمص"، و"حيزبون"، و"زين الكروش"، و"من دفتر العشق"، و"جودي علي"، و"عتاب".
وابتداء اسمح لي أن أقرر أن هذا النهوع من الشعر فيه طرافة، وبهجة، ويثير الإعجاب، ويشد الانتباه، ولكنه لا عمر له، لأن له خصوصية جمالية تزول ولا تبقى، خلافا للشعر الذي يخلد، لأن له آفاقاً ممتدة تتصل بحياة الأجيال عامة، ولذك قل شعري في ميدان الدعابة، وهناك عدد منها طويتها فيما طويت من شعري.
ولكن دعني أحدثك عن قصيدتي "المعلقة المونينكية" لطرافتها وغرابتها!.. فقد كنت في مدينة صلالة في سلطنة عُمان في رحلة سياحية، برفقة أخي وصديقي د.معاذ الغدير، وكان الفندق الذي أقمنا فيها هادئاً جداً لقلة النزلاء، ففرحت لذلك لأني أحب الخلوة كما قلت لك مراراً.
جلسنا ننظر إلى التلفزيون، فإذا به يبث مقابلة أجراها القاضي الأمريكي (ستار) مع الرئيس الأمريكي يومها "بيل كلينتون"، يحاسبه فيها حساباً دقيقاً وصريحاً ومحرجاً، عما فعل مع المتدربة "مونيكا لوينسكي" من عبث جنسي، وفي مقر الرئاسة "البيت الأبيض"، وكانت المقابلة بثاً مباشراً يراه الأمركيان وكل العالم.
طفقنا نسمع، وكان استيعابي لما أراه قليلاً، لزهدي في الموضوع من ناحية، ولضعف لغتي الإنكليزية من ناحية أخرى، خلافاً لمعاذ الذي كانت لغته الإنكليزية ممتازة، وكنت أراه أحياناً يبتسم، وأحياناً يضحك، وأحياناً يضجر من الأسئلة والأجوبة وما فيها من تفاصيل وفضائح.
بعد ذلك انسحبت إلى مكان ناءٍ وهادئ، وخلوت بنفسي وتخيلت بقية المقابلة، وفتح عليَّ إبليس مكره، فكتبت قصيدة مطولة سميتها "المعلقة المونيكية" لم أكتب مثلها في حياتي، ولا أظن أني سأكتب، وفيها دعابة وصراحة وجراءة، ثم إني طويت القصيدة، ووضعتها مع مثيلاتها اللواتي لا تنشر.
عرف بذلك الدكتور أحمد البراء الأميري، لأن العلاقة بيننا خاصة جدا، وقرأها وأعجب بها، واستطاع أن يأخذ نسخة منها في غفلة مني؛ فمن هنا ومن حالات مماثلة تسربت القصيدة وذاعت وشاعت، وأذكر أني قابلت شخصاً لا أعرفه من قبل، فسألني: أأنت حيدر؟ قلت: نعم، قال: أرجو أن تعطيني نسخة من القصيدة.
الدكتور الأميري صاحب دعابة موفقة، وتعليقات ساحرة ساخرة، وممتعة أيضاً، منها قوله لي: إن لمونيكا فضلاً عليك!.. فقد حققت لك شهرة واسعة، ومنها قوله: عندما تكتب عن الفضيلة والتقوى ورمضان وما إلى ذلك يأتي شعرك متكلفاً بارداً، ولكن حين تكتب عن مونيكا وبوسي وغيرهما يأتي شعرك جميلا أخاذاً، لأنك في الحالة الأولى تكتب بعقلك، كأنك تؤدي واجباً لا غير!.. وفي الثانية تكتب بقلبك وعواطفك وأشواقك المكبوتة فتوفق وتتألق. ولعل الدكتور الأميري فعل ما فعل انتقاماً مني لما وقع فيه من حرج بسبب قصيدتي "ظمأ"، ولها قصى طويلة!..
فقد كنا ذاهبين لزيارة أستاذ كريم حسن السمعة "لا أذكر اسمه"، فقلت له: تعال نشترك في إهدائه قصيدة نصنعها الآن ونحن على بابه، فوافق. وابتدأنا النظم معاً، فجاءت بدايتها موفقة، فقرأنا له ما تم نظمه، ثم إني أكملتها فيما بعد، فجاءت جميلة وطريفة، لكن الأميري شارك بنصف بيت فقط.
ومرة في مجلس يجمع عدداً من أهل الفضل والدعابة والأدب رويت لهؤلاء الأخيار قصة القصيدة، وقلت لهم: إنها من صنع الأميري وصنعي، وقرأها الأميري عليهم وجوَّد في إنشادها، فنالت إعجاب الجميع.
هنا انبرى أحد الحاضرين الفضلاء فقال: هذه القصيدة من صناعة الأميري كاملة، فحيدر لا يقول مثل هذه الدعابات!.. عندها قال الأميري:
يريد أنه جنى على نفسه لكثرة ما يرويه من دعابات مباحة وغير مباحة. ثم إن الأميري رأى القصيدة بين أوراقي، وفي آخرها اسمه على أنه صاحبها!.. فقال لي: من الناظم؟ قلت: أنا، قال: فلم وضعت اسمي عليها؟ قلت: لأن أسلوبك في المزاح معي ومع غيري تسلل إلى العقل الباطن، فأملاها علي، فابتسم، فقلت له: لا تخف.. فهي مع مثيلاتها مما لا ينشر من شعري.
وأنقل مقطعاً من قصيدة "أنا شامية وأنت عراقي"، وهي قصيدة تجمع بين الجدِّ والدُّعابة، والحوار اللطيف بين زوج عراقي وزوجة شامية كل منهما يفتخر، بما يمتاز به بلده:
(من يطفئ الشمس؟)
***
س: نرجو أن تذكر لنا بإيجاز وإحكام أهم نصائحك للشعراء عامة، وللشباب منهم خاصة.
ج: أهم نصائحي للشعراء عامة وللشباب منهم خاصة، هي:
- أن يتأكد الإنسان أنه صاحب موهبة حقيقية في الشعر؛ لا نزوة عابرة.
- ألَّا يستعجل النشر.
- أن يختار عدداً من أهل الخبرة في الشعر، والجرأة في النقد والتقويم، ويعرض عليهم ما ينظمه، ويمعن النظر فيما يقولون له، ويتقبل النقد بصدر رحب، ويشكر قائليه.
- أن يدمن النظر في روائع الشعر العربي من قديم وحديث.
- إذا أعجب بأحد من الشعراء فلا يجعله شاعره الوحيد، لأن ذلك يجعل بصماته عليه كبيرة، وليبحث عن آخرين يعجب بهم، وبذلك تتضافر البصمات عليه، وتتنوع، وفي ذلك فوائد جمة.
- إذا فرغ من قصيدة أعطاها جهده وسيطرت عليه أكثر من سواها؛ فليحرص على أن يكتب القصيدة التالية لها في موضوع مختلف، وبحر مختلف، وقافية مختلفة، لأن بصمات الأولى ستفرض نفسها عليه، ومن لوازم النجاة تبديل الموضوع.
***
- لكل شاعر أبيات مفردة تذيع أكثر من سواها، لطرافة في المعنى، أو بلاغة في الوصف، أو دلالة دقيقة على أمر مهم.. فهل لك أن تختار لنا مجموعة منها في ختام هذه المقابلة؟
- فكن همة فوق هام السحاب = وكن رجلاً قلبه كالجبل
- خذي القرآن نبراساً هبيه = حياتك تملكي تاج الكرامة
- إن الشجاعة في الحياة مذاهب = وأجلها عما يشين عظام
- الغدر يقتص ممن كان يفعله = بالآخرين فيخزيه ويرديه
- ستموت كل ضلالة مهما عتت = ويظل في أعراسه الإسلام
- هو يوم سامحت فيه زماني = والسماح النقي من أخلاقي
- إنما العمر لمحة ثم تخبو = فاستبقه بالصالحات البواقي
- يدرك المرء حين يسخو المعالي = وينال البخيل مرعى وبيلا
- وكنت إذا أبصرته أبصر المنى = فصرت إذا أبصرته أتقيأ
- كل المبادئ حين تأسن للردى = ونظل نحن ويخلد الإسلام
- إنه الإسلام فاقبس نوره = فزكي أنت عقلا وجنان
- العالم الباقي ملاذ أفيح = حيث انتهيت ونحن سجن ضيق
- النصر والخذلان في أخلادكم = فانظر لما جاشت به الأخلاد
- وإن تدع والزاد منك اليقين = "فلا بد أن يستجيب القدر"
- إنه الموت قد أناخ المطايا = ساعة ثم حثها لانطلاق
- سألت القلب أي الأرض خير = مقاماً طيباً؟ قال: الكنانة
- رباه أطمعني جود عرفت به = فهبه إياي إني ظامئ وصدي
- بالرعب موتوا وإلا إن أسيفنا = محَّاءة سوف ترديكم بأيدينا
- يا دياجي الخطوب شكراً فإني = فيك أبصرت باهرات النجاح
- وأبقى الفوز في الفردوس دار = ورؤية ربنا بدراً تبدى
- بذا دعونا فقال الكون في فرح = مع الملائكة الأبرار: آمينا
- يا نجد كوني للعهود غداً = صوناً لها يانجد كالأمس
- يا غد المسلمين فيك اشتياقي = ولك العمر نصرتي وانحيازي
- وأكرم من ذاك رؤيا الإله = إذا رفعت في الجنان الستور
- يا دماء الشهيد طال دجانا = أوقدينا مشاعلاً يا دماء
- والوهن موت الفتى من قبل موعده = ومن قضوا في سبيل الله أحياء
- وفي المرء "جبريلُ" إن يستقم = وإن ضل "دجالُه" الأعور
- فإن كانت الأولى فلن أعدم المنى = وإن كانت الأخرى فلن أعدم الكفنْ
- أأخون إسلامي وفي شيخوختي = تبت يداي إذنْ وكنت جهولا
- هذي الجزيرة سفر للعلا عطر = تروي مفاخره حتى أعاديها
- خسئ السخط ففي مجد الرضا = وظلال منه طابت مسكني
***
س: مجلة الأدب الإسلامي تسأل الشاعر حيدر الغدير عن رأيه فيها، فماذا تقول لها؟ وبم تنصحها؟
ج: رأيي في المجلة أنها أفضل إنجازات رابطة الأدب الإسلامي، لأنها تؤصل هدفها من خلال الدراسات النقدية من ناحية، ومن النصوص الإبداعية شعراً ونثراً من ناحية أخرى، وهي أنفع بكثير من المؤتمرات التي كانت تعقد هنا وهناك، وهي مؤتمرات قليلة الجدوى باهظة التكاليف، وقد جهرت بوجهة نظري هذه للقائمين على الرابطة عدة مرات.
إن النصوص الإبداعية شعراً ونثراً، حين تكون متفوقة، وتعبر عن رسالة الرابطة ذات أثر بعيد نافع، لأنها تقدم نماذج رائعة مما ينسجم مع رسالة الرابطة، والنماذج الرائعة تبقة ويتداولها الناس أكثر من سواها، ونحن لانزال نحفظ نصوصاً من أيام الجاهلية إلى الآن لروعتها، ونتداولها ونستشهد بها، فقد سكنت في أعماق الناس، وستظل. وهذا التواصل الفريد مع المتلقي هو أعظم ما يطمح إليه الشعراء؛ خاصة أصحاب التوجهات الأخلاقية والراقية منهم.
***
س: بعد هذا الكمِّ الكبير من القصائد؛ ما القصيدة التي تتوق إلى إنجازها؟
ج: منذ قال البوصيري –رحمه الله- قصيدته البردة؛ حاكاها على نفس القافية والوزن والموضوع شعراء كثيرون، أشهرهم في عصرنا أحمد شوقي رحمه الله، وأنا أتوق إلى كتابة بردة، وقد خلوت بنفسي واستطعت كتابة عدة مقاطع منها وطويتها، ولكني أعود إلى ما كتبت بين الحين والآخر، فأفرح لما أنجزت، ولكني أراه دون المطلوب، وعسى أن أخلو بهذه القصيدة خلوة تامة تطول وتطيب، حتى أنجزها، ويوافق عليها من أستشيرهم فيما أنظم، وأنت أولهم.
والله الموفق، وصلى الله وسلم على نبينا ورسولنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
وسوم: العدد 956