شيء عن مصطفى رستم...

شيء عن مصطفى رستم...

عقاب يحيى

كان دوماً ـ أبو علي ـ مصطفى رستم ـ يملك قدرة النفاذ إلى عمق الأحداث، لا يخطئ قراءتها وتحليلها، ورؤية منفاعلاتها .

هادئ، وصادق. حيوي رغم العمر، والسجن الطويل، والمرار والمعاناة.. وطعم الفشل لحلم العمر الذي آمن به فتياً ...

ـ صريح منذ شبابه الحزبي، لم يتوانَ عن وضع مبضع النقد في السلبيات الفاقعة، حتى وهو في القيادة، والشعارات تخفق بقوة، والدنيا لا تقبل النقد.. تجرّأ ودخل عمق أزمة الحزب.. فضح مجريات حرب حزيران ومهازلها، ونادى بضرورة استقالة القيادة العسكرية فوراً بعد الحرب، وحين سقط القرار ـ على صوت واحد ـ كان يشدّ شعره غيظاً، ويدرك أن قيادة مهزومة ستتحول إلى الداخل لتعويض الهزيمة، ثم تبيّن لاحقاً أن الطاغية الأكبر : حافظ الأسد، المتلطي خلف المسكنة، والدروشة والبساطة والسذاجة، وحتى الاستغباء نرجسي من طراز فريد، وطائفي حتى الامتقاع، ويعبد السلطة، والعائلة، ولا يؤمن بشيء اسمه حزب إلا مطية وبرقعاً..

نبّه وحذر كثيراً من الفجوات والأحادية، ودعا بوقت مبكر إلى اعتبار مرحلة ما بعد هزيمة حزيران مرحلة تحرر وطني. أي أنها تستلزم بداهة رفض أحادية الحزب وإقامة جبهة عريضة تشمل كل المعنيين بالمرحلة، فسميّ أبو الجبهة.. سقطت اقتراحاته مرات في المؤتمرات القطرية والقومية، لكنه ظل متمسكاً بها، ويرى فيها المخرج لأزمة البعث، أو أحزاب البعث، أو عشائر البعث كما كان يحلو له تسميتها .

ـ احتجاجاً على الهزيمة ومجرياتها، وطريقة معالجتها قرر الاستقالة من القيادتين القومية والقطرية، وأصرّ على عدم ترشيح نفسه في المؤتمر القومي التاسع الاستثنائي ـ أواخر عام 1967 ـ رافضاً نهج معالجة الهزيمة والإصرار على الخط إيّاه..

ـ اشتغل مديراَ لمدرسة الإعداد الحزبي وبذهنه أن ذلك قد يكون أفيّد إذا ما نجحت في تغيير العقول وزرع وعي جديد..

ـ وعندما برز الطاغية قائداً لتكتل عسطري بنكهة طائفية.. وسيطر على عديد المفاصل.. وألزمه الرفاق بالعمل.. ترشح للقيادة القطرية واختير رئيساً للمكتب العسكري ـ أوائل عام 1969، وهو الذي كان ينال إجماع الأصوات، ويطلق عليه ضمير الحزب لأنه لم يعرف النفاق والمجاملة، ولأنه افنى العمر يقول الصدق وما يؤمن به.. ولأنه ظل غارقاً بالديون ....

ـ كثيرة الحكايا عن الفترة التي تُعرف ب"الازدواجية" وسيطرة الطاغية ونمو تكتله، والإخفاق في مواجهته، وانتحار، بل واغتيال عبد الكريم الجندي في لحظة حرجة.. وهو المفصل في الموقع والقيادة ومواجهة الطاغية ....وقام الانقلاب وسط أسئلة كبيرة عن عقد مؤتمر قومي استثنائي كانت مهامه تبدو وكأنها مجرد تسليم لسلطة دون أن تطلق رصاصة واحدة، وسط كلام كثير عن نوايا العسكر وطلبهم بعقد المؤتمر، وعن حكايا محاولات الانقلاب.. وغيره كثير، طويل..

في أشهر وجوده خارج السجن، وبعد رفضه الحاسم لكل العروض الكبيرة التي قدمها الطاغية ليكون في المنصب الذي يختاره.. كان السجن هو المآل.. تعبيراً عن بعض حقد الطاغية، والاتهام بأنه المسؤول عن تنظيم سيطيح بالأسد، وأنه الأمين ىالقطري، هو ـ أي أبو علي ـ الذي كان يرى أنه لا بدّ من نقد التجربة، وجملة أمور قبل التفكير بأية خطوة تنظيمية كان البعض يستعجلها ويعتقد أنها الغطاء المطلوب لانقلاب عسكري في الجيوب !!!! ...

23 عاماً مكن سجن متواصل.. دون سؤال أو محاكمة، وأبو علي ورفاقه يرفضون الانحناء أو القبول بأية مساومة.. استشهد بعضهم في السجن : الأمين العام الدكتور نور الدجين أتاسي ـ رئيس الدولة ـ الذي أخرج وقد انتشر السرطان في كافة أنحاء الجسم.. ليعيش أشهراً قليلة، واللواء صلاح جديد الذي قتل في ظروف غامضة، بينما أورث السجن نزلاءه عديد الأمراض..

*******

ـ كان صريحاً في تلمس أزمة البعث الذي استخدم مطيى، فارتبطت باسمه كل الموبقات، وبات ممسحة للقذارة الحاكمة، فرفض العمل في هذا الإطار، داعياً إلى تيار عريض : الكتلة الوطنية في سورية تيمناً بالكتلة الوطنية التي قادت مرحلة الاستقلال، وأرست الديمقراطية في بلادنا..

ـ كان طبيعياً أن يكون في خندق الثورة منذ أيامها الأولى، كيف لا وهي الحلم الانتظار، والمخرج والأمل.. فعمل كل ما بوسعه لها، وكانت بصماته واضحة في انخراط سلمية فيها منذ الأيام الأولى..

ـ في عيد الأضحى قبل السابق.. اعتقل، ونقل إلى مخابرات القوى الجوية، وعذّب، وكان هناك قرار بتصفيته لولا بعض التدخلات، واعتقل معه ابنه علي لاثنتي عشر يوماً..

****

لم يخطئ ابو علي في رؤية جوهر الثورة.. لأن دماءها تجري في شريايينه، وها هو يرفض اتهامها بالطائفية، ويزيح عباءات التخويف التي يبالغ بها آخرون خدمة لأجندات خارجية معروفة.. محافظاً على تحليله بوعي جوهرها.. ونقائها ..