حوار غير صحفي مع الدكتور جابر قميحة 6

حوار غير صحفي مع الدكتور جابر قميحة

(الحلقة السادسة)

حوار: أشرف إبراهيم حجاج

[email protected]

[email protected]

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

دكتور جابر إن واحدا مثلي يشعر بالفخر وهو يقف بين يدي الدكتور جابر قميحة ، الذي أفادني كثيرا ، ومازال يفيدني ، ويفيد إخواني من أبنائه وطلابه بكثير من أعطياته الغنية .

س  دكتور جابر : ابتداء اسأل عن كلمة أو مصطلح اختلف كثيرون في نطقه ، وهو مصطلح " العلمانية " ، فأغلب من يستعمله ينطقه بكسر العين وسكون اللام وفتح الميم . وقلة من المفكرين يستخدمونها بفتح العين واللام والميم . فما الصحيح في هذين الاستعمالين ؟

ج  بعد حمد الله والصلاة على نبيه أقول : إن الاستعمال الدارج يستخدم اللفظ نسبة إلى " العِلم " ؛ والاستعمال السليم يكون نسبة إلى " العالم " لأن أهل الغرب يسعدهم نسبة هذا المصطلح إلى العلم . أما نحن فننسبه إلى العالم بمعنى المادة ، فيقال " إنسان علماني " أي مادي دنيوي ، وهي تساوي مصطلح " النيتشريين " الذي كان يستعمله جمال الدين الأفغاني رحمه الله وهو نسبة إلى الطبيعة أو المادة (Nature ) .

 س  دكتور جابر : يوصف العهد الذي نعيش فيه بأنه أزهى عصور الحرية والديمقراطية . فما رأيكم في هذه المقولة ؟

ج  هي مقولة لا أساس لها من الصحة : فمصرنا تعيش هذا العهد بلا حرية وبلا ديمقراطية ، بل تعيش في ظل حكم الفرد المطلق ، فمبارك هو أطول الحكام عهدا في تاريخ مصر كلها ماعدا حكم محمد على باشا ، وعهده أطول من كل عهود حكم رجال الثورة مجتمعة ، ومدة حكمه أطول من مدتي حكم آخر ملكين في مصر ، وهما أحمد فؤاد و ابنه فاروق .

وهو يتمتع بسلطات لم يتمتع بها ملك ولا رئيس من قبل ، وآخر ما يمكن أن نقوله : إن القانون نص على أن رئيس الجمهورية يختار شيخ الأزهر ، وينفرد بهذا الاختيار دون أن يرشحه أحد . ومعروف ما يحدث في الانتخابات من تزوير لصالح الحزب الوطني . وما تنفرد به المادتان 76 و 77 من إبقاء الساحة خالية لأعضاء هذا الحزب .

 س  دكتور جابر : ما رأي سيادتكم في الاعتقالات الأخيرة ، ومحاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري ؟

ج  المسألة ليست مسألة رأي ، فالحقيقة أن الدافع سياسي لإزاحة الإخوان عن الاشتراك في سياسة مصر ، بتهم مكررة ما أنزل الله بها من سلطان .

 وقد نظمت قصيدة طويلة بعنوان حسبكم الله ونعم الوكيل جاء فيها :

لو  كنتمو  من  شلة  الحاناتِ          ما بين ساقي الخمر و«الصاجاتِ»

والكأس تتلو الكأس خذ وهاتِ          والطبل     والمزمار     واللذاتِ

ما صرتمو في السجنً كالجناةِ

**********

لكنكم «إخوانُ  مسلمونَ»          بالعزة    الشمَّاء    تُعرفونَ

«محمدَ الرسولَ» تتٍبعونَ          والمصحفَ الشريفَ ترفعونَ

وشرعةَ  الجهاد  تسلكون          لا   الظالمَ  الجبارَ  ترهبونَ

ولا لمالِ الشعب سارقونَ          بل في متاع العيش زاهدونَ

لكل ذا أنتمٍ تحاكمونَ

 **********

س  دكتور جابر : إذا كان الوضع بهذه الصورة المؤسفة فما مستقبل مصر من وجهة نظركم ؟

ج  كنت أتمنى أن تسأل أولا عن حاضر مصر ؛ فالمستقبل مبني على الحاضر والحاضر مبني على الماضي ... إنها الحلقات الثلاث الزمانية : ماض  حاضر  مستقبل . وإذا لم يكن بين هذه الأزمنة اتساق تولد الخلل ، إن لم يكن الضياع . وما دمت تسأل عن المستقبل أقول : لو بقي وضعنا السياسي على ما هو عليه لكان في ذلك انهيار الوطن وتخلفه في كل المجالات .

س  دكتور جابر : بوصفك مفكرا وشاعرا وناقدا هل يمكن للأدب الحر النزيه أن يكون له دور في اصلاح أوضاعنا ؟

 ج  أنت ذكرتني بأمر مهم ومؤسف في الوقت نفسه ، وهو أن التقدير ، المادي والأدبي ،من نصيب رجال النظام . كما أن الأضواء لا تلقى إلا على فصيل معين يتمثل في حواريي النظام ، وملوك الحزب الوطني الذين أغرقوا الساحة الأدبية والنقدية بأدب النفاق والتزوير ، وهو ما أسميه " أدب اللا أدب " . أما دعاة الأدب الإسلامي ، والعاملين على نشره في أوساط المثقفين وخصوصا الشباب ، فمحرومون من قطرة من الضوء . وأذكر أنني وأنا أعمل في باكستان مدرسا بالجامعة الإسلامية العالمية بإسلام أباد ، وقمنا بافتتاح " جامعة الجهاد " في مدينة " بشاور " ومهمتها توليد " المجاهد الفقيه " ، الذي يعرف حق ربه وحق أمته وحق الحرية والقيم الأخلاقية . أذكر أنني أرسلت مقالا لصحيفة الأهرام عن هذه الواقعة بعنوان " عندما يتعانق المصحف والمدفع " ولكنه للأسف منع نشره . ونأتي إلى ما سألت عن مدى قدرة الأدب على إصلاح أوضاعنا وأقول : لو فتح المجال لدعاة مثل هذا الأدب بحرية وصراحة لاستطاع أن يفتح القلوب والعقول لاستشراف مستقبل زاهر بناء . وهي الرسالة التى يحرص على تحقيقها الأدب الإسلامي .

س  دكتور جابر : ولكن كثيرين يرون أن الأدب الإسلامي يعني إلزاما قهريا باتباع خطة فوقية مقننة ؟

 ج  إنه التزام الأديب المسلم  كما يقول الدكتور محمد مصطفى هدارة  رحمه الله  وهو يعد جزءًا لا يتجزأ من عملية الإلهام الفني، وليس خاضعًا لعنصر الاختراع الواعي المتعمد.. إنه جزء من نسيج التجربة التي هي لب الأدب، وكأن الالتزام في الأدب الإسلامي يعني تجارب حية في وجدان الأديب المسلم، وفكره اللذين تشربا التعاليم الإسلامية، بحيث صارت هذه التعاليم وحدها قرارًا طبيعيًا لتجاربه التي تتسع لكل معاني الوجود والحياة".

 فالتزام الأديب المسلم إذن إنما هو استجابة لفطرته السوية من ناحية، وتشربه القيم الإسلامية عقيدة، وديانة، وعلمًا، وثقافة من ناحية أخرى، حتى أصبحت "ميزان" الأشياء في كل شئون حياته، وأصبح الالتزام  شكلاً وموضوعًا  هو الطابع الأساسي  بل الوحيد  في مسلكه الخلقي والفني، وما عداه يعد نشوزًا وخروجًا على الأصل النبيل الكريم.

**********

 وحتى يكون منبع الالتزام غنيًا ثرارا دائمًا كان على الاديب المسلم  كما يرى محمد المجذوب في كتابه أدب ونقد – أن يكون موصولا دائما بالقرآن الكريم  وسنة النبي  صلى الله عليه وسلم - ثم عليه الاتصال بالمؤلفات الموثوقة في نطاق الثقافة الإسلامية المبنية على هذا الأصل.. كي يظل في مسيرته على الطريق الصحيح المستقيم، فلا يزيغ بصره عنها، ولا يطغى".

 ويضاف إلى ذلك طبعًا ضرورة انفتاح الأديب المسلم على المعارف الإنسانية، وأن يتزود بألوان متعددة من الثقافات الأدبية، والاجتماعية، والنفسية، وكل جديد في ميدان العلم.

**********

 وقد يذهب بعضهم إلى أن الأديب المسلم  بهذا الالتزام  يتنازل عن قطع كثيرة من حريته، ويحصر نفسه في نطاق ضيق من الموضوعات.

ولكن الحرية بمفهومها الإنساني السوي لا يقف أمامها الإسلام، فهو الدين الذي حرر الإنسان من استعباد الآخرين ، ومن عبودية الدنايا ، والغايات الخسيسة، والتعبد لغير الله . ومنطق العقل والواقع يقرران أنه لا حرية بلا "ضوابط" ، وإلا تحولت من حرية بانية إلى فوضوية مدمرة .

 والالتزام بالمفهوم الإسلامي لا يضيّق الحدود الموضوعة أمام الأديب، بل على العكس، يجعل كل ما قد خلق الله من مشهود ومغيَّيب في الأرض والسماء، وعالم الإنسان، والحيوان، والروح والطبيعة.. إلخ كلها موضوعات معروضة للأديب المسلم بلا حرج، ولا تحديد، ما دام يعالج موضوعاته من خلال "تصور إسلامي" شريف والأمثلة في هذا المجال أكثر من أن تحصى، والقرآن الكريم عرض للجنس في سورة يوسف، وللشذوذ في قصة لوط، وقومه، وللنوازع والغرائز والعواطف الإنسانية  في صورتيها: السامية والهابطة، مبرزًا ما يعكسه كل أولئك من دروس وتوجهيات وعبر، في سور متعددة.

**********

س  دكتور جابر : إذا ما موقف من يحتضنون " ويحتضنهم ما يسمى بالإلزام ؟ ج  الإلزام بطبيعته قهري ، كما نرى في كثير من الآداب الأخرى ، ونكتفي منها بالأدب الشيوعي، فنقرأ للينين " مقالاً كتبه سنة 1905م بعنوان " تنظيم الحزب وأدبه " وفيه يرفض أي نشاط أدبي ، أو فني لا يكون في خدمة الحزب الشيوعي، وفيه يقول " لنتخلص من رجالات الأدب غير الحزبيين، لنتخلص من هواة الأدب المثاليين ، على قضية الأدب أن تصبح جزءًا من القضية العامة للبروليتاريا، وجهازا صغيرًا من الآلة الاشتراكية الديمقراطية الموحدة ، والكبيرة التي تحركها الطليعة الواعية للطبقة العاملة كلها ، على النشاط الأدبي أن يصبح عنصرًا مؤلفًا لعمل حزبي اشتراكي ديمقراطي منظم " .

 ولعلنا نتذكر مأساة الكاتب الشيوعي " بوريس باسترناك " كاتب رواية "دكتور زيفاجو" التي كان فيها صادقًا مع نفسه، ومع الواقع الإنساني، وفاز بجائزة نوبل، فحوكم وجاء ختام قرار اتحاد الكتاب السوفييت، الصادر في 28 / 10/ 1958م يتهمه بالتدهور السياسي والأخلاقي، وخيانة الشعب والاشتراكية والسلام؛ لذلك أجمعت كل مجالس اتحادات الكتاب السوفيتية ولجانها التنظيمية في كل القطاعات على "فصله من اتحاد الكتاب السوفييت، وعدم اعتباره كاتبًا سوفييتيًا " .

س  دكتور جابر : وأخيرا أطرح السؤال التالي : رأينا ظاهرة تنمو في مصر وهي عجز الشعب بفئاته المختلفة عن نيل حقوقه المشروعة إلا عن طريق المظاهرات والإضرابات والاعتصامات . ما دلالة هذه الظاهرة الجديدة ؟

ج  هناك دلالة واحدة أركزها فيما يأتي وهي فساد الحكم واختلاله .

س  فهل يمكن في إيجاز شديد أن تحدد لنا مظاهر وحالات اختلال الحكم وفساده ؟

ج  السؤال في ذاته غريب لأن هذه المظاهر لا تحصى ولا تعد ، وضحيتها هو المواطن الذي يعاني من انحدار التعليم ، وانحدار الاقتصاد ، وفقد الرعاية الصحية ... الخ . ولا حل إلا بتغيير النظام القائم ، وإحلال نظام يقوم على أسس دستورية سليمة واضحة ... دستور نابع من إرادة الشعب دون تزييف وكذب وتزوير .

**********

 وفي النهاية أكرر شكري للأستاذ الدكتور جابر قميحة إذ فتح لنا صدره باستقبال الأسئلة التي وجهتها إلى سيادته ، وأكرر شكري داعيا الله  سبحانه وتعالى  أن يمتعنا بلقاءات متعددة .

ج  وأنا بدوري أشكرك من أعماقي إذ أتحت لي فرصة هذا اللقاء الذي أتمنى أن يتكرر كثيرا وكثيرا.