حوار مع الدكتور جابر قميحة

حوار مع الدكتور جابر قميحة

يا سادة.. كيف يكون للنثر قصيدة؟!

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

حوارأجراه : حسن الشهري

كثيرًا ما دخل معارك أدبية ساخنة مع العديد من النقاد والأدباء والمفكرين.. وكان في جميعها قوي الحجة واضح البيان منتصرًا للقيم والمبادئ العربية الراسخة.

والدكتور جابر قميحة واحد من جيل النقاد والأكاديميين المتصدين لمحاولات النيل من التراث العربي والتشكيك في الشعر القديم ورموزه.. لذلك فالحوار معه لا بد وأن يكون ملتصقًا بهذه القضية.. وراصدًا لمقومات الإبداع في العصر الحديث.

د. جابر قميحة في زمن الأطباق الفضائية، والتطور التقني المذهل ماذا عن الأدب؟ هل واكب هذا التطور العلمي التقني؟ هل استفاد من هذه النقلة في انعاش الحركة الأدبية؟ وجعلها في متناول يد المتلقي وذهنه.

ـ قد يكون "المفتاح" الذي يفتح لنا باب الإجابة متمثلاً في كلمة "واحدة" هي كلمة "الانبهار" فالانبهار أو الاندهاش المتوهج أمام عمل ما أو ظاهرة ما هو الذي يبعث الانفعال ويجذره في نفس الرائي، ثم تكون الاستجابة بعد ذلك متوقفة على طبيعة المتلقي: فإذا كان عالمًا على مستوى تقني رفيع حاول الانطلاق مما يرى إلى ما هو أكثر تقدمًا، وأوفى نفعًا، وإذا كان المتلقي أو الرائي شخصًا عاديًا حصر اهتمامه في نطاق المدى النفعي.. أي حساب العائد والجدوى التي يخرج بها مما يرى، أما الأديب "المنبهر" فإن مرحلة الاستجابة أو "النزوع" كما يقول المصطلح النفسي فيتمثل في "الرؤية الوجدانية" التي تأخذ شكل قصيدة أو قصة أو مسرحية .. الخ.

وقديمًا كان "الانبهار" من خلق "الخيال المتمني" فكان "بساط الريح" الذي يمتطيه الإنسان ويطير به إلى المكان الذي يريد، وشبيه به "الحصان الطائر" وكانت "البنورة المسحورة" التي ينظر فيها الإنسان فيرى من يحب.. وقد دخلت هذه الشرائح في قصص قديمة، وخصوصًا قصص "ألف ليلة وليلة".

في مطالع القرن العشرين ظهرت في الأدب الغربي قصص الخيال العلمي كقصة "رحلة إلى القمر" لهربرت جورج ويلز وغيرها، ودخلت البلاد العربية آليات المواصلات الحديثة مثل السيارة، والقطار، والطائرة، فانبهر الشعراء بهذه المخترعات ووصفوها وصفًا خارجيًا ماديًّا معبرين عن مشاعرهم النفسية من إعجاب وفزع أمام هذه الآليات التي فاقت في قدرتها "الجن والعفاريت". ولمعروف الرصافي وعبد الله النديم وحافظ إبراهيم وأحمد شوقي قصائد في هذه المخترعات.

وفي العقدين الأخيرين كانت طفرة التقنية بدرجة لا يصدقها عقل، وعلى سبيل التمثيل من كان يصدق أن نرى في الأشهر الأخيرة "دائرة معارف من عدة مجلدات تفرغ في دسك من بوصتين يوضع في "جهاز" أقل من مساحة الكف.

والحقيقة أن الأدب العربي لم يستطع أن يلاصق هذه الطفرات لعدد من الأسباب أهمها:

أولاً: أن العقلية العربية لم تستوعب من هذه الطفرة ـ حتى الآن إلا القليل، وما استوعبته كان "بالفهم القابل" لا "العقل الفاعل" الذي ينطلق منها إلى آفاق الاختراع التالي لا التلقي المقتدي أو المتوقف.

ثانيًا: أن "أزمة الوقت" في مجتمعاتنا ـ بل على المستوى العالمي ـ حقيقة ماثلة ـ في القرن الماضي , مثلاً كان الإنجليز يعتزون بما يسمى "بأدب المدفأة" المتمثل في الروايات الطويلة لديكنز وغيره مثل "قصة مدينتين" و"الآمال الكبار" وغيرها.. وكان الحال نفسه عندنا في مطالع القرن العشرين. أما الآن فالوقت "محسوب" على صاحبه "للمعاش" لا للأدب.

ثالثًا: أن هناك فكرة غالطة وهي أن أدب عصر "التقنية" يجب أن يرتبط ارتباطًا مباشرًا بآليات أي بمخترعات هذه التقنية، وهذا مستحيل؛ لأن هذه الآليات ذات أشكال معقدة جدًّا اعتمادًا على "الأزرار" و"الأسلاك" و"الأشعة". وغيرها، وليست في صورة مبسطة كالقطار، والطائرة مثلاً.

رابعًا: أن الأدباء والشعراء في وقتنا الحاضر ـ في أدائهم التعبيري ـ على الأقل ـ لا يرقون إلى مستوى أدباء الجيل الماضي، والمخزون اللغوي لكثير منهم فقير للغاية، كما أن الانبهار خفت حدته إلى أقصى حد...

 لكل هذه العوامل وهذه الاعتبارات يجب أن يتجه الأدباء والشعراء إلى "الإنسان في عصر التقنية" وما حملته هذه التقنية للعالم من خير وشر، وأن يستشرف الأديب برؤيته البصيرة وحاسته الشعرية مستقبل الإنسان في ظل التقنية بطفراتها الرهيبة.

موات الشعر..

يذهب بعضهم إلى إننا نعيش عصر "موات الشعر"، فما مدى صحة هذه المقولة.. وهل يمكن أن يموت الشعر فعلا؟.

ـ هذه المقولة تجنح نحو المغالاة والإسراف في الحكم.. هناك على الساحة شعر.. وشعر جيد.. ولكن وسائل الإعلام للأسف ـ على مستوى أغلب البلاد العربية - لا تلقي الأضواء بكثافة إلا على شعراء الحداثة وأصحاب ما يسمى بقصيدة النثر، فيخيل للنقاد أن هؤلاء هم الشعراء، ومن ثم يحكمون بهبوط مستوى الشعر بالنظر إلى إبداعات هؤلاء، أما الشعراء المطبوعون الأصلاء فحظهم من الأضواء قليل.. قليل جدًّا.

ثم إن الشعر لا يمكن أن يموت إلا إذا عاش الإنسان بلا عاطفة وبلا مشاعر وبلا ذائقة، وهذا مستحيل حتى لو عشنا عصر الجفاف العلمي؛ لأن هذا الإنسان لا يمكن إلا أن يكون هو الإنسان الآلي (الريبوت).

لست أنا فحسب!...

دكتور جابر.. رأيناك تشير إلى قصيدة النثر، بقولك "ما يسمى بقصيدة النثر" وهذا نوع من السخرية يعني أنك لا تعترف بها كجنس أدبي جديد له شعراؤه.. وله المتلقون المعجبون به.. فلماذا هذا الإنكار؟.

ـ لست أنا فحسب الذي ينكر ما يسمى بقصيدة النثر، بل هي التي تنكر نفسها؛ لأنها تحمل التناقضية العاتية ابتداء من اسمها (قصيدة النثر)، فالقصيدة كما هو معروف في الأدب العربي، وكل آداب العالم يجب أن تكون شعرًا له جرسه وموسيقاه، والنثر.. نثر بلا وزن وبلا قافية . فكيف يكون لهذا النثر قصيدة؟.. هل يصح شكلاً وعقلاً أن تقول (ظلام النور) أو تقول (ذكاء الغبي) أو تقول (إيمان الكافر) ؟ وهذه البدعة التي تولى كبرها أمثال أدونيس وكمال أبي ديب وخالدة سعيد تعد تدميرًا لقيمنا الشعرية وتراثنا الفكري وتحللاً من اللغة والقيم. ومن عجب أن نرى بعضهم يستعين فيما يسمى بقصيدة النثر بالأرقام والمصطلحات والأشكال الهندسية، مما جعلها لغزًا لا يفهمه لا المتلقي فحسب، بل المبدعون أيضًا، فإذا قلت "أنا لا أفهم" وجدت الجواب جاهزًا: من قال لك أن الفهم أو الإفهام هو غاية الشعر، ويجرونك إلى متاهات من الجدل يترفع العاقل عن الخوض فيها والهبوط إليها.

أزمة نقدية..

نجد بعض النقاد حاليًا.. على الساحة الأدبية يرددون ـ بل يأخذون أنفسهم ـ بمعايير النقاد السابقين وهم يقيمون إبداعات غيرهم من شعراء اليوم وأدبائه، فما رأيكم في هذا الاتجاه النقدي؟.

ـ هذا سؤال جيدًا "يصيب المحز" كما يقولون أي يعبر عن واقع نعيشه حاليًا، ولكنه يعبر عن أحد جوانب الحقيقة المرة لا جوانبها كلها، وتتلخص هذه الحقيقة في أننا نعيش "أزمة نقدية حادة" . وأكاد أقول "أزمة نقدية خلقية" , أنا لا أنكر أن هناك قلة من النقاد يلتزمون بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ).[النساء: 58].

ـ وقوله تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [سورة المائدة: 8].

هذه القلة من النقاد يأخذون أنفسهم بالأمانة والعدل، ولكنهم "محرومون" من الأضواء , وهم ـ بطبيعتهم الشامخة - لا يسعون إلى مثل هذه الأضواء، أما النقد الغالب على الساحة فهو لا يعرف إلا أحد طرفين "الموالاة والمعاداة" أو المجاملة والتدمير.. أي الأبيض والأسود.. ولا مكان للون الرمادي.

كما غاب "النقد التوجيهي" الذي يتعهد "البراعم" ويوجهها ويرشدها إلى أن تستوي على سوقها، ويقوى عودها، ومثل هذا "البرعم" الأديب أو المتأدب ـ إذا لم يجد من يتعهده: إما أن يصاب بحالة إحباط تدفعه إلى الانسحاب من الساحة الأدبية، وقصف قلمه إلى الأبد، وإما أن يتملكه الغرور إلى حد النرجسية، لذلك أقول أن الحركة النقدية في حاجة شديدة وملحة جدًّا لوقفة.. بل وقفات طويلة مع النفس.

شعر نزار..

اسأل الآن عن نزار قباني: لماذا يستشيط بعضهم غضبًا منه؟.

ـ نزار قباني كان يعيش بشعره على دغدغة عواطف المراهقين وغرائزهم , إنه شاعر يعبر بألفاظ عربية عن فكر وطوابع فرنسية، وهو شعر صالونات، وسهرات , ولكن يصعب على أن أنسبه إلى "دوحة الشعر الأصيل" الذي يخلد صاحبه، هو شعر مرحلي.. "وجبة سندوتشيه" لا يمكن أن تغنيك عن "الوجبة الرئيسية الأصيلة", والدليل على ذلك أن "نزار قباني" لو استمر في نفس النهج لما نظر إليه أحد؛ لأنه فقد القاعدة العريضة التي كانت تتلقف أشعاره والتي تتمثل في جمهور المراهقين، ويرجع ذلك إلى "الصحوة" التي هيمنت على كثير من هؤلاء الشباب , أما الذين ظلوا في ساحة الانحراف فلم يعد هذا اللون من الشعر يشبع نهمهم.

معركة أدبية..

كتابك الأخير.. "الأدب الحديث بين عدالة الموضوعية وجناية التطرف" يمثل معركتك التي دارت لمدة أشهر على صفحات صحيفة اليوم بينك وبين رجاء النقاش: أليس كذلك؟.

ـ هذا صحيح، ولكن المعركة لم تشغل من صفحات الكتاب إلا قرابة 130 صفحة من مجموع صفحاته التي بلغت 370 صفحة، وكان موضوعها تحيز رجاء النقاش ـ دون وجه حق ـ لما سماه خليفة التليسي "قصيدة البيت الواحد" وأصدر التليسي كتابًا يحمل هذا الاسم. اعتبره رجاء النقاش نظرية نقدية جديدة، تعيد للشعر العربي اعتباره، ورأيت في هذا الحكم إسرافًا في المجاملة لا يمكن أن يتفق مع الواقع.

ومعاركك الأخرى؟.

ـ يجب أن تنتبه لشيء مهم جدًّا، وهو ضرورة التفريق بين "المعركة" و"التصدي" فالتصدي يعني ردًا أو نقضًا لفكرة معروضة في مقال أو كتاب أو غير ذلك، وينتهي الأمر بهذا الرد أو النقد.

أما المعركة فيجب أن تكون متواصلة، عرض ورد، ورد على الرد.. وهكذا، وقد يشترك في المعركة أكثر من طرفين.

فما كان بيني وبين رجاء النقاش "معركة أدبية" حقيقية دارت رحاها على صفحات "اليوم" السعودية، وأغلب ما يسميه بعض الإخوة معارك أدبية كانت "تصديات" تواجه تحديات، وكان موضوعها "الأدب الإسلامي" كردي على الدكتور عبد الله الحامد على صفحات "المسلمون" السعودية، وردي على الدكتور الغذامي على صفحات "المسلمون" أيضًا، وكذلك ردي على الدكتور مرزوق بن تنباك على صفحات "الدارة" السعودية، وهو رد طويل استغرق قرابة ستين صفحة.

وطبعًا كلها ردود حادة، كما هو معروف عن منهجك في النقد: لا ترضى بأقل من النصر بالضربة القاضية.

ـ يا أخي ليس لهذه الدرجة إنها إشاعة انتشرت عني، ربما كان مصدرها أن النقد الشائع في الساحة الأدبية هو "نقد المجاملات" وعلى من يشيع عني ذلك أن يفرق بعدل وتأن بين "النقد الحاد" بالحاء، و"النقد الجاد" بالجيم. وأعتقد أن نقدي يصدق عليه الوصف الثاني.

 وماذا عن قصتك مع الشعر؟.

 ـ الحمد لله خلقني الله مغرمًا أو مريضًا بالقراءة، وكان "مصروفي" من صغري أوجهه لشراء الكتب، وما زلت أشعر بالسعادة حينما اشتري كتابًا جديدًا , وأشعر أنني أسعد الناس حينما انتهي من قراءته، كنت بعد انتهائي من المرحلة الابتدائية مغرمًا بشاعرين: المتنبي، وعلي محمود طه حتى حفظت كثيرًا من شعرهما، كان عمري اثنى عشر عامًا حين نظمت قصيدة بعد موت أخي الأكبر والوحيد، وكانت بعنوان (على قبر أخي) , وفي المرحلة الثانوية كونت قصائدي "ديوانًا كاملاً" لم يطبع , اتخذت له عنوانًا هو "اذكريني عند قبري" . قل نظمي للشعر جدًّا في سنوات الطلب الجامعي، ولكن يقظة حاستي الشعرية في صورتها المتوهجة كانت في أمريكا سنة 1981م، ثم في السنوات الخمس التي قضيتها في باكستان (1985م ـ 1989م) , وطبعت بعض قصائد هذه السنوات في ديواني (لجهاد الأفغان أغني) , وكانت قصيدتي (الزحف المدنس) أول قصيدة تنشر في الوطن العربي عن غزو صدام للكويت، وعن هذا الغزو توالت قصائدي حتى صنعت ديوانًا كاملاً سميته "الزحف المدنس".

ومن دواويني : "لله والحق وفلسطين " , و " على هؤلاء بشعري بكيت " و" حسبكم الله ونعم الوكيل" .

ومن مسرحياتي الشعرية : " مجلود الضمير وحشي الحبشي " ،  " البحث عن قبر لعز الدين القسام "،  و "محكمة الهزل العليا "، و " الهجرة إلى الجب ".