فيصل بن محمد الحجي

محمد شلال الحناحنة

حوار مع الشاعر

فيصل بن محمد الحجي

محمد شلال الحناحنة

عضو رابطة الأدب الإسلامي

   س1: الشعر.. هذا الدفء، هذا الألق الذي يسكن أرواحنا، كيف تؤانسه؟ ومتى يؤانسك؟ دعنا نتعرف على مشوارك معه؟

   ج: الشعر نبضات قلب، واهتزازات شعور، وسَبحات فكر على أمواج الخيال، يستثيره شذى وردة من يد ودودة، أو وخز شوكة من يد لدودة، أو ذكرى عن ماضٍ أليف، أو لمحة إلى مستقبل وريف، أو زفرة آلام، أو طلعة آمال.

   الشعر منحة من الله يصطفي بها من شاء من عباده، فيجعل الموهبة توأماً له في يوم ميلاده، تنمو معه، وتتسع باتساع معرفته وتجاربه ومعاناته، وتألفه ويألفها حتى تسيطر عليه، وتتحكم به، فإذا أقبلت تدفق لسانه بما لذ وطاب، وجاء بالعجب العُجاب، وإن أدبرت عجز عن أن يأتي ببيت واحد من الشعر، ومهما حاول أن يقول فلن يقول..! وإن أصرّ أن يقول والقريحة مُعرضة جاء بنظم مصنوع لا تشرق به الابتسامات، ولا تهطل لأجله الدموع، وما الجدا من وثبة محبطة، كأنها جثة محنطة؟!

   قصتي مع الشعر بدأت قبل ميلادي وقدومي إلى هذه الدنيا.. فوالدي –رحمه الله- كان يميل إلى قرض الشعر، وعمي (ناصر الدين الحجي) –رحمه الله- أصدر ديوناً من الشعر في مدح النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبدأت قصتي مع الشعر عملياً وأنا طالب في بداية المرحلة المتوسطة في ثانوية القلمون في مدينة (النبك) عاصمة منطقتنا (القلمون) التابعة لمحافظة دمشق عاصمة الجمهورية العربية السورية، كانت المحاولة الأولى عن (فلسطين) وكانت قضية فلسطين في بداياتها، ومشاعر جماهير المواطنين في سوريا ما زالت حماسية متفائلة، ولا غرابة إذا كانت محاولتي الشعرية الأولى رديئة! فهي لطالب في المرحلة الدراسية المتوسطة لا يملك من مضمون الشعر إلا العاطفة البريئة والمعلومات السطحية الشائعة عن قضية فلسطين، ولا يملك من فن الشعر إلا التقليد الضعيف للشعراء..! وأذكر أن مطلع القصيدة كان البيت التالي:

   يا فلسطينُ الجهادُ تكرّرا    وأَرَقْنا في رُباكِ الأحمرا

   ذهبتُ بقصيدتي إلى مدرس اللغة العربية لأسمع رأيه فيها فردّها ولم يقبلها وأدار ظهره دون أن أظفر منه بأي توجيه أو تشجيع..! وكانت صدمة لا أنساها أطفأت جذوة الشعر عندي سنين طويلة! ولم أستردّ جرأتي على قول الشعر إلا بعد أن صرت مدرساً..! أنا أعلم –الآن- أن تلك القصيدة كانت ضعيفة، ولكنني أعلم أيضاً أن تلك القصيدة كانت تُنبئ عن وجود (بذرة) القريحة والموهبة، و(البذرة) إذا لقيت العناية والرعاية نمت وترعرعت، وأزهرت وأثمرت، وهذا يدل على أهمية التشجيع للطلاب والمبتدئين والناس عموماً في كل مجالات الخير..! لهذا فإنني –بفضل الله- حوّلت هذه التجربة المُرّة إلى سلوك إيجابي في ممارساتي التدريسية والتربوية، فإذا جاءني طالب بنص أدبي من تأليفه وطلب رأيي فيه نظرت إلى النص باهتمام.. وفحصته بنظرة موضوعية، ثم وجّهت الطالب –بلطف وصراحة- إلى ما في النص من إيجابيات وسلبيات، وأرشدته إلى الوسائل والأساليب التي تعينه على تطوير موهبته وتحسين إنتاجه! وشجعته على أن يعرض عليّ أو على أمثالي كل نص جديد وهكذا.. حتى آخذ بيده للسير في طريق الإبداع..!

   وحين كنتُ أدرس مادة (العَروض والقافية) لطلاب الصف الثالث الثانوي في المعاهد العلمية في جامعة الإمام، كنت أسير بتدريس المنهاج عدة أسابيع، حتى إذا امتلك الطلاب المعلومات الأساسية (كالتفعيلات والزحافات والعلل وبحرين أو ثلاثة من بحور الشعر) خصصتُ حصة –على الأقل- لاكتشاف المواهب الشعرية.. كنتُ أبدأ الحصة ببيان الهدف منها، وأن كثيراً منهم يملك الموهبة الشعرية ولكنه لا يدري..! وأبشرهم بأنه ستظهر الآن مواهبهم وما عليهم إلا أن يكسروا حاجز الخوف أو الخجل ويحاولوا معي.. وأتلو عليهم قوله تعالى: (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج) الحج الآية5. ثم أكتب على السبورة من تأليفي شطر بيت من الشعر على وزن أحد بحور الشعر التي درسوها، وأطلب منهم أن يملوا عليّ من تأليفهم الشطر الثاني، فتبدأ الأيادي بالارتفاع قليلاً.. ثم تكثر.. ثم أكتب شطراً آخر وأكرر المحاولة عدة مرات.. ثم أطلب منهم بيتاً كاملاً، وأكتب كل ما يملون عليّ، فما كان صحيحاً هنّأت صاحبه، وما كان خطأ بيّنت الخطأ فيه، فإذا اتسع الوقت انتقلت بالمحاولة إلى بحر آخر، وهكذا يبدأ أصحاب المواهب بالظهور.. فأشجعهم على الاستمرار، وكنتُ في بقية العام أداعب أحد هؤلاء ببضعة أبيات من الشعر لعله يردّ عليّ بأبيات مثلها، وتبقى المشكلة أن العام هو العام الأخير لهم في المعهد، والفترة قصيرة، ومادة العروض لها حصة واحدة فقط في الأسبوع، وبعده يبتعدون عنا وينطلقون في ميادين الحياة، ولا ندري: أتأتيهم الظروف المناسبة والمشجعة على قول الشعر أم لا؟ ومما أعتز به بعض أولئك الطلاب الذين صاروا شعراء مبدعين، ومنهم الشاعر الدكتور فوّاز اللعبون، والشاعر الأستاذ حسن القرني.

   س2- قالوا (فيصل الحجي) شاعر مناسبات أين تضع هذا القول في مسيرة إبداعك؟

   ج: أولاً: يجب أن نعلن –وبلا أيّ حرج- أن المناسبات هي أحد مصادر الإلهام للشعراء في كل زمان ومكان..! ولا يجوز للشاعر أن يتجاهل المناسبات فلا يقول فيها شعراً خاصة أننا في عصر كل أحداثه مناسبات خطيرة ومثيرة فكيف نتعامى عنها ولا نسهم –مع أهل الحق- بقول الحق؟

   أما أن أكون شاعر مناسبات فقط فهذا غير صحيح.. ولكن أحد أسباب هذا الوهم هو أنني في الأمسيات والندوات أختار –غالباً- لإلقاء قصائد المناسبات لأن المهتمين من الجمهور بها أكثر من المهتمين بغيرها وتلقى قبولاً أكثر..! وبما أن الشعر هو الذي يأتي للشاعر وليس العكس فقد تمر عليّ مناسبات مهمة أتمنى أن أقول فيها شعراً ولكنني أعجز عن ذلك.. فلماذا؟

   س3: لفلسطين مكانة خاصة في شعرك.. كيف تقرأ ما يحدث في فلسطين اليوم؟

   ج: قضية فلسطين من أخطر القضايا التي ابتُلي بها العرب والمسلمون في عصرنا، وتزداد خطورتها يوماً بعد يوم، فهي ليست مجرد اغتصاب أرض، بل إنها مؤامرة كبيرة على الأمتين العربية والإسلامية، ولكن المصيبة أن أصحاب الحق لم يكونوا حريصين على حقّهم، فالسياسيون الذين بيدهم القرار لم يبذلوا الاهتمام الكافي ولم يستثمروا الاستعداد الكبير عند الشعوب للبذل والجهاد، بل لم يتركوا باب الجهاد مفتوحاً لمن أراد، ولو اكتفوا بتسليح الشعب الفلسطيني فقط لكان بإمكانه هزيمة اليهود والقضاء على الدولة المزعومة، وعوضاً عن ذلك اكتفوا بملء الفراغ بالخطب الرنانة وانشغلوا بتخدير المشاعر لتهدئة الشعوب، بينما اليهود يستعدّون ليلاً ونهاراً، ومع مبادرة بعض كتائب المجاهدين إلى خوض معارك التحرير إلا أنها تعرضت للغدر والتخذيل من الخلف..! لتكتمل المؤامرة!

   ولقد فتحت عينيّ على الدنيا مع بداية جريمة اغتصاب فلسطين! واستمعت –يومذاك- بذهول إلى خبر قيام دولة لليهود في فلسطين، وكانت المشاعر في كل مكان تغلي وتتطلع للجهاد وتحرير الأرض المقدسة، ولذا كانت بداياتي الشعرية حول فلسطين، واحتلت هذه القضية أكبر مساحة في شعري وشعر أمثالي من الشعراء الإسلاميين وغيرهم.

   س4: ديوانك الثاني (دموع الرجال) أليس في عنوانه مفارقة موجعة؟ فهل لك أن تجلو لنا بإيجاز ما فيه من جراح؟

   ج: كتب الله على المسلمين من أبناء عصرنا أن يعيشوا مصائب وأهوالاً! وأن يقاسموا الويلات من العدوان الخارجي والظلم الداخلي! فيعانوا السجون والمعتقلات، والنفي والتشرد في أنحاء المعمورة، وتشير الإحصاءات الدولية إلى أن النسبة العظمى من المنفيين والمهجّرين في العالم من المسلمين.

   إن المهاجر يعاني –أول ما يعاني- من التوق النفسي حين يغادر أهله ووطنه مضطراً! ثم تمتد الغربة فيشتد الألم يوماً بعد يوم، ثم تأتيه الأخبار المحزنة عن موت الأحباب –واحداً بعد الآخر- وكان يعلل نفسه بالآمال بأنه سوف يراهم يوماً ما..! ولقد ذهبوا ولن يراهم في الدنيا بعد الآن، ولم يشترك بتشييعهم إلى مثواهم الترابي! ولئن كان من طبع الرجال الصبر والتجلد، لكن هذا لا يعني تبلّد الإحساس وانعدام الشعور، ورحم الله شاعرنا الكبير (عمر بهاء الدين الأميري) حين قال بعد أن ابتعد عنه أطفاله:

   قد يَعجبُ العزّالُ من رجلٍ=يبكي.. وإن لم أبكِ فالعَجبُ!

   هيهات! ما كلّ البُكا خَوَرٌ=إني.. وبي عزمُ الرجال أبُ!

   أجل! ما كل البكاء دليل على الخور والضعف، فهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول يوم وفاة ابنه إبراهيم: إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنّا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون!

   فالشاعر يذرف الدمع من عيني رأسه، كما يذرف الدمع من عيني قريحته فتسيل شعراً حزيناً رقيقاً يفيض بالأسى والحنين لفراق أحبابه ومراتع صباه ولهذا جاء ديوان (دموع الرجال).

   س5: نقرأ لك أحياناً شعراً تعليمياً، ترى ما دور هذا الشعر في حياتنا المعاصرة، ولاسيما أنك قد أصدرت ديوانك الثالث (قصائد معلم)؟

   ج: المعلمون فئة كبيرة من أبناء الشعب، وعملية التعليم في عصرنا كبيرة واسعة قد تشمل كل الأبناء في بلادنا، والتعليم مهنة شريفة ودورها كبير وخطير في مستقبل الأمة، فهي التي تعد الأجيال وتؤهلهم لتحمّل المسؤوليات والأعباء للنهوض بالأمة، وهذه المهنة قد تكون محنة في بعض الأجواء حيث يعاني المعلم ما يعاني ولا يلقى عوناً أو عزاء، ولذلك اختلط فيها الأمل بالألم، ولقد تعرّض الشعراء لمهنة المعلم، فمنهم من أشاد بها ومجدها، ومنهم من تضجر منه وشكا من المشاكل التي يصطدم بها: مع الطلاب، أو مع أولياء الأمور أو مع إدارة المدرسة أو المفتشين، أو ضعف المرتبة والراتب، ولذا جاء هذا الديوان (قصائد معلم) الذي يغطي من ساحة الزمان خمسة وعشرين عاماً، وسيرى القارئ الكريم أنه قد صوّر مختلف شؤون الحياة المدرسية بدءاً بالعلاقة مع الزملاء والرؤساء وما فيها من دُعابات ومعاتبات وتهان وتعاز واستقبال ووداع، ورثاء وشكوى من المشاق في الأسفار والتدريس وإعداد الدروس في دفتر التحضير والمراقبة والتصحيح في الامتحانات والحوارات مع معلمين شعراء، والتعامل مع الطلاب المشاغبين والمهملين، يقابلها تهنئة الناجحين وتشجيع المتفوقين، والمشاركة في المناسبات الشخصية والعامة بقصائد أو أناشيد والمطالبة بالحقوق والقصائد الضاحكة، كما سيلحظ القارئ الكريم أن منهج الديوان قائم على التوازن بين التفاؤل بالطلاب المجتهدين المهذبين والاعتزاز بهم، والشكوى من الطلاب الخاملين والمشاغبين والدعوة إلى إصلاحهم بالتعاون مع أولياء أمورهم.