مقابلة مع محمد جمال صقر
مقابلة مع محمد جمال صقر
الدكتور محمد جمال صقر
حاوره: عبد الرزاق الربيعي
عبد الرزاق الربيعي :
عملت بجامعة السلطان قابوس سنوات ، واليوم تعود إليها زائرا ؛ فماذا يعني لك هذا الصرح العلمي ؟
محمد جمال صقر :
لقد مازجت حقيقة هذه الجامعة فترة كانت فيها شغلي ومضمار ركضي ، ثم مازجت خيالها فترة كانت فيها أذكار صباحي ومسائي ؛ فكافأني المقدار بوصل ما بيني وبينها ؛ فأنا الآن في حيثُ تَمَنَّيْتُ ، كأنما تيسرت لي آلتا زمان ومكان معا ، فراجعت بهما ما كان !
إن في عقلي وقلبي من هذا الصرح العلمي الباذخ ، معنى الحرية الرشيدة ؛ فمن طبيعة الجامعات الحديثة أن تستنفر طاقات أساتذتها إلى آخر وسعهم ، لا كالجامعات القديمة التي تكفكف منها إلى آخر ضيقهم بسلطان التقاليد القوية الراسخة المتسلطة . وأقل ما يقابل به الأستاذ تلك الحرية المتاحة له أن يطلق من أجلها عن خيول إبداعه إلى آخر مدى السبق .
عبد الرزاق الربيعي :
طريق الألف ميل يبدأ بخطوة ؛ فكيف كانت خطواتك الأولى في عالم النقد ؟
محمد جمال صقر :
كان \" الاختيار \" أولى تلك الخطوات ، كما قال صاحبنا :
نابَ عَنْكَ الَّذي تَخَيَّرْتَ إِذْ كانَ دَليلًا عَلى اللَّبيبِ اخْتِيارُهْ
اخترت الدراسة التي تلائمني وتنفعني ؛ فلا أحب أن أُعَطِّل مَيْلي ، ولا أن أُضَيِّعَ وَقْتي . وهكذا قليلا قليلا تَجاوَزْتُ من اختيار الكلية ، إلى اختيار القسم ، ثم إلى اختيار رسالة الماجستير ، ثم إلى اختيار رسالة الدكتوراه ، ثم إلى اختيار الأبحاث التالية بحثا بحثا .
لقد تيسر لي أن أعاني في ذلك كله ، أفكارا خَطَرَتْ لي في خلال اجتهادي في طلب علوم اللغة العربية وفنونها ، وأن أعالجها ، وألا أخضع لأفكار غريبة عني مهما كانت وكان مفكرها ! ومن ثم لا أحب لطالب أي من تلك العلوم والفنون ، أن يجلس إلى طلابٍ مثله - وكل أهلها طلاب في حضرتها - يَتَكَفَّفُهُم مسألة علمية أو فنية !
ولقد أنشأ لي ذلك مشكلات ربما خافها مثل هؤلاء الطلاب المتكففون ، من مثل أن من يتبنون أفكاره يظل يكلؤهم ويذود عنهم ، حتى إذا ما خالفوه إلى أفكارهِمْ هُم اطَّرَحَهُمْ للسباع ! ولكنني انتهيت إلى أن هذه الحياة الواحدة التي نحياها ، تحتاج إلى أن نغامر ونتحمل في سبيل أن نكون أنفسنا لا أن نكون غيرنا ! بل انتهيت إلى أن هذا المسلك الشريف نفسه ، كفيل أخيرا بعطف أولئك الأساتذة الغاضبين ، على هذا السالك ، بعدما يرون من صدقه وجِدِّه واجتهاده ونزاهته .
عبد الرزاق الربيعي :
وماذا عن الكتابة الشعرية ، وإلى أي جيل شعري تنتمي ، وهل أخذتك الجامعة من الشعر ؟
محمد جمال صقر :
كانت منزلة عمل الشعر عندي دائما ، بعد منزلة علمه : أقرأ ، وأستمع ، وأجتهد أن أسبر غور الشعر ، وأعرف سره . وربما عكفت حينا على عمل قصيدة في فكرة من همومي ، حتى تجمعت لي مجموعتان : \" لبنى \" - وقد صدرت عن دار القبس بالقاهرة سنة 1994م ، و\" براء \" - وقد صدرت عن دار المدني بالقاهرة سنة 2000م - أهديت منهما لمكتبة جامعة السلطان قابوس ، ولكثير من أصدقائي ؛ فكان من رأي بعض شعرائهم أنني أشبه السَّبْعينيّين المصريين ، على رغم تأخري عنهم عقدين من الزمان تقريبا !
ثم انقطعت إلى علم الشعر ، ولم أعد أجد من الوقت ولا من الجهد ، ما أبذله لعمله ؛ ولا سيما أنني شديد الطلب لعلم الشعر ، حريص على تطوير علمي به وتهذيبه ، مؤمن بضرورة مزج حقائق علم الشعر الأكاديمي بروحه الفنية ، في سبيل حسن استيعابه وتعليمه .
عبد الرزاق الربيعي :
كيف ترى واقع النقد الأدبي ؟ وهل تراجع لصالح النقد الثقافي ؟
محمد جمال صقر :
من رأيي أن النقد الأدبي طرف من النقد الثقافي ، ومن مزايا تخصيص جهة النظر التجويدُ ؛ فكل من أراد البحث عن حقيقة مسألة ، ثم قصر بحثه على جانب منها معين \" الأدبي \" ، كان حريا أن يصل إلى حقيقتها وأن يحسن فهمها وإفهامها ، وكل من فتح بحثه على الفضاء الكبير \" الثقافة \" ، كان حريا أن يصل إلى أشتات من معالمها مجتمعات ، إلا أن يؤتى من القوة والقدرة والفضل ، ما يجعل تعميم جهة النظر بمنزلة تخصيصها ، ومثل هذا قليل ، وسيظل قليلا ، ومنهم الآن الدكتور مصطفى ناصف ، الناقد الفيلسوف ، الأستاذ بجامعة عين شمس .
عبد الرزاق الربيعي :
هل توافق من يقول إن النقاد شعراء تعطلت قوى الإبداع عندهم ؟
محمد جمال صقر :
اختلف الناس من قديم في نقد الشعر ؛ أيجعلونه في علوم اللغة أم في فنونها ؛ فللغة أجهزتها المعروفة ( الأصواتُ ، وصيغُ الكلم ، ومعاني الكلم ، والتَّراكيبُ ) ، التي تدرسها علومها المعروفة ( علم الأصوات ، وعلم الصرف ، وعلم المعجم ، وعلم النحو ) ، وليس منها علم النقد !
ولكن لها فنونها المعروفة التي تكون بمعاملة أجهزتها السابقة معاملة خاصة ، ولابد من أن تدرس فنون الأجهزة كما تدرس الأجهزة . فإن أضافتها علوم الأجهزة إليها لم يستطع أحد أن يخرج دراستها عن أن تكون علما ، لأنها تجري عليها مناهجها ، حتى تنتهي إلى قواعد ونظريات ضابطة . وإن لم تضفها بقيت على حَرْفٍ ؛ فمن متناوليها من يميل إلى طريقة علوم الأجهزة فيقارب العلمية ، ومنهم من يميل إلى طريقة فنون الأجهزة فيقارب الفنية،وهؤلاء الآخرون هم الذين يوصفون ذلك الوصف \"شعراء تعطلت قوى الإبداع عندهم \" ! وهو وصف سَخِطَ به عليهم من يرى أن يضاف البحث عن فنون الأجهزة،إلى علوم الأجهزة،أي أن يضاف إلى علم الأصوات مثلا،تفنن الشعراء في استعمال الأصوات.
عبد الرزاق الربيعي :
هل ترى أن العمل الأكاديمي قتل الكثير من المواهب الإبداعية من المشتغلين بهذا الحقل ؟
محمد جمال صقر :
لا يصح فعل القتل هذا إلا في حالتين :
العمل الأكاديمي الكئيب المظلم الذي لا يقدم ولا يؤخر ، وليس للعامل به منه إلا الجوع والعطش !
الموهبة الإبداعية اليائسة المتزعزعة على حرف غير معتمدة على عقيدة ثابتة ، وليس للفن منها إلا الجوع والعطش كذلك !
أما إذا تَيَسَّرَ للموهوب الآمِلِ الْمَكين ، العملُ الأكاديمي المُزْهِرُ الوَهّاجُ ، فإنه يجتهد فيه كما يجتهد في عمل من فنه القديم ، ولا يخلو نتاجه العلمي من طبيعته الفنية .
وينبغي لمثل هذا الموهوب الأكاديمي أَلّا يُجالِسَ الذي يخوضون في ذلك الأصل ؛ فليس في مُجالَسَتِهِمْ إلّا البَلَهُ والتَّفاهَةُ !
عبد الرزاق الربيعي :
كيف ترى واقع الشعر العماني ؟
محمد جمال صقر :
ربما كانت عمان من أكثر البلاد العربية تقديرا للشعر العربي ، حتى لتجد العمانيين يقدمون الشاعر على أنفسهم ويُبَجِّلونه ، على نحو مفتقد في كثير غيرهم .
وفي الشعر العماني ما كان في الشعر دائما ، من شعر قريب المعنى أشبه بمنظومات المتون ، وشعر بعيد الغور أشبه بأعمال التشكيل الفنية التعبيرية .
وبمثل هؤلاء الآخرين ينبغي أن نعتني ؛ فنشجعهم على المضي في منهجهم الذي ينير من بصيرة الإنسان ، ويخصب من حياته ، فيزيد من إنسانيته - ونعرضهم نموذجا يحتذى ، من دون أن نسفه أحلام الذين لا يقدرون على تلقي شعرهم ، بل نُثْني على تقديرهم للشعر مهما كان ، ونُشَجِّعهم ، ونُثَبِّتهم - فهو نعمة تستحق الشكر لكي تبقى وتزيد ، لا الكفر لكي تزول - ثم نأخذ بأيديهم قليلا قليلا إلى الشعر الحق ، كما نعلم تلامذتنا الحقيقة بعد الزيف .
عبد الرزاق الربيعي :
ماذا يعني لك اختيار مسقط عاصمة للثقافة العربية عام 2006م ؟
محمد جمال صقر :
يعني الكثير؛فإنه علامة الوعي العربي الذي نتمسك به،سعيا إلى حاضر زاهر شامل؛فلا قيمة لعاصمة عربية منفردة منقطعة من أخواتها.ثم هو شهادة تقدير أخوية ، تثني على ما تحقق لمسقط النائبة في الذكر عن عمان كلها . ثم هو باب العمل المضني قد انفتح ليدخل منه المخلصون الحريصون على حاضر عمان ومستقبلها ؛ فينشطوا لكل قديم مُجْدٍ وحديث مأمول ، عسى أن تتكون شبكة أعمال ثقافية ملائمة ، ينبغي أن تستمر بعد هذا العام إلى أن يأتي مرة أخرى بما يندهش له المتابعون ، أن يكون تم بين العامين .
عبد الرزاق الربيعي :
كيف تنظر إلى الحداثة مفهوما ؟
محمد جمال صقر :
لمّا كان بين المتعاصرين على رَغْمِ تَعاصُرِهِمْ ، مَنْ يَحِنُّ إلى ماضيه ويعمل له ، ومن يشتغل بحاضره ويعمل له ، ومن يطمح إلى مستقبله ويعمل له - تَسَمّى أَوَّلُهُمْ قَداميًّا ، وثانيهم حَداثيًّا ، وآخِرُهم مُسْتَقْبَليًّا . ولا حياة ولا بقاء لثقافة لم تَحْظَ مِنْ حَمَلَتِها بأولئك الثلاثة ( القداميين ، والحداثيين ، والمستقبليين ) جميعا معا ، على ألا يغفل بنوها عن تكاملهم - وإن بدوا متناقضين - فالحاضر ابن الماضي ، والمستقبل ابن الماضي والحاضر جميعا ، ثم هو أمل الحاضر ، كما كان الحاضر أمل الماضي ، وعلى ألا يغفل بنوها كذلك عن السِّلْك الذي ينتظمهم في عقد ثقافة واحدة وإن بدوا مختلفين ؛ فلا انتسابَ لثقافة بحيث يقال : عربية أو إنجليزية أو صينية أو يابانية ، حتى تسلم لها أصولُ نظام اللغة والتفكير ، مُسْتَمِرَّةً في الماضي والحاضر إلى المستقبل .
عبد الرزاق الربيعي :
ما أهم المشكلات النقدية التي يعاني منها النقد العربي ؟
محمد جمال صقر :
ضعف الإيمان بالعروبة أُسُّ المشكلات الثقافية كلها ؛ فالناقد الواقف عند مقالات غيره احتقارا لتراث أمته ، والناقد المخالف عن المصطلحات حرصا على خصوصية خادعة ، والناقد المُطَّرِح من يده يد قارئه في سعيه إلى المنقود ، والناقد اللاهج بالتنظير كبرا على النصوص ... كل أولئك أمراض نقدية مشكلة ، علاجها الإيمان بالعروبة والثقة فيها والانطلاق منها والإخلاص لها .
عبد الرزاق الربيعي :
هل تبلورت ملامح نظرية نقدية عربية ؟
محمد جمال صقر :
أدعوك إلى قراءة كتابين للكاتب الأديب الفذ محمود محمد شاكر :
\" رسالة في الطريق إلى ثقافتنا \" ، الصادر وحده مرة عن دار الهلال ، ومرة في مقدمة كتابه \" المتنبي \" عن مطبعة المدني ومكتبة الخانجي بالقاهرة .
و\" نمط صعب ونمط مخيف \" ، الصادر عن مكتبة الخانجي بالقاهرة .
إنك إن قرأتهما ، وصبرت عليهما ، ولم تلفتك عنهما صورة صاحبهما المختلف فيها ، وقفت على نظرية نقدية عربية أصيلة متروكة مهملة ، لم يخترعها الرجل ، ولكنه بذل في تعلمها من عمره ونفسه ، ثم أقبل يعلمها أمته ؛ فأنشأها نشأة أخرى . ولا تقل لي : كتاباه أنفسهما نمط صعب مخيف ؛ فإنه كلام أشبه بالذنب منه بالعذر !
وكل ما حاول ويحاول تقديمه كثير من علمائنا من مثل الدكتور عبد العزيز حمودة ، والدكتور محمد أبو موسى على بعد ما بينهما - عيال على ما قدمه ذلك العلم الفرد ، رحمه الله !
في أول الكتابين تنظير وتأريخ واستبانة ، وفي الآخر تطبيق وتذوق وإبانة ، ولا يستغني عنهما باحث عن تلك النظرية النقدية العربية .
محمد جمال صقر
في العاشرة من صباح الجمعة 10/9/1426هـ=14/10/2005م
بمكتبي المشترك ، من قسم اللغة العربية
بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية ، من جامعة السلطان قابوس