حوارغير صحفي مع الدكتور جابر قميحة 4
حوارغير صحفي مع الدكتور جابر قميحة
الحلقة (4)
أ.د/
جابر قميحةأجرى الحوار : أشرف إبراهيم حجاج - إعلامي – القاهرة
دكتور جابر شكرا على ما قدمته في الحلقات السابقة ، ونحن سعداء بتسجيل الحلقة الرابعة من هذا الحوار غير الصحفي . نستهل أسئلتنا بسؤال من وحي الحلقة التي سجلتها لكم قناة الصحة والجمال بتاريخ 9 / 3 / 2009 بعنوان يارب . والسؤال هو :
س : هناك مواقف صعبة في حياة كل إنسان ، وخصوصا أصحاب الفكر والدعاة . وقد ذكرتَ بعض هذه المواقف في برنامج " يارب " . هل من الممكن أن تذكر للقاريء ــ ولو بإيجاز ــ هذه المواقف ، ومواقف آخرى لم تذكرها في البرنامج التلفازي .
جــ - هي مواقف كثيرة في الواقع . وكان أشد هذه المواقف في حياتي استشهاد الإمام الشهيد حسن البنا ، وكنت أيامها طالبا في بداية المرحلة الثانوية .
ولا أنسى كذلك قيام " أهل البيت " من الإخوة والأخوات بحرق ما ضمته مكتبتي من الكتب الإسلامية وخصوصا كتب الإمام الشهيد حسن البنا، وكتب الشهيد سيد قطب ، وكتب محمد الغزالي ، وذلك خوفا من أن يلقى القبض عليَّ بتهمة " إحراز كتب ونشرات تدعو إلى الإرهاب والتدمير ".
وثمت صعوبة أخرى تتلخص في حرصي الشديد على الالتحاق بكلية دار العلوم التى تخرج فيها الإمام الشهيد حسن البنا . وخوفني من عرضت عليه رغبتي وذلك إشفاقا علي ؛ لأنني سأخوض مخاضا لا يفلح فيه إلاالأزهريون، فالكلية صعبة على أمثالي من طلاب التعليم المدني الذين لم يتعلموا في الأزهر الشريف .
ولكن أخوين أزهريين عزيزين شجعاني على أن أخوض هذا المخاض ، فرفعوا من معنوياتي ، وتقدمت بأوراقي للكلية ، واجتزت بحمد الله امتحان الالتحاق بنوعيه : التحريري والشفوي ، وكان ترتيبي الأول بحمد الله .
ولا أنسى أنني ذهبت ذات يوم إلى قسم الشرطة بالمنزلة لعمل مصلحي . وبعد دقائق رأيت " ضابط المباحث " ــ وكان ظالما جبارا يخافه أهل البلد جميعا ــ رأيته يضرب أحد تجار المنزلة لسبب تافه فوجه إلى وجهه سيلا من اللكمات والصفعات ، وهو يستغيث ، ولا مغيث ، وكنت أنا الشاهد الوحيد على هذه المأساة ، والضابط فعل فعلته الخسيسة وهو على يقين من أنه في أمان ، وليس هناك من يجرؤ ويشهد عليه . وكنت أيامها طالبا في كلية دار العلوم في عهد الرئيس محمد نجيب ، أما السلطة الحقيقية فكانت في يد عبد الناصر وحوارييه . وحضر إلي في القاهرة المعتدى عليه ، وأخبرني أنه رفع دعوى ضد الضابط ، واستشهد بي، وسألني في هيئة رجاء أن أدلي بشهادتي في القضية التى ستنظر بعد يومين ، وسافرت إلى المنزلة وأديت شهادتي ، والناس لا يصدقون آذانهم ، وتعجبوا أن يكون في مصر من يجرؤ أن يشهد على الضابط الجبار ( م . ع ) .
وعوقب الضابط ، ونقل إلى مدينة بورسعيد . والمضحك إنه التقى بالمعتدى عليه بعد ثلاث سنوات ، وأبدى له تقديره لي ، وبلغه أن يحمل التحية إلي .
س - حتى لا نجهدكم هل هناك مواقف صعبة التقيت بها خارج مصر ؟
جــ - نعم كان ذلك في إسلام اباد عاصمة باكستان ، حيث كنت أقوم بالتدريس في الجامعة الإسلامية العالمية . ومن هذه المواقف أنني انطلقت بسيارتي مصعدا في جبل " مارجالا " ، وهو من سلسلة جبال الهملايا ، وصلت إلى منتصف الجبل ثم كان هناك لافتة مكتوب عليها " لا يصعد هذا المكان إلا من يتقن قيادة السيارة إتقانا كاملا " . نظرت إلى هذا المطلع فوجدته شديد الانحدار بشكل مرعب . ولكني تحديت وصممت على الصعود إليه بسيارتي حتى أصل إلى القمة ، وكان الطريق الصخري لا يتسع إلا لسيارة واحدة ، وبدأت أصعد إلى القمة ولكني رأيت السيارة ترجع إلى الخلف . قلت في نفسي إذن هو الموت : وإني أشهد ألا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله . وهبطت بي السيارة قرابة عشرين مترا ثم عرجَتْ ناحية اليسار في مكان لا تزيد مساحته عن مساحة السيارة إلا قليلا ... وتركت السيارة فإذا بمؤخرتها على الحافة ، ونظرت إلى أسفل ... رأيت الوادي واسعا جدا ولكن لم يتضح في عيني فقد اكتشفت أنني أعلى من السحاب . واجتررت في ذهني ما كنت أسمعه من الإخوة الباكستانيين من أن من يسقط في هذا الوادي فعليه رحمة الله ؛ لأن طائرات الهليكوبتر لا تستطيع الهبوط فيه لانعدام الهواء .
- فما مصير من يسقط فيه ؟
- يكون طعاما مستساغا للقردة والذئاب والنمور .
فقلت بلسان الحال ولسان المقال " يارب ... يارب ... يارب ". وتذكرت أبنائي الصغار ، فوجدت وجهي قد غسلته الدموع ، وفجأةأحسست أن هناك يدا تجذبني وتضعني في سيارتي على كرسي القيادة . وبدأت أحرك السيارة شبرا شبرا إلى اليمين ، وأنا أتصبب عرقا إلى أن مكنني الله من أن أعود إلى السفح كما كنت ، وأنا لا أصدق ما حدث .
س: إنه موقف مرعب حقيقة يا دكتور جابر . فهل هناك مواقف آخرى ؟
جــ ــ هناك ما هو أشد بكثير جدا وكان في إسلام اباد أيضا ، وهو ما نسميه بــ ( جريمة البلطة ) . ففي شهر واحد ظهرت جريمة غريبة على هذا المجتمع ، وهي تأخذ صورة واحدة : يزحف القاتل أو القتلة في الليل إلى مسكن الضحايا ، ويقومون بقتلهم بشدخ الرءوس بالبلطة . وتعددت هذه الجريمة بهذه الصورة . والعجيب أنه لم يقم الضحايا أو بعضهم بالاستغاثة ، فالجريمة تتم في صمت كامل . وقيل إن المجرمين يلقون في المسكن نوعا من النباتات المخدرة قبل قيامهم بجريمتهم بقرابة نصف ساعة .
وبدأ المجرمون يقتربون من الأحياء التى يسكنها المصريون ، فقصدنا السفارة للحصول على سلاح للدفاع عن النفس ، فلم نوفق في قصدنا هذا .
ويقال إن الهدف من هذه الجرائم هو إحراج الرئيس ضياء الحق ، واتهامه بالتهاون في الدفاع عن الباكستانيين والأجانب . وقد يكون هذا الاستنتاج صحيحا ، فقد تمكن أعداء ضياء الحق من قتله وهو يستقل الطائرة .... يرحمه الله فقد كان رئيسا مسلما حقا ، وكان عادلا متواضعا زاهدا في متاع الحياة الدنيا .
س ــ حقيقة إنها مواقف مأساوية ، يعجز الإنسان عن مجرد تصورها . ولكن ...
جــ ــ ولكن هناك مواقف قد تدفع إلى الضحك أو الابتسام على الأقل منها الموقف التالي :
كان بجانب بيتنا مجموعة محلات تسمى " أيوب ماركت " أي سوق أيوب. وكان هناك بقال طيب يقابلني دائما ببشاشة ، ويعرف قدرا غير قليل من العربية ، وما ذهبت لأشتري منه شيئا إلا وأصر أن أجلس معه ، ويقدم لي الشاي، ونتحدث في السياسة والأدب . إسم الرجل " بنيامين " ، فقلت في نفسي : لماذا لا أدعوه تدريجيا لاعتناق الإسلام ، وخصوصا أنني شعرت أن الرجل واسع الأفق ، حسن المعاملة لكل الناس . وبدأت أحدثه عن الإسلام ، وعدالة الإسلام ، ودولة الرسول صلي الله عليه وسلم ، وحرص الإسلام على أن يكون التعامل بين المسلمين وغيرهم قائما على العدل والرحمة ، فالقرآن يقول " وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ " التوبة الآية (6) " .
ووجدت في الرجل لينا وتأثرا واضحا ، وذات مساء حدثته من التاريخ الإسلامي عن شواهد من حسن معاملة المسلمين لأهل الذمة ، وخصوصا المسيحيين ، وختمت حديثي للأخ بنيامين بقولي إذا كان عندكم في المسيحية مبدأ " الله محبة " فعندنا أيضا قوله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ " المائدة (8) .
"وبين الإسلام ودينكم المسيحية اتفاق في الأساسيات والقيم الإنسانية ".
أنا قلت هذا فوجدت بنيامين يقف منتفضا وعلى وجهه علامات الغضب ، وقال لي بلهجة جافة : ياسيدي أنا مسلم مثلك . فما الذي جعلك تظن أنني مسيحي ؟
فقلت والخجل يغطي وجهي : معذرة يا أخ بنيامين إن ذلك يرجع إلى اسمك ، فليس عندنا في مصر مسلم يحمل اسم بنيامين .
وعرفت بعد ذلك أن هناك في باكستان أسماء غريبة علينا نحن المصريين . ومنها " قربان الحسين ــ وأعرف أخا باكستانيا اسمه " حسنات " أما زوجته فاسمها " طاهر " .
س ــ هل هناك غرائب رأيتها في باكستان ، أو إسلام اباد على الأقل ؟
جــ ــ من أغرب ما رأيت في مدينة " روالبندي" كثرة مكاتب ــ أو عيادات ــ قراءة الكف . وفيهم رجل مشهور يستطيع أن يقرأ الكف مطبوعة ، بمعنى أن بعض الأجانب من بلاد أخرى كانوا يرسلون إليه صورة من الكف مطبوعة بحبر جاف ويقوم هذا الرجل بقراءة الكف بالمراسلة ، وطبعا يتقاضى أجرا كبيرا .
ومن الغرائب أيضا أن بائع عصير القصب في إسلام أباد ، يحمل معصرته على عربة يد ، ويعصر القصب عودا عودا بالطلب ، وأمامه على عربة اليد طبقان طبق ملئ ملحا ، وطبق مملوء بالشطة أو الفلفل الحامي المطحون . وما على الشارب إلا أن يأخذ ملعقة من هذا وملعقة من ذاك ، أو أكثر من ذلك ، ويذيب الملح والشطة في كوب العصير ويشرب .
والناس في باكستان يحبون الأطعمة الحريفة : فالمطاعم تقدم الدجاج مثلا وقد وضعوا عليها ثقلا من الفلفل الحار .
وكثير من الحلاقيين يتخذون من ظل الشجر مكانا لتقديم خدماتهم ، ومن المناظر العادية أن ترى باكستانيا يرفع قميصه الأعلى لكي يحلق له الحلاق شعر إبطيه .
وأختتم قولي عن باكستان بالملاحظات الآتية :
الأولى : أن باكستان فيها من الأراضي الخصبة ما يتسع لمئات من الملايين ، فالتربة كما يقول المصريون " حامية " أي خصبة فائقة الخصوبة ، ولا تحتاج الأرض إلا للأيدي العاملة .
والثانية : حرص الباكستانيين على تحصيل العلم ، وخصوصا العلوم الدينية ، بصرف النظر عن السن ، ففي الجامعة طلاب كهول لا يقل عمر الواحد منهم خمسين عاما .
والثالثة : أن الشعب الباكستاني شعب قنوع ، لا يميل إلى الإسراف في طعام أو شراب ، فمن الأمور العادية أن ترى رجلا يشتري بيضة ورغيفا ، وإصبعين من الموز . أو قطعة لحم ملبسة بالعظم لا يزيد ثمنها بالعملة المصرية عن خمسة عشرة قرشا .
والرابعة : حرص الباكستانيين على العمل ، فمن الأمور العادية أن ترى عاملا في السبعين من عمره يهذب الصخور بمقاس معين ، لتدخل في البناء .
س ــ ما مكان اللغة العربية في باكستان ؟
جــ ــ كنت في باكستان في الثمانينيات من القرن الماضي في عهد ضياء الحق ، وكان الرجل متحمسا للغة القرآن ، أو بمعنى آخر لتعريب باكستان ، ويقال إنه طلب من معاونيه أن يساعدوه في هذا التخطيط ، ووضعت خطة استحضار خمسين ألف مدرس للغة العربية من مصر وغيرها .
واللغة العربية في الثمانينيات كانت تدرس على نطاق واسع في الجامعات الباكستانية وخصوصا الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام اباد .
ونأمل أن تستكمل باكستان الخطة التى وضعها ضياء الحق رحمه الله .
دكتور جابر حتى لا نجهدك أكثر من ذلك أقدم لك الشكر ، على ما قدمت ، ونأمل في لقاء خامس عن قريب إن شاء الله تعالى .
الدكتور جابر : وأنا أشكرك إذ مكنتني من تقديم ما قدمت ، وأشكر مقدما القراء الذين سيقرءون هذه الكلمات .