حوارغير صحفي مع الدكتور جابر قميحة 2
حوارغير صحفي مع الدكتور جابر قميحة
الجزء الثاني (2)
أ.د/
جابر قميحةأجرى الحوار: أشرف إبراهيم حجاج
إعلامي – القاهرة
دكتور جابر يسعدني ــ وبلا شك ــ يسعد قراءك أن نستكمل ما بدأناه .
د. جابر : وأنا يسعدني ما يسعد إخواننا وقراءنا .
س : دكتور جابر ستكون الأسئلة هذه المرة أكثر خصوصية : لقد ذكرت باعتزاز أن المنزلة هي بلدك وبلد الأسرة . هل من الممكن أن تعطينا صورة عن مسقط الرأس ؟
جـ - المنزلة هي بلدتي التي أعتز بها ، ويقال أن اسمها القديم " تنيس " ، وهي تقع على " بحيرة تنيس " . أما الاسم الحالي فهو " المنزلة " و " بحيرة المنزلة " . أما سر التسمية فهناك اجتهادات متعددة تحتاج إلى توثيق ، مع ملاحظة أن المنزلة تنطق بفتح الميم والزين واللام ، وفيها قبر يقال إنه قبر " القعقاع بن عمرو التميمي " ، وهو بطل من أبطال القادسية .
س: لكني قرأت مرة أن للمنزلة تاريخا وطنيا في مجابهة الفرنسيين . يا ليتنا نسمع من سيادتكم حقيقة ذلك .
ج ــ هذه حقيقة فقد كان شيخ المنزلة " حسن طوبار " حاكما قويا ، ذا شخصية فائقة ، وعزيمة جبارة . فلما علم بزحف القوات الفرنسية إلى هذه المنطقة أرسل عائلته إلى غزة ، ليتفرغ لقتال الفرنسيين ، وتصدى لهم ، وأنزل بهم هزائم كتب عنها نابليون في مذكراته .
وعندما بدأ العدوان الثلاثي سنة 1956 على منطقة القنال ، وخصوصا بورسعيد غادر الأهالي هذه المدن في حالة سيئة واتجهوا إلى المطرية والمنزلة ، وكنا نقابلهم ، ونعمل على راحتهم ، وإنزالهم في المساجد والمساكن ، وكان للإخوان دور كبير في هذا العمل الإنساني .
ليس هذا فقط بل كانت المنزلة والمطرية منفذا لانطلاق الفدائيين وإنزال ضربات قاصمة بالإنجليز ، وكان للإخوان الدور الأكبر في هذه العمليات الفدائية ، وكان لإخوان المطرية دور كبير في هذا العمل الجهادي الرائع .
س : هل من الممكن أن تعطينا صورة عن المنزلة في طفولتكم .
ج ــ البلدة مقسمة إلى حارات بأسماء الأسر غالبا : حارة منيسي ... حارة الباز الطير ... حارة قميحة ... الخ . وحارتنا ... هي حارة قميحة ، أو كما يقول الناس " حارة القمايحة " تتكون من عشرات البيوت التى تضم أفراد الأسرة المباشرة ، والأعمام ، والأقارب الذين ينتسبون إلى العائلة . وأعتقد أن نظام الحارات له جذور في التاريخ العربي ، فقد كان هناك نظام " المضارب " ... مضارب بني فلان للقبيلة الواحدة . والمضارب هي مجموعة من الخيام أو البيوت البدائية يسكنها أسر القبيلة .
وكانت المنزلة تتمتع برخاء مصدره البحيرة والتجارة ، والأسعار كانت زهيدة جدا ، ولم يكن هناك موازين ، بل كل شيء ( بالشروة ) ، ولم تستعمل الموازين إلا نادرا ، فكان ثمن الجدي الكبير خمسين قرش ، وثمن الخروف جنيها واحدا ، أما السمك والخضراوات والفاكهة فبالشروة .
وكان من العار أن يسكن شخص في بيت مستأجر ، أو يشتري خبزه من الفران ، ويقول عنه الناس " إنه رجل عِرة " ، لأنه لا يملك بيتا ، وإذا كان له بيت فليس فيه فرن يقوم بخبز العيش منزليا . لذلك لم يكن يسكن بالإيجار إلا الموظفون المغتربون .
س : ولكن ما أثر المنزلة في نفسك ؟
ج ــ كنت أنا " آخر العنقود " في الأسرة ، أي أصغر الأبناء ، فكان الاهتمام بي زائدا ، ومن صغري التحقت بدعوة الإخوان ، فأفدت منها دينيا ، وخلقيا وسلوكيا وثقافيا . وكما قلت لك : كنت مغرما ... بل مريضا بالقراءة ، وكنت أسكن في الدور الأعلى من بيت الأسرة ، في حجرتين منهما كنت أشاهد بحيرة المنزلة ، فكنت أمتع نفسي بمنظر البحيرة وخصوصا في الليالي القمراء ، وعشت مغرما بشاعرين : الأول هو المتنبي ، والثاني هو علي محمود طه ، على الفارق الكبير بينهما : فالمتنبي في شعره قوة ، وجزالة ، وقدرة فائقة على توليد المعاني ، وإمكانات تصويرية قادرة ، وله في وصف المعارك باع يعجز عنه كثيرون .
أما على محمود طه فهو شاعر رومانسي ، بارع الخيال ، وكلماته ذات جرس موسيقي أخاذ . ومن حبي للشاعرين كنت أقرأ شعرهما بصوت مسموع إذا خلوت إلى نفسي.
وتعلمت أخلاق التكافل والتعاون السائد بين الأسرة والأقارب ، وخصوصا وقت الأزمات ، و لا أنسى أن أخي الأكبر " أحمد " اتهم بالاعتداء بالضرب الجارح على شاب من أسرة آخرى ، وفي يوم نظر القضية لم يذهب الأقارب إلى أعمالهم ، واتجهوا بالعشرات في جمع واحد إلى المحكمة ، يشدون من أزر أبي وأخي . وهو ما يسمى بـ " بالعِـزة " التى كان الناس يسمونها " العزوة " .
س : كان هذا قديما ، أي من ستين سنة على الأقل ، فما وضع المنزلة الآن ؟
ج ــ هو وضع أي مدينة في مصر تضاعف عدد السكان من خمسة آلاف إلى مالا يقل عن مائة وخمسين ألفا . و أصبحت الأسعار قاتلة ، وسكنى المنزل بالإيجار أمرا لا يستدعي لوما أو مؤاخذة .
س :هل للمنزلة شهرة معينة في المجال الاقتصادي أو التجاري ؟
ج ــ المنزلة حاليا مشهورة بصناعة الموبيليا ، وهي تأتي في المرتبة الثانية بعد دمياط . وهناك مثل مشهور يتردد كثيرا وهو ( المنازلة ، أولاد عم الدمايطة ، وأولاد خال الفراسكة ) ، ويقصد بذلك أن أهل المنزلة ، بمثابة أولاد عم أهل دمياط ، وأولاد خال أهل فارسكور . والواقع أن بين المدن الثلاث ملامح شبهية متعددة .
وأحمد الله أنني حينما تركت المنزلة لتلقي التعليم الجامعي لم أشعر بغربة ، لأسباب متعددة أهمها : التربية الإخوانية المتكاملة التى كان لها أثر كبير في فكري ونفسي وسلوكي ، ثم التحاقي بكاية دار العلوم بحب وشغف ؛ لأنها هي الكلية التي تخرج فيها الإمام الشهيد حسن البنا ، فكأنني انتقلت من شعبة إخوانية إلى شعبة أخرى ، والحمد لله وفقني الله في دراستي ، وفي مسيرتي الوظيفية .
س : ما مستقبل الدعوة الإسلامية بمدينة المنزلة ... أعني دعوة الإخوان ؟
ج ــ لعلك تعلم أن لي كتابا صدر أخيرا باسم ( ذكرياتي مع دعوة الإخوان في المنزلة ) كان قد نشرعلى حلقات في مواقع بالإنترنت . وقد سجلت فيه أن دعوة الإخوان حاليا ضمت مئات من الشباب الناضج الواعي ، وكثير منهم فيه قدرة خطابية وشعرية ودعوية ، وقد نعودت أن أتناول معهم الإفطار في الخميس الأخير من رمضان من كل عام ، وأجدهم يقدمونني لأخطبهم وأحاضرهم . وكنت أقول : إن فيكم الكفاية ، ياليتني أجلس وأستمع منكم ؛ فأنا الآن أشعر كأنني " مستبضع التمر إلى هجر "،أو كما يقول المثل العامي " رايح يبيع المية في حارة السقايين " . زادكم الله علما ، وقدرة وطمأنينة ، وأنا إذا فارقت الحياة أفارقها وأنا مطمئن بعد أن رأيت قدرة فائقة في الشباب على حمل الراية الإسلامية ورفعها .
س : لا شك أنه قد مر بك وأنت في المنزلة أحداث خاصة أو عامة كان لها تأثير كبير في نفسك . نريد أن نسمع من دكتور جابر شيئا عن هذه الأحداث .
ج ــ أولها : موت أخي الشقيق الوحيد أحمد سنة 1943 ، لقد ترك حزنا عميقا هيمن على الأسرة وخاصة والدتي ، فلم تخلع السواد إلى أن لقيت ربها بعد ذلك بعشرات السنين ... لقد كانت فجيعة حقيقية .
وثانيها : المحرقة التى أقامها أخواي لأمي : محمد وحامد لكتب مكتبتي التى ضمت كثيرا من التراث الإسلامي والإخواني و خمسة عشر جزءا من " في ظلال القرآن " كان ذلك بعد التحاقي بدار العلوم ، والقبض على آلاف من الإخوان في عهد عبد الناصر . فبدافع الخوف علي قام أخواي محمد وحامد بحرق هذه الكتب خشية أن يكون فيها ما يدينني ، إذا ما دوهم البيت للقبض علي .
يومها بكيت بكاء مرا كالأب الذي فقد كل بنيه . والحمد لله عمرت مكتبتي بعد ذلك بما كان عوضا لهذه الكتب وزيادة .
أما الفجيعة الثالثة ــ وكنت آن ذاك طالبا في المرحلة الثانوية ــ فهي فجيعتي في الإمام الشهيد حسن البنا ، فقد جلست إلى نفسي في سكني في أعلى المنزل وأخذت أبكي بكاء مرا وصل إلى حد النشيج . وفجأة شعرت بأبي أمامي ، ( وكان نادرا ما يصعد إلي ) ، فتصنعت أنني مزكوم ، وقلت : لعن الله الزكام ، إنه يستبد بي . نظر أبي إلي ورأيت عبرتين تجمدتا في عينيه ، وقال يا إبني ، لا زكام ولا غيره ... أنت بتبكي علي الشيخ حسن الله يرحمه فتحول بكائي إلى ما يشبه الصراخ وارتميت على صدره ، فأخذ يربت على ظهري وكتفيي ، وقال لي : يا إبني البلد دي مالهاش بخت في الناس الكويسين ... الله يرحمه رحمة واسعة .
شكرا يا دكتور جابر وأرجو ألا أكون قد أجهدتك ، وإن شاء الله يسعدني أن يكون لنا لقاء ثالث .
وأنا بدوري أشكرك وأتمنى أن يكون هناك عدة لقاءات مستقبلية بمشيئة الله .