حوار مع.... محب الدين الخطيب
تشرفت بلقاء الكاتب والأديب الليبي "علي مصطفى المصراتي"، في طرابلس الغرب 17 يناير 2007.. كان لقاء ودي جميل تخلله حوار في عدة مواضيع فكرية وأدبية رائعة ، إهداني خلالها بعض الحوارات الشخصية الخاصة التي أجراها مع بعض من الشخصيات العربية المميزة والأجنبية، ولعل الوقت حان لإعادة التذكير بهذه الشخصيات الرائعة المحبة لأمتها.....وها أنا أقتبس لكم في هذا المقال والمقالات القادمة تباعاً بعضاً من هذه اللقاءات..أستهلها بلقاء وحوار مع العلامة والمفكر" محب الدين الخطيب" . أحببت استحضار هذا الحوار لأنه يتحدث عن عدد من إشكالات الثقافة والعلم في العالم العربي والإسلامي التي مازالت مستمرة حتى وقتنا الراهن.
الأستاذ محب الدين الخطيب رجل من رجالات النهضة العربية، صاحب رسالة عاش لها وبذل حياته في سبيلها.. آثاره ومؤلفاته وكلماته حية في عالم الكلمات.
جرى اللقاء في منيل الروضة بالقاهرة في قائظة أغسطس صيف 1967.
المصراتي.. لدى سؤاله عن أهم شخصية معاصرة تأثر بها أجاب محب الدين " أنا كالنحلة..لم أترك ثمرة فيها خير إلا سعيت إليها.. أبحث عن الحكمة في كل مكان، الأب الروحي كان الشيخ طاهر الجزائري..رجل له الفضل على اليقظة الإسلامية..أدركته في نضوجه وأنا في دور رضاعي الفكري..رضعت تجاربه" .
أما في حديثه عن مراحل دراسته قال: "كان والدي من أوائل معلمي، إنه " أبو الفتح الخطيب " ترجم له صديقنا الزركلي في كتاب " الأعلام". كان أمينا ً لدار الكتب الظاهرية بدمشق من يوم تأسيسها إلى يوم وفاته عام 1315هــ..ودرست على أقاربي العلوم العربية والشرعية..وعلى يد الأستاذ طاهر الجزائري.
-أنت معجب بطاهر الجزائري.. بماذا تحدثنا عنه أجيالنا المعاصرة لا تكاد تعرف عنه شيئا ً؟
*واعتدل محب الدين في جلسته..وارتفع صوته وزاد عمقا ًوهو يشير بإصبعه..وكأنما عادت إليه حماسة الشباب وقال: اسمع يا ابني ! أنتم و جيلكم لا يعرف شيئا ً عن طاهر الجزائري ! هو أستاذ الأستاذة ! رجل نهضة..خزانة علم.. في نظري ..وكما لمست آثاره.." بن تيمية " علم من أعلام الإصلاح.. وفي نظري يأتي بعده في المرتبة العلمية الشيخ طاهر الجزائري.
-أهو في المقياس الدراسي رجل إصلاح ومدرسة فكرية..أم رجل خزائن كتب ومراجع؟ أين نضعه؟...
*لقد أمضى حياته في الإطلاع على الذخائر وكان يدفع الكتب العربية القـيّمة إلى " أمين الخانجي " وإلى " الحلوجي" يدل هؤلاء على ما يجب نشره من تراث العربية والإسلام...لقد كان طاهر الجزائري رجلا ً عجيبـــا ً! وكانت له حلقة تخرج منها رجال النهضة في ديار العرب.
-أستاذ محب الدين..أنت عرفت كثيرا ً من رجال تلك الحقبة، أيهما أفضل لديك: طاهر الجزائري! أم رشيد رضا ؟
* أقول لك الحق.. وكلاهما في دار الحق..كان رشيد رضا معجبا ً بنفسه. يحب أن يرجع الفضل له لو اكتشف رأيا ً.. أو قام بعمل شيء..ولكن أستاذنا الشيخ طاهر الجزائري..كان يرى الرأي الصواب..ويظل كاتمه عشرين سنة..ثم يدلك عليه و يعلنه.. كان يحب أن يكون وراء ستار.. أما رشيد رضا..كان يحب الإعلان والظهور.
- وماذا عن دراستك في مراحل الشباب الأولى؟
* (وسرح بنظره بعيدا ً عن أجيال يتصيد منها صور الذكريات.. وعاد من سرحته الأخير ليقول ):
ما أبعد الأيام.. ما أقرب الأيام.. الابتدائي من دمشق والثانوي إلى ما قبل الأخير أيضا ً...ثم ضبطت عندي كتب في عهد السلطان..منها " أم القرى" وكتاب " طبائع الاستبداد " وكتب أخرى للكاتب التركي " نامق " كان كاتبا ً متحرراً.. ضبطوا عندي هذه الكتب فاضطهدوني..أخروني عن دراستي! ثم انتقلت إلى مدرسة ببيروت الاعدادية الرسمية...عام 1905.. ثم انتقلت إلى اسطنبول والتحقت بكلية الحقوق والآداب في آن واحد.
- ومن تذكر من زملائك في اسطامبول؟
* كنت ساكنا ً في اسطامبول مع " عوني عبدالهادي " والدكتور " أحمد قدري " وسيف الدين الخطيب ابن عمي شنقه جمال باشا.. وجلال البخاري شيخ علماء دمشق.
- أستاذ محب بعد مرحلة اسطامبول..متى بدأت مرحلة القاهرة ؟
* كان ذلك في صيف 1327هـ سبمتبر 1909م توجهت للقاهرة..والتحقت بجريدة المؤيد التي كان يصدرها " علي يوسف"..وفتحت المكتبة السلفية في خان الخليلي..وشاركت " عبدالفتاح قتلان " وكان يتولى الحركة بها..ثم شاركت مع " رشيد رضا " في عنوان مكتبة المنار، لأصحابها- رضا وخطيب وعبدالفتاح قتلان..وهو أخو زوجتي من أصل دمشقي !
- وماذا تقصد بالسلفية ؟
* إحياء حركة السلف..فأنا سلفي..لقد ظلت المكتبة أكثر من نصف قرن محافظة على منهجها من عام تأسيسها 1909م حتى هذه السنة 1967م تسير في طريق طباعة الكتب على مذهب السلف..لقد طبعت في المطبعة السلفية أكثر من مائتي كتاب ولا أطبع شيئا ً يخالف دين الإسلام..أو يمسه بالإلحاد والشك..بل ولا أبيع هذه الكتب في المكتبة السلفية.
- أستاذ محب.. هل تذكر لنا كتابا ً رفضته ؟
* أول نسخة من كتاب "علي عبدالرازق" الإسلام وأصول الحكم..أهداني إياه..رفضت أن أعرض كتابه في المكتبة.
- ومتى أصدرتم مجلة الزهراء ؟ * عقب وصولي إلى مصر وكان يكتب فيها أحمد تيمور وزكي باشا ومن العلماء أمثال الخضر حسين...وغيرهم.
- ومتى أصدرتم مجلة الفتح ؟ * في تلك الأيام وظلت تصدر حتى عام 1948م.
- ولكم ضلع في تأسيس جمعية الشبان المسلمين؟
* كان لي دور هام في تأسيس جمعية الشبان المسلمين من مؤسيسها الأوائل..محب الدين الخطيب – عبدالسلام هارون – محمود شاكر – عبدالمنعم خلاف – كلهم كانوا من أهل العلم والأدب.
- أستاذ محب ..نسيت رجلا ً آخر..فما هو دور عبدالحميد سعيد ؟
* أردنا مع أهل الأدب والعلم أن يكون بجانب هذه الصفات قوة حركة أو بتعبير أوان ذاك نريد " مناطح" " مناكف ".. مصارع.. واشترطنا ألا يكون بعمامة وقال صديقي الخضر حسين:
وجدت صاحبكم..عرفته في اسطامبول..عبدالحميد سعيد ..واتصلنا به تلفونيا ًواتفقنا معه.. وكونا جمعية الشبان المسلمين.
-وما هي الأجواء والدوافع لهذا في بلد مسلم ؟
* يا أستاذ أنت موش عارف.. لقد كونا جمعية الشبــان المسلمين عندما كان الإلحــاد والتبشير منتشرا ً وكانت جريدة " السياسة " وأنصارها من الكتاب كانوا يؤيدون اتجاها معينا ً.. ويقفون مع علي عبدالرازق وكتابه " الإسلام وأصول الحكم ".. كان تيار الإلحاد قويا ً.. وجهات من الغرب تغذي أفكارا ً إلحادية.. فقمت أنا مع الخضر حسين وأحمد تيمور وأحمد زكي لصد تيار الإلحاد كان لدور جمعية الشبان المسلمين أثر هام.
- كان ..وكان..وما هو دورها الآن ؟.. * الآن يا أستاذ المصراتي لا تسألني عنها..هي مجرد نادي للألعاب الرياضية.
- أستاذ محب الدين هناك دعاة عروبة..وهناك اتجاه إسلامي..وهناك تيارات عقائدية علمانية..ومذاهب فكرية..وألوان من خضم ..فما رأيكم في هذا الخضم بحكم تجاربك ؟! والعصر ..عصر علم وعقلانية ؟
* أنا مؤمن من صغري بأن العروبة والإسلام توأمان..صنوان..وأن الإسلام لا يقوم إلا بالعرب.. وإن العرب لا فخر ولا شرف لهم ولا وجود لهم إلا بالإسلام..ولهذا أصدرت مجلة " الزهراء" ومجلة " الفتح " لأجل تدعيم هذا الاتجاه.. دعوة العروبة من غير إسلام كلام فارغ.. ودوران في الهواء.. عروبة من غير إسلام لا تصلح بشيء..وإسلام بلا عروبة كالجندي بلا سلاح.
- أستاذ ما رأيك في الحركة الفكرية الحديثة ؟ وما رأيك في المستوى الثقافي في الوطن العربي واتجاهه ؟
* الحركة الفكرية الحديثة في بلادنا هي بنت الجامعات والجامعات قامت في تخطيطها الأول على أساس ثقافة غربية.. ولم يأت الأوان لنحرر مناهجها من الاحتلال الثقافي السابق..
- وكيف طريقة ذلك ؟
* لا يكون إلا على أيدي رجال من غير الذين تربوا في الجامعات الحاضرة..وهذا غير ممكن الآن..لأن مناهج الجامعات لا تقبل أن يتولاها من ليسوا من أهلها.
- أستاذ محب ..إذن ما هو الحل ؟ ما هو المنهج السليم في معركة الاتجاه الفكري والتكوين الثقافي ؟
* أن يأت رجال من المقتنعـين بالثقافة الإسلامية العربية فيفضوا على مناهج الجامعات الشروع بتعديل المناهج.. وينقذوها من صبغتها الغربية.
- أستاذ ما رأيك في تطور أساليب الكتابة فأنت تقرأ الآن أساليب في الأدب والصحافة غير أساليب الفترة التي كانت تصدر فيها " الزهراء " و " الفتح " ؟
*باختصار أقول لك..المؤثرات مادامت موجودة تترك أثرها..لا يهمني الأسلوب والإخراج..لكن حدثني عن المحتوى والاتجاه.
- مرة أخرى ..ما رأيك في مناهج التعليم..بين الأزهر والجامعة ..وازدواجية التعليم في المجتمع ؟
* نحن واقعون بين التعليم الأزهري الذي يقدم موظفين للدولة في القضاء الشرعي، والإمامة والخطابة والوعظ وبين التعليم الجامعي الذي شكونا منه – من أنه قائم على غير أساس الثقافة الإسلامية العربية.. ويوم تتحرر الجامعات ويتحرر التعليم كله من التأثر بالمناهج القديمة التي أملاها المستعمر و بتغيير نظرة المقبلين إلى العلم فتكون للثقافة الإسلامية العربية عندهم المكانة اللائقة بها حينئدٍ يكثر عدد الذين يعملون على بعث مقومات الأمة و تراثها الحضاري.
- أستاذ.. باعتبارك رجلا ً عاش أحداث هذه المراحل ومدركا ً خطورة المناهج التي وضعت للشرق..من تراه سبب الخلط في هذه المناهج ؟
* دنلوب..المستر " دنلوب " هو الذي خطط أساس التعليم في مصر من الابتدائي إلى ما فوقه..ويوم يبعث الله من يؤمن بالثقافة العربية الإسلامية كإيمان " دنلوب " بخطته.. يمكن أن يكون هناك مناهج سليمة.
- لكن يا أستاذ هناك مناهج قيمة.. وبرزت دراسات ذات أصالة وعمق.. ورسائل جامعية..وشباب له دور في الحركة الفكرية.. وهناك مؤلفات في المكتبة العربية ؟
* هذا كله من الأشياء الفرعية.. لكن الأساس المنهجي يجب أن يتغير.. لقد فـُصّل هذا المنهج في لندن و باريس وغيرهما.
- لكن أستاذ محب ألا ترى معي أن العلم عالمي..كل أمة لها سهم فيه؟
* أستاذ علي..صحيح كما تقول العلم عالمي وليس هو شرقي أو غربي..ولكن أنا أتحدث عن الثقافة ! فكل أمة لها ثقافتها – وثقافتنا مع الأسف – لا تزال غريبة عنا.. تطبخ مناهجها بأسلوب غريب عنا.
- وما هي الكلمة التي تود أن توجهها لأدباء العرب حسب خبرتك ؟
* لا يوجد عندي أحكام مطلقة.. الإنسان يجب أن يتعلم لتكون له رسالة في الحياة.. وأن يحسن اختيار هذه الرسالة ..الإنسان الذي لا رسالة له تافه، على قدر قيمة رسالته قيمته هو!..هنا انتهى الحوار.
وسوف نقول أن الحقائق تولد من جديد لتكوّن نبراسا ً ينير الطريق للسائرين....وأشكركم على رحابة صدركم.
ملاحظة : نذّكر بإن اللقاء تم في صيف عام 1967.. وكل من المصراتي والخطيب في ذمة الله.
وسوم: العدد 657