التركمان ودورهم في الثورة السورية
جمال قارصلي
إن التطورات الأخيرة على جبهة الساحل السوري لفتت أنظار العالم إلى الدور الفعّال الذي يتبوأه التركمان في الثورة السورية. جبهة الساحل أخرجت التركمان, والذين هم أحد أهم مكونات المجتمع السوري, من عالم التجاهل المقصود والنسيان إلى مركز الأحداث, وسلطت الأضواء على دورهم الأساسي ومكانتهم في المجتمع السوري بشكل عام وفي الثورة السورية بشكل خاص, مما جعل بعض الفئات الموالية "للنظام" تطالب بإبادتهم أو تهجيرهم من مناطقهم التي هم متجذرين فيها منذ مئات السنين. وبسبب دور التركمان الفعّال في الثورة السورية بدأت أبواق "النظام" تتهمهم بالخيانة والعمالة للدولة التركية, بالرغم من أن التركمان هم من أكثر المكونات للمجتمع السوري تمسكا بوحدة التراب السوري وهم الذين أثبتوا من خلال العقود الماضية بأنهم أكثر هذه الفئات إندماجا ووطنية وأنهم لا يختلفون عن باقي فئات المجتمع السوري التي إنتفضت من أجل حريتها وكرامتها وحقوقها الثقافية المشروعة. النظام يصب جام غضبه الآن على التركمان ويبالغ في حقده عليهم بسبب أصولهم التركية ويريد أن ينتقم من الحكومة التركية عن طريقهم, فلذلك يتعرضون الآن إلى أبشع أنواع عمليات القتل والتهجير والتدمير والإبادة الجماعية والتطهير العرقي من قبل شبيحة النظام وميليشياته, بالرغم من أن أحد أهم إدعاءات هذا "النظام" إلى جانب "المقاومة والممانعة" بأنه يحمي الأقليات.
عبر التاريخ كان للتركمان بطولات كثيرة وقادات عظام مثل الظاهر بيبرس ونور الدين الزنكي وقطز وكثيرين غيرهم من أبطال في التاريخ الإسلامي, وكذلك بعد إنطلاق الثورة السورية قدم التركمان قوافل كثيرة من الشهداء وتعرضوا إلى مجازر كثيرة من قبل شبيحة "النظام" ومنها على سبيل المثال مجزرة الزاره ومجزرة تسنين ومجزرة بابا عمر ومجازر أخرى كثيرة.
إن التركمان يشكلون المادة اللاصقة لنسيج المجتمع السوري لأنهم متواجدون في كل المناطق السورية, إبتداءا من الجولان المحتل مرورا بدرعا ودمشق وحمص وحماة واللاذقية وحلب والرقة وباقي المناطق السورية. وإذا أضفنا إليهم كل الذين ينحدرون من أصول تركية فهم يشكلون أكثر من ربع سكان سورية الحاليين وإضافة إلى ذلك فإنه يوجد هنالك عوائل سورية كثيرة منحدرة من أصول تركية وهي مستعربة ولكنها إذا قامت بحك جلدها بشكل جيد فإنها ستجد الجلد التركي موجود بأسفله. لاشك بأنه يوجد في المقابل عوائل وعشائر أخرى تعرضت إلى عمليات "التتريك" خلال الحقبة العثمانية كما تعرضت مجموعات أخرى إلى عمليات "التعريب" خلال القرون الماضية, وفي بعض الأحيان تحصل عمليات إندماج طوعية وبدافع الرغبة في التطبُع مع أغلبية المجتمع.
في العقود القليلة الماضية نسيت كثير من العوائل التركية لغتها الأصلية وأصبحت اللغة العربية هي لغتها اليومية ومنهم من أراد أن ينسى اللغة التركية بشكل مقصود وأصبح حتى في البيت يتكلم مع أفراد أسرته باللغة العربية لكي تختفي لكنته التركية والتي أصبحت تشكل له عائقا في حياته اليومية وتؤثر على مكانته الإجتماعية وفي بعض الأحيان كانت تعرضه للإضطهاد والتفرقة وخاصة بعد وصول حزب البعث إلى السلطة في سورية, إضافة إلى ذلك كان العامل الدراسي يلعب دورا هاما في إتقان اللغة العربية بشكل جيد, حيث أن نظام التعليم في سورية ينص على أن الطالب يجب أن يحصل على 50% من علامات مادة اللغة العربية في الإمتحانات وإن كانت العلامة أقل من ذلك فلا يمكن للطالب أن ينتقل إلى الصف الذي يليله, أي يعني بأن مادة اللغة العربية وكما تسمى بين الطلاب هي مادة "مرسبة".
التركمان هم أكثر فئات المجتمع السوري إندماجا وإلتصاقا وتشبثا بأرض الوطن الأم سورية, فلهذا وخاصة قبل إنطلاق الثورة السورية, لم يقوموا بتأسيس أحزابا تركمانية أو أندية أو مؤسسات خاصة بهم في داخل سورية أو خارجها أسوة بالفئات السورية الأخرى ولم يفكروا بيوم من الأيام بالهجرة إلى تركية لأنهم يعتبرون وطنهم الأم هي سورية ويرون أنفسهم جزءا منها وهم يفتخرون بهويتهم السورية وبسبب تواجدهم في كل المناطق السورية فهم يشكلون جسرا للصداقة والمحبة والتآخي في داخل سورية وخارجها وخاصة بين العراق وسورية وتركية ولبنان.
إن الذي يفكر بالقضاء على التركمان أو تهجيرهم من سورية فهو يريد من وراء ذلك أن يقتل سورية الوطن ويمزق نسيجه الإجتماعي ويقضي على مكوناته الأساسية فئة تلو الأخرى. ولكن الشعب السوري وبتمسكه بوحدته إستطاع أن يُفشّل مخططات "النظام" وزبانيته في التفريق بين مكوناته وجعل "النظام" يشيط غضبا وشراسة وجنونا وخاصة ضد التركمان في سورية, لأن ما يخيف "النظام" هو ما يردده الثوار والمتظاهرون وفي كل مناسبة: واحد ... واحد ... واحد, الشعب السوري واحد؟
إن التركمان في سورية يشكلون أحد أهم اللبنات الأساسية في المجتمع السوري مثل أخوة لهم في الوطن من عرب وآشوريين وأكراد وشركس وسريان وفئات أخرى كثيرة. ونحن كسوريين نفتخر بأن مجتمعنا أعطى عبر التاريخ أفضل مثال للتعايش السلمي بالرغم من تعدد مكوناته وإنحدرارها من أعراق وديانات ولغات وحضارات مختلفة وأن غناء مجتمعنا يأتي من كنوزه الحضارية والتاريخية والدينية ومن ثرواته البشرية وأن جماليتة تكمن في تونعه, مثل باقة زهر جميلة لها ألوان متعددة وأنواع كثيرة ولكل زهرة منها لها لونها ورائحتها الخاصة وحصيلة هذه الروائح الطيبة ينتج لدينا أزكى عطر في الدنيا والذي إسمه "سورية".