قدوة القيادة في الإسلام 16
قدوة القيادة في الإسلام
الحلقة السادسة عشرة:
مقدمات الهجرة إلى المدينة المنورة 4
د. فوّاز القاسم / سوريا
ما إن عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة من الطائف بعد رحلته تلك ، حتى بدأ كعادته يعرض نفسه على قبائل العرب القادمة إلى موسم الحج ويدعوهم إلى الله ، ويخبرهم أنه نبي مرسل ، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين لهم ما بعثه الله به .
وفي هذا العام بالذات (العاشر للبعثة) ، كان نشاطه متميزاً، حيث ألحَّ في الدعوة ، وكانت دعوته فردية وجماعية .
قال ابن اسحق : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك من أمره ، كلما اجتمع له الناس بالموسم ، أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الإسلام، ويعرض عليهم نفسه ، وما جاء به من الله من الهدى والرحمة ، وهو لا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم وشرف ، إلا تصدى له ، فدعاه إلى الله ، وعرض عليه ما عنده.
هشام1 ( 425 )
فعرض نفسه على قبائل كندة ، وبني كلب ، وبني حنيفة ، وبني عامر بن صعصعة ، وغيرها …
كما عرض نفسه على سويد بن صامت ، أخو بني عمرو بن عوف، وكان يسميه قومه ( الكامل ) لجلده وشعره وشرفه ونسبه .
وعلى أبي الحيسر (أنس بن رافع) ، وقد قدم مكة في فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ ، فأسلم منهم إياس .
قال ابن اسحق : فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه ، وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم ، وإنجاز موعده له .
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار وهو العام العاشر من البعثة ، فعرض نفسه على قبائل العرب ، كما كان يصنع في كل موسم ، فبينما هو عند العقبة لقي رهطاً من الخزرج وكانوا ستة نفر أراد الله بهم خيراً .
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ممن أنتم .؟
قالوا : نفر من الخزرج ، قال : أمن موالي يهود .؟ قالوا نعم .
قال : أفلا تجلسون أكلّمكم .؟
قالوا : بلى . فجلسوا معه ، فدعاهم إلى الله عز وجل ، وعرض عليهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن .
قال : وكان مما صنع الله بهم في الإسلام ، أن يهود كانوا معهم في بلادهم ، وكانوا أهل كتاب وعلم .
وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان ، وكانوا قد غزوهم ببلادهم فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم : إن نبياً مبعوثاً الآن ، قد أظل زمانه ، نتبعه ، فنقتلكم معه قتل عاد و إرَم .
فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ، ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض : يا قوم ، اعلموا والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود ، فلا تسبقنّكم إليه . فأجابوه فيما دعاهم إليه ، بأن صدقوا وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام ، وقالوا : إنا تركنا قومنا ، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم ، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم ، فندعوهم إلى أمرك ، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فان يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك .
هشام1 ( 429 ).
ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا . فلما قدموا المدينة إلى قومهم ، ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم ، فلم تبق دار من دور الأنصار ، إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حتى إذا كان العام المقبل ، وهو العام الحادي عشر للبعثة الشريفة ، وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً ، فلقوه بالعقبة ، وهي العقبة الأولى : فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء ، وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب .
فلما انصرف عنه القوم ، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير رضي الله عنه . وأمره أن يقرئهم القرآن ، ويعلمهم الإسلام ، ويفقههم في الدين ، فكان يسمى المقريء بالمدينة . هشام1 (434 ).
فظل مصعب رضي الله عنه يدعو إلى الله ، ويصلي بهم في المدينة عاماً كاملاً ، فأسلم على يديه خلق كثير من الأنصار ، حتى لم يبق بيت في المدينة إلا فشا فيه الإسلام ..
قال ابن اسحق : ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة ، وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك ، حتى قدموا مكة ، فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، العقبة من أوسط أيام التشريق ، حين أراد الله بهم ما أراد من كرامته ، والنصر لنبيه ، وإعزاز الإسلام وأهله ، وإذلال الشرك وأهله .
قال ابن اسحق محدثاً عمن حدثه عن كعب بن مالك قال :
خرجنا في حجاج قومنا من المشركين ، وقد صلينا وفقهنا ، ومعنا البراء بن معرور ، سيدنا وكبيرنا .
قال : وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة من أوسط أيام التشريق .
قال : فلما فرغنا من الحج ، وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها ، ومعنا عبد الله بن عمرو بن الجموح (أبو جابر ) سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا ، أخذناه معنا ، ثم دعوناه إلى الإسلام ، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إيانا العقبة . قال : فأسلم ، وشهد معنا العقبة ، وكان نقيباً .
قال : فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا ، حتى إذا مضى ثلث الليل، خرجنا من رحالنا ، لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نتسلل تسلل القطا مستخفين .
حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ، ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً ، ومعنا امرأتان من نسائنا : نُسيبة بنت كعب ( أم عمارة) وأسماء بنت عمرو بن عدي ( أم منيع)
قال : فاجتمعنا في الشعب ، ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب ، وهو يومئذ على دين قومه ، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له .
فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب .
فقال : يا معشر الخزرج – قال : وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار : الخزرج ، خزرجها وأوسها .
إن محمداً منا حيث قد علمتم ، وقد منعناه من قومنا ، ممن هو على مثل رأينا فيه ، فهو في عزّ من قومه ومنعة في بلده ، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم ، واللحوق بكم . فان كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك .
وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم ، فمن الآن فدعوه ، فإنه في عزّ ومنعة من قومه وبلده .
قال : فقلنا له : قد سمعنا ما قلت ، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت .
قال : فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتلا القرآن ، ودعا إلى الله ، ورغّب في الإسلام ، ثم قال : أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم.
قال : فأخذ البراء بن معرور بيده ، ثم قال : نعم والذي بعثك بالحق نبياً ، لنمنعك مما نمنع منه أُزُرَنا (أي نساءنا ) ، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب ، وأهل الحلقة ، ورثناها كابراً عن كابر .
قال : فاعترض القول ، والبراء يتكلم ، أبو الهيثم بن التيهان ، فقال يا رسول الله ، إن بيننا وبين الرجال حبالاً ، وإنا قاطعوها – يعني اليهود- فعل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ، ثم أظهرك الله ، أن ترجع إلى قومك وتدعنا .!؟
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال :
(( بل الدَّمُ الدَّمَ ، والهدمُ الهدمَ، أنا منكم وأنتم مني ، أحاربُ من حاربتم ، وأسالم من سالمتم )).
قال كعب : ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيباً ، ليكونوا على قومهم بما فيهم .
فأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً ، تسعة من الخزرج ، وثلاثة من الأوس . ثم ألتفت إلى النقباء فقال لهم : أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ، ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم ، وأنا كفيل على قومي ، قالوا : نعم . هشام1( 446 )
قال ابن اسحق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة : إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري ، أخو بني سالم بن عوف : يا معشر الخزرج ، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل.!؟ قالوا : نعم .
قال : إنكم تبايعون على حرب الأحمر والأسود من الناس .
فان كنتم ترون أنكم إذا أنهكت أموالكم مصيبة ، وأشرافكم قتلاً أسلمتموه ، فمن الآن ، فهو والله إن فعلتم ، خزي الدنيا والآخرة .
وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ، من نهكة الأموال ، وقتل الأشراف ، فخذوه ، فهو والله خير الدنيا والآخرة .
قالوا : فإنا نأخذه على مصيبة الأموال ، وقتل الأشراف ..
فما لنا يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك ؟
قال : الجنة .. قالوا : ابسط يدك ، فبسط يده ، فبايعوه …
قال عاصم بن عمر راوي القصة : والله ما قال ذلك العباس إلا ليشد العقد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أعناقهم .
وأول من ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبايعاً ، أسعد بن زرارة . وفي رواية أبو الهيثم بن التيهان .
وقيل بل البراء بن معرور ، ثم بايع بعدُ القوم … هشام1 ( 447)
قال : ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ارفضُّوا إلى رحالكم .
قال : فقال له العباس بن عبادة بن نضلة : والله الذي بعثك بالحق : إن شئت لنميلنَّ على أهل منى غداً بأسيافنا ؟
قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم نؤمر بذلك ، ولكن ارجعوا إلى رحالكم .
قال فرجعنا إلى مضاجعنا ، فنمنا عليها حتى أصبحنا .
قال ابن اسحق : محدثاً عن شروط هذه البيعة التي تسمى بيعة العقبة الثانية، عن عبادة بن الصامت ، وكان أحد النقباء ، قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الحرب ، وكان عبادة من الاثني عشر الذين بايعـوه في العقبـة الأولى بيعـة النساء ، أي الـتي لا يوجـد فيها قتال . هشام1( 454 )
قال ابن اسحق : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بيعة العقبة (الثانية) لم يؤذن له في الحرب ، ولم تحلل له الدماء ، إنما يؤمر بالدعاء إلى الله ، والصبر على الأذى ، والصفح عن الجاهل .
وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من المسلمين ، حتى فتنوهم عن دينهم ، ونفوهم من بلادهم ، فهم من بين مفتون في دينه ، ومن بين معذب في أيديهم ، وبين هارب في البلاد فراراً منهم .
منهم من بأرض الحبشة ، ومنهم من بالمدينة ، وفي كل وجه .
فلما عتت قريش على الله عز وجل ، وردوا عليه ما أرادهم به من الكرامة ، وكذَّبوا نبيه صلى الله عليه وسلم ، وعذَّبوا ونفوا من عبده ووحّده ، وصدّق نبيه ، واعتصم بدينه .
أذن الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في القتال ، والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم ، فكانت أول آية نزلت في إذنه له في الحرب ، وإحلاله له الدماء والقتال لمن بغى عليهم ، قول الله تبارك وتعالى: (( أُذن للذين يُقاتَلون بأنهم ظُلموا ، وإنَّ الله على نصرهم لقدير ، الذين اُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ، ولولا دفع الله الناسَ بعضهم ببعض ، لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً . ولينصرن الله من ينصُرُه ، إن الله لقوي عزيز . الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة ، وآتوا الزكـاة ، وأمـروا بالمعروف ، ونهوا عـن المنكر ، ولله عاقبة الامور )). الحج (39)
قال ابن اسحق : فلما أذن تعالى له صلى الله عليه وسلم في الحرب ، وبايعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة له ولمن اتبعه ، وآوى إليهم من المسلمين .
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها ، واللحوق بإخوانهم من الأنصار ، وقال :
(( إن الله عز وجل ، قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون بها )).
فخرجوا أرسالاً ، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الهجرة . هشام1 ( 468 )
الدروس والعبر ، من مقدمات الهجرة
أولاً_ استمرار البحث عن مخرج مشرِّف :
نؤكد هنا الحقيقة التي باتت أوضح ما تكون ، وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان يأمر أصحابه بالصبر وكف الأيدي ، ويمنع عليهم القتال والمواجهة مع الجاهلية ، بالرغم من كل الضغوط والاستفزازات النفسية والمادية التي كانوا يتعرضون لها .
لم يأمرهم بذلك ليغط هو في نوم عميق ، أو ينعزل في برجه العاجي، أو يغادرهم إلى دول أخرى أكثر أماناً ، ليعيش بعيداً عن واقعهم ، ومعاناتهم .!
بل كان يبحث في الليل والنهار عن مخرج مشرِّف . يستطيع من خلاله امتلاك ناصية القوة التي تمكنه من تحقيق أهدافه ، إذا عجزت عن ذلك الوسائل الأخرى . ولكن من غير أن يستعجل الخطة ، ويحرق المراحل ، ويقفز فوق الواقع .
إنه يبحث عن مخرج … نعم…ولكن ليس أي مخرج .!
إنه المخرج المشرِّف ، ذو الخطة المحكمة ، والنتائج المضمونة .
ولقد كانت بيعة الأنصار مخرجاً مشرِّفاً فعلاً …
ولكن تعالوا معي نقف على أهم إجراءات النبي صلى الله عليه وسلم التي اتخذها لإحكام خطته ، وضمان نتائجها ..
*مواصفات الأنصار تحقق الشروط المثالية :
إن اتخاذ قرار الحرب واحد من أعقد القرارات وأخطرها …
ولذلك فان أعظم القادة في التاريخ ، هم الذين يعرفون كيف ، ومتى، يتخذون هذا القرار …
ولقد قال العسكريون : قائدٌ قوي يحسن اتخاذ القرار ، على رأس جيش ضعيف ، خير بألف مرة ، من قائد ضعيف ، على رأس جيش قوي .
لأن القائد القوي ، يستطيع أن يوجد الأمة من العدم ...
بينما القائد الضعيف ، يُميتها ، وإن كانت في أوج قوتها …
ولقد كانت للرسول القائد صلى الله عليه وسلم ، شروطه الصارمة لاتخاذ قرار الحرب ، قلّما وجد من يستطع أن يوف بها من الذين التقى بهم ، وفاوضهم ، وعرض نفسه ودعوته عليهم …
وأستطيع أن أجملها في ثلاثة محاور :
الأول : الإسلام . والثاني : النصرة . والثالث : القرب والانسجام..
خذ النجاشي مثلاً : أسلمَ ، وحسن إسلامه ، وتعاون مع المهاجرين إلى بلاده ، وأكرمهم ، وأحسن إليهم ، فجزاه الله خيراً .
ولكن هل يمكن الاعتماد عليه لاتخاذ قرار الحرب .!؟
الجواب : طبعاً لا..
أولاً : لبعد بلاده عن أرض العرب ، وعدم وجود انسجام روحي واجتماعي وثقافي بين الشعبين العربي والحبشي ..
وثانياً : لأن النجاشي غير مستعد لاعلان إسلامه أصلاً، بسبب ظروفه الخاصة ، والتي قد يعذره الرسول صلى الله عليه وسلم فيها ،
لكن لا يعتمد عليه لاتخاذ قرار خطير كهذا ..
وهناك من حقق كامل الشروط : من إسلام ، وقرب ، وانسجام ، ونصرة.. لكن نصرتهم كانت ناقصة ، وهم بنو شيبان ، فاقتصرت على ما يلي العرب ، واعتذرت عما يلي العجم مـن أرض فـارس، وتذرعت بأن هذه الدعوة مما يكرهها الملوك .!!
فشكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقهم ، و حسن ردهم، ولكن لم يعتمد عليهم في اتخاذ قرار الحرب الخطير ، وقال قولته الرائعة : ((ما أسأتم الرد ، إذ أفصحتم بالصدق ، ولكنَّ دينَ الله لا ينصُرُه إلا من حاطه من جميع جوانبه)) . غضبان ص 143
وحتى بعد ما جاء الأنصار ، رضوان الله عليهم ، وحققوا له الشروط المثالية من : عروبة ، وإسلام ، وقرب ، وانسجام ، ونصرة ..إلخ
فانه لم يتسرع باتخاذ قراره الخطير هذا ، إلا بعد أن هيأ له كامل أسباب نجاحه..
ثلاث سنوات كاملات .. وهي تعادل ثلاثة قرون ، بالنسبة للظروف التي كان يمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، من ضيق ، وفتنة ، وأذى ، وابتلاء .. وهو ينضج القرار ، ويحكم الخطة.
لقاء أول مع وفد الخزرج ، ثم دعوة هادئة في أرجاء يثرب على مدار سنة كاملة ، حتى لم يبق بيت فيها إلا دخله الإسلام …
ثم لقاء ثاني مع وفد الأنصار الذين جمعوا بين الأوس والخزرج ، ثم بيعة أولى ، لكن بدون التطرق إلى قرار الحرب الخطير ، لكي لايجفل الناس ، ولكي يمر الوقت الكافي ليتأكد هو بنفسه ، من أهلية القوم لتنفيذه …
وسنة أخرى من الدعوة الهادئة أيضاً والمتأنية ، حتى أسلم سادة الأنصار وقادتهم ، واقتنعوا هم أنفسهم بالقرار ، وطالبوا به …
ثم كانت بيعة العقبة الثانية ، وهاهو الرسول صلى الله عليه وسلم ، يقف وجهاً لوجه أمام سادة الأنصار وأشرافهم ، وقادة الحرب ، وأهل الحلقة فيهم…
يتكلم عمّه العباس فيستوثق من القرار .
يا معشر الخزرج : إن محمداً منا حيث قد علمتم ، وقد منعناه من قومنا، ممن هو على مثل رأينا فيه ، فهو في عز من قومه ومنعة في بلده ، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم ، واللحوق بكم ، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ، ومانعوه ممن خالفه ، فأنتم وما تحملتم من ذلك .
وإن كنتم ترون أنكم مسلموه ، وخاذلوه بعد الخروج به إليكم ، فمن الآن فدعوه ، فانه في عز ومنعة من قومه وبلده . هشام1 (442 )
ولقد كان يكفي النبي صلى الله عليه وسلم ، هذا النص الباهر من استيثاق عمه وتأكيده ، ولكنه استمر هو نفسه بالتأكيد أيضاً فقال :
(( أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم )).
فأخذ البراء بن معرور بيده ، ثم قال : نعم ، والذي بعثك بالحق نبياً ، لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا ، فبايعنا يا رسول الله ، فنحن والله أبناء الحروب ، وأهل الحلقة ، ورثناها ، كابراً عن كابر.
وكان يمكن لهذا النص الباهر أن يختم الجلسة ويؤكد البيعة ، إلا أن إرادة الله شاءت لهذا القرار التاريخي الخطير ، المزيد من الإحكام والتأكيد ..
قال : فاعترض القول ، والبراء يتكلم ، أبو الهيثم بن التيهان فقال :
يا رسول الله ، إن بيننا وبين الرجال حبالاً ، وإنا قاطعوها – يعني اليهود- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ، ثم أظهرك الله ، أن ترجع إلى قومك وتدعنا .!؟
قال : فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال:
(( بل الدَّمُ الدَّمَ ، والهدمُ الهدمَ ، أنا منكم وأنتم مني ، أحارب من حاربتم ، وأسالم من سالمتم )).
وكان يمكن أيضاً لهذا النص الباهر ، أن يختم الجلسة ، ويؤكد البيعة، بما لا لبس فيه ولا غموض ، ولكن الله يشاء أيضاً ، لهذا القرار التاريخي الخطير – قرار الدخول في المعركة- المزيد من الإحكام والتأكيد ..
فقام العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري ، أخو بني سالم بن عوف، وقال : يا معشر الخزرج ! هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل !؟
قالوا : نعم . قال : إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس ، فان كنتم ترون أنكم إذا نُهكت أموالُكم مصيبةً ، وأشرافُكم قتلاً ، أسلمتموه ، فمن الآن ، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة.
وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ، على نُهكة الأموال وقتل الأشراف ، فخذوه ، فهو والله عزُّ الدنيا والآخرة .
قالوا : فإنا نأخذه على مصيبة الأموال، وقتل الأشراف ، فما لنا يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك .!؟
قال : الجنة .!
قالوا أبسط يدك ، فبسط يده ، فبايعوه . هشام1(446 )
بعد هذه النصوص الباهرة ، لم يعد لدى الرسول صلى الله عليه وسلم، ذرة من الشك ، بتوفر إرادة القتال لدى هؤلاء القوم الذين يبايعونه .
ولكن ، هل يكفي لاتخاذ قرار المعركة ، أن تتوفر إرادة القتال فقط لدى الجنود المقاتلين ، دون توفر الظروف المناسبة للتنفيذ .!؟
الجواب : قطعاً .. لا … ولذلك فقد رفض النبي القائد صلى الله عليه وسلم ، اندفاعات المتعجلين لإشعال فتيل المعركة ، قبل تهيئة الظروف الكاملة للفوز فيها
قال ابن اسحق : ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم ، ارفضُّوا إلى رحالكم . قال : فقال العباس بن عبادة بن نضلة : والله الذي بعثك بالحق ، إن شئت لنميلن على أهل منى غداً بأسيافنا .!؟
قال : فقال الرسول صلى الله عليه وسلم :
(( لم نؤمر بذلك ، ولكن ارجعوا إلى رحالكم )).
وهنا أود أن أوجه رسالة مفتوحة الى قارئي السيرة من أبناء الحركات الإسلامية في العالم فأقول :
أيها الاخوة الكرام : إن قرار المواجهة العسكرية بين الإيمان والكفر، وقرار خوض المعركة المسلحة بين الدعاة والطغاة ، من الأهمية ، والخطورة ، بحيث يتوجب بحثه ، والتشاور فيه ، واتخاذه،على أعلى مستوى في الأمة .
ويجب أن لا يترك لرغبات المتسرعين ، ونزوات المتهورين ، وحماس المتحمسين ، وأهواء الطامحين ، والطامعين ، مهما يكن مستوى إخلاصهم ، و مهما تكن درجة شجاعتهم .
وذلك لما يترتب عليه من نتائج خطيرة ، قد تهدد وجود الأمة ، وعقيدتها ، ومستقبل أجيالها..!!!
ويجب أن لا تفهم رسالتي هذه ، على أنها دعوة للتخلي عن الجهاد!
أو أنها دعوة للجبن ، والذل ، واستمراء الظلم ، وتسليم رقاب الدعاة للطغاة .!
معاذ الله ، أن أكون قد قصدت ذلك ، أو خطر على بالي ..
إنما أدعو إلى منهج الرسول صلى الله عليه وسلم ، في إحكام الخطة ، وإعداد العدّة ، وتهيئة الظروف ..
وعدم إعطاء الفرصة للأعداء ، لذبح المسلمين ، والبطش بهم ، وإجهاض صحوتهم ، والشماتة بهم ، قبل أن يكونوا قادرين على الدفاع عن أنفسهم ، وحماية أعراضهم وممتلكاتهم ..
قال ابن اسحق : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البيعة لم يؤذن له بالحرب ، ولم تحلل له الدماء ، إنما يؤمر بالدعاء إلى الله ، والصبر على الأذى ، والصفح عن الجاهل .
وكانت قريش ، قد اضطهدت من اتبعه من المؤمنين ، حتى فتنوهم عن دينهم ، ونفوهم من بلادهم ، فهم من بين مفتون في دينه ، ومن بين معذب في أيديهم ، وبين هارب في البلاد فراراً منهم .
منهم من بأرض الحبشة ، ومنهم من بالمدينة ، وفي كل وجه ..
فلما عتت قريش على الله عز وجل ، وردُّوا عليه ما أرادهم به من الكرامة ، وكذَّبوا نبيه صلى الله عليه وسلم ، وعذَّبوا ونفوا من عبَده ووحَّده وصدَّق نبيه واعتصم بدينه .
أذن الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم ، في القتال والانتصار ممن ظلمهم ، وبغى عليهم .
فكانت أول آية أنزلت في إذنه له بالحرب ، وإحلاله له الدماء والقتال لمن بغى عليهم ، قول الله تعالى : (( أذن للذين يقاتَلون بأنهم ظُلوا ، وإنَّ الله على نصرهم لقدير )) هشام1 ( 467 )
فلما أذن الله تعالى له صلى الله عليه وسلم بالقتال ، وبايعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة له ولمن اتبعه ، وأوى إليهم من المسلمين .
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أصحابه بالخروج إلى المدينة ، والهجرة إليها ، واللحوق بإخوانهم ، من الأنصار .
وكان هذا الأمر بمثابة تحشيد القوى والجيوش للحرب ، وتهيئة الأمة للمعركة.
وقبل أن أختم هذه الفقرة أود تسجيل هذه الملاحظة ، حول آيات سورة الحج التي أذن الله فيها لرسوله بقتال المشركين .
فقد أجمع جمهور الأمة ، على أن هذه الآيات قد نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعد شروعه بعملية الهجرة .
وهي أول آية أذن له فيها بالقتال ، بعد ما نهي عنه في أكثر من سبعين آية مكية.
فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي وحسنه ، والحاكم وصححه عن ابن عباس ، قال : خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : أخرجوا نبيهم ليهلكن .! فأنزل الله :
(( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ، وإن الله على نصرهم لقدير)) صابوني مج2 ص291 .
لكن هذا لا يعني أبداً ، بأن عملية الجهاد برمتها ، هي عملية طارئة لم يفكر بها النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا في هذه اللحظة .!!!
كلا …لأن قوى الشر والضلال تعمل في هذه الأرض ولا تتوقف ..
والمعركة مستمرة بين الحق والباطل ، وبين الهدى والضلال. والصراع قائم بين قوى الإيمان ، وقوى الطغيان ، منذ أن خلق الله الإنسان ..!!
والشر جامح ، والباطل مسلح ، وهو يبطش غير متحرج ، ويضرب غير متورع . ويملك أن يفتن الناس عن الخير إن هم اهتدوا إليه ، وعن الحق إن تفتحت قلوبهم له .!
فلا بد إذاً للإيمان والحق والخير ، من قوة تحميه من البطش ، وتقيه من الفتنة ، وتحرسه من الظلم ..
هذه المعاني العظيمة ، كانت مركوزة في قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، ومحفورة في ضميره ، منذ اللحظة الأولى لتشرفه بهذه الرسالة المباركة .
ولكنه باعتباره القائد لهذه الدعوة ، والمسؤول عن دماء أبنائها وأعراضهم ، ولشعوره بعظمة هذه المسؤولية وخطورتها ، فقد كان يؤجل الصدام ، ويؤخر المنازلة ، ويهئ الظروف ، ليستكمل كافة شروط الاستعداد للمواجهة ، ويضمن كامل أسباب الحصول على النصر …
ثانياً _ الدعوة الى الله :
مرة أخرى تبرز الدعوة كأولوية أولى للرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة .
ولقد مارسها صلى الله عليه وسلم بشكل فردي ، فلم يترك وجيهاً في قومه ، أو ذا رأي أو شرف ، إلا دعاه إلى الله ، وعرض عليه الإسلام.
كما مارسها بشكل جماعي ، فلم يترك وفداً من وفود العرب ، إلا غشيهم في منازلهم ومواسمهم وتجمعاتهم ، وعرض عليهم الإسلام .
وهذه شهادة واحد من نجوم العرب ، مغروق بن عامر الشيباني ، الذي خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن سمع عرضه للإسلام فقال : ( دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك ).
غضبان ص143
ولقد اقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام رضوان الله عليهم ، فكانوا دعاة من طراز متميز ، ولقد توفرت فيهم كل الصفات المثالية للداعية الناجح مثل :
المبادرة والإيجابية :
فكان يكفي للواحد منهم ، مجرد أن يسلم ، حتى يتحول إلى داعية ناجح للإسلام . ويقف المرء مذهولاً أمام النفر الستة من الخزرج ، الذين ما إن كلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الإسلام ، حتى آمنوا به وصدَّقوه ، ثم ما لبثوا أن رجعوا إلى بلادهم دعاة من طراز متميز .
يقول ابن اسحق : فلما قدموا المدينة إلى قومهم ، ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم ، فلم تبق دار من دور الأنصار ، إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم . هشام1 ( 437 )
وكذلك تميزوا بالتضحية :
ولقد كان موقف مصعب بن عمير ، نموذجاً للداعية الذي يضحي بالأهل والوطن والمال ، في سبيل دعوته ، وهو الشاب المدلل الذي كان يرفل في أحضان النعيم في مكة .
والصدق والإخلاص :
وهي من أهم صفات الداعية الناجح ، ولننظر إلى مدلولات هذه العبارة التي قالها أسعد بن زرارة لمصعب بن عمير، عندما رأى أُسيد بن حُضير مقبلاً عليهما.
قال : ( هذا سيد قومه قد جاءك ، فاصدق الله فيه ).
ولقد صدق اللهَ فيه مصعب فعلاً ، فقد جاء الرجل وحربته في يده يريد قتلهما أو إخراجهما ، فما هي إلا لحظات ، حتى تهلل وجهُه بالبشر ، وبدت علامات الهدى على مُحيَّاه وقال :
كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين.!؟
والحكمة وبراعة الأسلوب :
فلقد كان مصعب بن عمير رضي الله عنه يفتح قلوب الناس بالقرآن ، قبل أن يملأ عقولهم بالعلم ، وهذا ما نلحظه في قصته مع سيدي الأنصار، أُسيد بن حضير، وسعد بن معاذ ، رضي الله عنهما.
قال ابن اسحق محدثاً عن قصة إسلام أسيد بن حضير ، فلما رآه أسعد بن زرارة ، قال لمصعب بن عمير: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه .
قال مصعب : إن يجلس أكلّمه ، قال : فوقف عليهما متشتماً ، فقال : ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا ، اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة .!؟ فقال مصعب : أَوَ تجلسُ فتسمع ، فان رضيتَ أمراً قبلتَه ، وإن كرهته كُفَّ عنك ما تكره ؟ قال : قد أنصفت . ثم ركز حربته وجلس إليهما ، فكلمه مصعب بالإسلام ، وقرأ عليه القرآن .
فقالا : والله لقد عرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم ، في إشراقه وتسهّله . ثم قال : ما أحسن هذا الكلام وأجمله ، كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين .!؟ فقالا له : تغتسل ، فتطهر ، وتطهر ثوبك ، ثم تشهد شهادة الحق . ثم تصلي ، فقام فاغتسل وطهر ثوبيه ، وتشهد شهادة الحق ثم قام فركع ركعتين . ولقد تكرر الموقف ذاته مع سعد بن معاذ رضي الله عنه .. هشام1 (436 )
5_ والفطنة ودقة الاختيار :
لقد رأينا من قبل ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يترك وجيهاً في قومه ، أو ذا شرف ، أو ذا رأي ، إلا تعرض له بهذا الدين، وكان يتوخى من ذلك دخول البيوت من أبوابها.
فلقد كان هؤلاء الزعماء مفاتيح قومهم ، إذا أسلموا ، أسلمت أقوامهم من ورائهم . وهذا ما فعله التلميذ النجيب مصعب بن عمير رضي الله عنه ، فلقد اختار سادة الأنصار ، فلما كسبهم للدعوة ، لم تبق دار في الأنصار لم يدخلها الإسلام . ولننظر إلى هذا المشهد الرائع من مشاهد إسلام سعد بن معاذ ، سيد بني عبد الأشهل ..
قال : فأقبل عامداً إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير ، وذلك بعد أن أسلما ، فلما وقف عليهم قال : يا بني عبد الأشهل ، كيف تعلمون أمري فيكم ؟ قالوا : سيدنا ، وأفضلنا رأياً ، وأيمننا نقبية .
قال : فان كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام ، حتى تؤمنوا بالله ورسوله . قالا : فوالله ما أمسى في بني عبد الأشهل ، رجل ولا امرأة ، إلا مسلم ومسلمة .! هشام1( 437 )
ثالثاً _ وفاء القيادة لجنودها :
والدرس الثالث الذي نستفيده من هذا المقطع من سيرته صلى الله عليه وسلم ، هو وفاء القيادة لجنودها.
فليست على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا على منهج الدعاة الأصلاء ، تلك القيادات ، التي تورط جنودها في أزمة خطيرة ، كدخول معركة مع الأعداء ، أو تتخذ قرار المواجهة مع الطواغيت ، ثم تتخلى عنهم في منتصف الطريق ، وتتركهم نهباً لآلة القمع ، وأجهزة المخابرات ، يعيثون بهم ذبحاً ، واعتقالاً ، وتشريداً،
ثم تكون هي وأبناؤها ، وحاشيتها ، في مأمن من ذلك كله ، ترفل بالأمن ، وتنعم بالراحة .!!
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وفياً ، حتى مع المشركين والغرباء ، الذين أحسنوا إليه يوماً ما ، مثل المطعم بن عدي ، وسراقة بن مالك ، ونجاشـي الحبشة
فكيـف لايكـون وفيـاً مع إخوانه وأصحابه .!؟
قال ابن اسحق : فاعترض القول ، والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أبو الهيثم بن التيهان ، فقال : يا رسول الله ، إن بيننا وبين الرجال حبالاً ، وإنا قاطعوها – يعني اليهود – فهل عسيتَ إن نحن فعلنا ذلك ، ثم أظهرك الله ، أن ترجع إلى قومك ، وتدعنا .؟
قال : فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال :
(( بل الدَّمُ الدَّمَ ، والهدمُ الهدمَ ، أنا منكـم وانتـم مني ، أحـارب مـن حاربتم ، وأسـالم من سالمتم )) .هشام1 (442) .
ولقد صدّق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قولَه فعلُه ، فقد كان طيلة حياته بين جنوده ، وعلى رأس دعوته .
لم يتخلّ عنهم في يوم ما قط ، حتى بعد أن فتح الله عليه وطنه الحبيب مكة المكرمة ، مسقط رأسه ، ومهبط وحيه ، وأحب بقاع الأرض الى قلبه .
لكنه لم يؤثرها في الإقامة والسكن على بلد مهاجره ، وموطن أحبابه وأنصاره.