دور المفاهيم في السلوك الاجتماعي

حيدر قفه

يُعَرِّفُ علماء المنطق "المفهوم" بأنه ما يحتويه التصور من صفات مميزة له عن غيره من التصورات([1]) وبتعبير آخر: المفهوم هو مجموعة الصفات والخصائص الموضحة لمعنى كلي([2]).

وهذا التعريف للمفهوم قد لا يلزمنا في بحثنا هذا، وقد يستغلق فهمه على بعض الناس، لذا نريد أن نأخذ الأمر مأخذاً أقرب من ذلك وأيسر، دون إغراق في حد المفهوم وتعريف المناطقة، فالمفهوم الذي نعنيه هو الأمر الذي استقر عليه رأي الناس في (بيئة ما) أو في (زمن محدد) حتى أصبح يشكل تصوراً عاماً عندهم، يؤثر في جانب أو جوانب من حياتهم. ولنأخذ مثالاً على ذلك.

مفهوم الجمال النسوي عند العرب في الجاهلية كان مرتبطاً بالسِّمن والامتلاء، وكلما كانت المرأة سمينة ممتلئة كانت أرغب عند الرجال، حتى قال الأعشى الكبير ميمون بن قيس في معلقته([3]):

وَدِّعْ هُريرةَ إنَّ الرَّكبَ مُرْتَحِلُ

 

 

وهل تُطيق وَدَاعاً أيُّها الرجُلُ

 

غَرَّاءَ فَرْعاءَ مصقولٌ عَوارضها

 

 

تمشي الهُوَينا كما يمشي الوَجي الوحِلُ

 

كأن مشيتَها من بيتِ جارتها

 

 

مَرُّ السحابِةِ لا رَيثٌ ولا عَجلُ

 

يكادُ يصرعُها، لولا تشدُّدُها

 

 

إذا تقومُ إلى جاراتِها الكسلُ

 

إذا تعالجُ قِرْنَاً ساعةً فترتْ

 

 

واهْتَزَّ مِنْها ذَنوبُ المتنِ والكفلُ

 

مِلءُ الوشاحِ وصِفْرُ الدرع بَهْكَنَةٌ

 

 

إذا تَأتِي يَكَادُ الخصرُ ينخزِلُ

 

هِركولةٌ، فُنُقٌ، دُرْمٌ مَرافِقُها

 

 

كأن أَخْمصُها بالشّوْكِ مُنْتَعِلُ

 

وأبيات أخرى تصف جسدها وسمنها وتنعمها وكسلها.

وفي حديث أم سلمة (رضي الله عنها) أن النبي (r) كان عندها، وفي البيت مخنثٌ فقال المخنث لعبد الله بن أبي أمية – أخي أمِّ سلمة -: يا عبد الله! إن فتح الله لكم غداً الطائف، فإني أدُّلك على ابنةِ غَيْلان، فإنها تُقبل بأربعٍ وتدبرُ بثمان... الحديث "([4]).

هذا المفهوم للجمال يؤدي إلى طلب النساء لهذا الجمال بمواصفاته تلك التي تواضع عليها المجتمع، وهذا يستدعي عدة أسباب اجتماعية موجدة لهذا النوع من الجمال، كالغنى، والرفاه، ووجود الخدم، وقلة الحركة، وكثرة الطعام وتنوعه... إلخ هذه التداعيات.

فهذا المفهوم للجمال كان في بيئة ما (هي الجزيرة العربية) في زمن ما (هو قبيل الإسلام) لكن هذا المفهوم بدأ يتلاشى في زماننا، فأصبح القوام الملفوف والخصر النحيل رمزان للجمال، وبالتالي تغير المفهوم. وبتغير المفهوم تتغير أنماط السلوك، ومن التداعيات التي يفرضها تصور المفهوم الجديد، حرص النساء على قلة الأكل (الرجيم)، وتضييق الملابس، وكثرة الحركة... إلخ هذه السلوكيات المؤثرة اجتماعياً واقتصادياً.

بينما نجد في بلد مثل موريتانيا، أن مفهوم الجمال ما زال – إلى يومنا الحاضر – كما كان عند العرب قبل الإسلام، ولذا تسعى الأم هناك إلى تسمين ابنتها، وللنساء في ذلك طقوس وعادات، حيث تحبس ابنتها وهي في السابعة من عمرها إلى التاسعة مدة أربعين يوماً، لا تسمح لها فيها بالحركة إلا لأمر ضروري كقضاء الحاجة مثلاً، ثم تتولى إطعامها بمأكولات غنية بالدهون والسكريات والنشويات والنُّقُلِ (الجوز، البندق، اللوز...) والعسل والمربيات، فإذا تأبت الفتاة على هذا الطعام ولم تُقْبِلْ عليه، قامت الجارات والقريبات بمعاونتها على ابنتها بالإلحاح والتحبيب والضغط والإكراه لدرجة القرص بالأصابع في جسدها فلا تجد الفتاة إلا الاستجابة على مضض. فإذا انقضت مدة الأربعين يوماً، تكون بذرةُ السِّمَنِ والامتلاء قد استقرت في هذا الجسد، ومِنْ ثَمَّ تعمل الخلايا الدهنية عملها: النمو والتكاثر والامتداد، فلا تلبث أن تصبح الفتاة سمينة ممتلئة القوام. ولهذا المفهوم في موريتانيا ضغطه الاجتماعي حتى على المثقفات، فيرضخن له ولطقوسه – رغم عدم قناعتهن به – إِلَّا إنهن في في النهاية يردن الزواج، وهذا مطلب الأزواج.

فالمفهوم – إذن – له تأثيرات اجتماعية، وسلوكية، واقتصادية، وصحية، وربما سياسية أيضاً – كما سنرى في مفاهيم أخرى بعد قليل.

دور المفهوم في تشكيل العقلية الإنسانية:

وللمفهوم دور مهم في تشكيل العقلية الإنسانية وإعادة صياغتها بحيث تتوافق معه، فالمفهوم يؤثر في العقل، بحيث يجعله مستسلماً له، مستنيماً لتصوره، خاضعاً لإرادته، هذا من جانب.

ومن جانب آخر يصبح العقل مستهسلاً لقبول المفهوم، وبالتالي عدم مناقشته أو إعادة النظر فيه، لأنه – أي المفهوم – أصبح عند العقل من المسلمات المفروغ منها.

ومن جانب ثالث يجد العقل صعوبة في تصور نقيضه – أي نقيض المفهوم – وبالتالي الدفع نحو الاستنكار لكل ما يخالف المفهوم.

ومن جانب رابع يُحفز العقل للتمسك به، وتعميق الاتجاه نحوه، والدفاع عنه.

ومن جانب خامس أن المفهوم يحتاج إلى هِزة قوية لتبديله، وهذه الهزات متنوعة ومختلفة، كالعقائد الجديدة، والانقلابات العسكرية، والثورات، والحروب، والهجرات الجماعية، والكوارث الطبيعية. وكما يحتاج إلى هزة قوية، يحتاج أيضاً إلى زمن طويل قد يستغرق عقوداً أو أجيالاً، مع ما يلابس ذلك من صراعات نفسية واجتماعية، وهذا يتوقف على قوة الهزة التي تحدث التغيير في المفهوم.

التطورات الاجتماعية يصاحبها تغيير في المفاهيم:

ومن الملاحظ أن أي تطور اجتماعي نتج عن هزة اجتماعية – مما أسلفنا – لا بد أن يلابسه تغيير في المفاهيم، لأن هذه الهزات تحرك ساكن حياة الناس، فتدفعهم تحت الضغوط الجديدة لتغيير المفهوم تكيفاً مع الوضع الجديد، وليس شرطاً أن يكون هذا التأقلم في صالح الناس أو المجتمع. ولا بد لنا من سوق عدة نماذج لهذا التغيير.

في مصر قبل الخمسينات كان مفهوم العز والجاه مرتبطاً بالإقطاع، فالإقطاعي الذي يملك مئات الأفدنة من الأرض، يسخر فيها لخدمتها وخدمته عشرات الفلاحين، يسعى للحصول على لقب تفخيم مثل (البيك) أو (الباشا) وهذه الألقاب غالباً ما تأتي بالثمن الذي يقدمه المعني بالأمر للسلطات العليا الخديوي أو الملك، وبطريق مباشر أو غير مباشر كالتبرعات وإقامة المشاريع الخيرية. وبعد أن يحصل على اللقب يصبح مقرباً من الطبقة العليا، وتفتح له أبواب الدنيا ومناصبها. بعد ثورة 1952 وإلغاء الإقطاع والألقاب، وتبرير الثوار لثورتهم سلطوا الأضواء على ماضي الباشوات والإقطاع، حتى استحدثت صحيفة الأخبار زاوية ليرسل إليها الناس ما يعلمون من قصص تدل على مخازي وسيئات الإقطاعيين – فآلت الأمور إلى أن تورى الإقطاعيون وأبناؤهم عن الأنظار، وأصبح الواحد منهم يتبرأ من ماضي عائلته خوفاً من التيار الغالب ضدهم. وتحول مفهوم الجاه والعز من الإقطاعيين إلى طبقة جديدة نالت الحظوة وهم الضباط في الجيش والشرطة، لأن مقاليد الأمور أصبحت في أيديهم، ومن هذا التحول في المفهوم نتج التحول الاجتماعي، حيث بات أعظم أماني الأسرة أن يُقبل ولدها في الكلية الحربية أو كلية الشرطة ليصبح ضابطاً في المستقبل، أي من الطبقة التي لها الحظوة والجاه والسلطان.

مفهوم الحرية كان أيام الاستعمار منحصراً في خروج المستعمر من البلاد والحصول على الاستقلال، حتى يكاد لا يتبادر إلى أذهان الناس غير هذا الفهم إذا أطلق لفظ "الحرية". بعد أن خرج الاستعمار ونالت البلاد العربية بجميع أقطارها الاستقلال تغير مفهوم الحرية ليصبح حرية التعبير، حرية الانتخاب، حرية السلوك... إلخ.

مفهوم المساواة بين الرجل والمرأة كان في الماضي يعني تقاسم الحياة، هو للعمل في الخارج لكسب الرزق، وهي في الداخل لتربية الأبناء ورعاية شؤون البيت والأسرة. ومع الرياح الهوج التي هبت على الناس من الشرق والغرب، أصبح مفهوم المساواة يعني مزاحمة المرأة للرجل في أعماله ووظائفه ومجالاته.

مفهوم العورة بالنسبة للرجل كان ما بين السرة إلى الركبة، وللمرأة الجسد كله ما عدا الوجه والكفين، ومع الاحتلال الإسرائيلي بعد 1967، ومع سفر الشباب والناس إلى الغرب والشرق والاحتكاك بهذه المجتمعات على اختلاف طبائع أهلها ومعتقداتهم، بدأ المفهوم يتغير، فالشاب يلبس البنطال القصير ويتحرك فيه في الشوارع دون حرج، وكذلك المرأة تلبس فوق الركبة، وإذا جلست يظهر معظم فخذيها ولا تجد في ذلك حرجاً، لأنها تكون على شواطئ البحر أو أَحواض السباحة بلباس السباحة (مايوه) لا يكاد يستر شيئاً. فتحول المفهوم القديم للعورة إلى مفهوم جديد انحصر في السوءتين فقط.

هذه نماذج لتحول المفاهيم أردت سوقها لتتضح الصورة، وبالطبع هذا التحول ليس دائماً في صالح المجتمع والناس، بل بعضها فيه الهلاك والرجوع إلى جاهلية القرون الأولى.

الإسلام في تكوينه للجماعة المسلمة غير بعض المفاهيم:

والإسلام نقلة حضارية هزت الناس والمجتمع هزاً عنيفاً، لتخرجهم من ظلمات الجاهلية إلى نور التوحيد، ومن ضلال الشرك إلى هداية الإيمان، فكان لا بد من تغيير بعض المفاهيم التي ترسخت في المجتمع الجاهلي، والتي أدى تراكمها إلى حياة الحضيض التي كانوا يعيشونها، مما جعلهم أقل الأمم، وأضعف الشعوب، وأتفه المجتمعات.

وكان لا بد للإسلام من التركيز على المفاهيم التي سببت لهم هذه الحال من الضعف والهوان، والبقاء عند سفوح الحياة، بينما جيرانهم يحتلون بعضاً من أراضيهم وأقاليمهم، إن بالأصالة أو بالوكالة، حيث يستتبعون بعض القبائل فتدين لهم بالولاء.

والإسلام في تغييره لبعض المفاهيم استخدام عدة أساليب لذلك، من الحض، والتحبيب، وإثارة كوامن إيجابيات النفس... إلخ ما هنالك. لكن ذلك كله تم في تدرج هين لين، بعد أن هيأ النفوس لهذا الانقلاب الجذري في حياتهم وتصوراتهم، وهذا واضح في آيات القرآن، والأحاديث النبوية الشريفة، وتم هذا بأسلوب مباشر أحياناً، وغير مباشر في أحايين أخرى.

بعض المفاهيم التي غيرها الإسلام:

ولا نستطيع أن نحصر المفاهيم التي غيرها الإسلام، فإن ذلك يصعب حصره وتحديده، كما أن هذا الحصر لا يتفق مع وقت المحاضرة أو طول المقالة، لكثرة هذه المفاهيم. ولذا سنقتصر على اليسير منها كإشارة أو خط أو نهج يمكن الاسترشاد به، والبحث على أساسه.

قلنا إن تغيير المفاهيم تم في القرآن والأحاديث، وفي الأمرين تم بأسلوبين مباشر، وغير مباشر، وكان هذا التغيير في الأمور التي تمس الحياة بكل متطلباتها. وسأضرب أربعة أمثلة للمفاهيم التي غيرها الإسلام، ولتكن في أبرز ما كان يواجه المجتمع من تحديات.

1-   الانتماء:

كان المجتمع الجاهلي يقوم على العلاقة القبلية، الفرد تابع للقبيلة والقبيلة تحمي الفرد، وابن القبيلة مقدم على سائر الناس مهما علا شأنهم، وهذه هي الرابطة وحسب، ودونها كل الروابط، أو لا رابط غيرها. فجاء الإسلام ليبني من هذه القبائل المنتشرة المتناحرة، الموزعة الممزقة، أمة لها كيانها وهيبتها في مواجهة أمم أخرى ودول أخرى لها وزنها وهيبتها في الحياة. قال تعالى: ( )   [الحُجُرات: 10]، وهنا استخدم الأسلوب غير المباشر ليقول الناس إن هناك رابطة أخرى غير رابطة الدم والقبيلة، وقال رسول الله (r): "المسلم أخو المسلم لا يَظْلِمُه ولا يُسْلِمه... "([5])، واستخدم هنا أيضاً الأسلوب غير المباشر، مكتفياً بالإيحاء وقال (r): "الناس بنو آدم وآدم من تراب"([6])، وهنا يرفعه إلى مرتقى الإنسانية جمعاء، ويقول (r): "يا أيها الناس اسمعوا واعقلوا، واعلموا أن لله عز وجل عباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم النَّبيُّون والشهداء على منازلهم وقربهم من الله". فجثا رجل من الأعراب من قاصية الناس، وألوى بيده إلى النبي (r) فقال: يا رسول الله، ناسٌ من الناس، ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم، وقربهم من الله، انعتهم لنا، جَلِّهم لنا – يعني صفهم لنا – فَسُرَّ وجه النبي (r) بسؤال الأعرابي فقال رسول الله (r): "هم ناس من أفناء الناس – لا يعلمون أصولهم ولا يعنيهم هذا – ونوازع القبائل، لم تُصَلْ بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله وتصافوا، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسون عليها، فيجعل وجوههم نوراً، وثيابهم نوراً، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون، وهم أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون"([7]).

إذاً هذا هو المفهوم الجديد للانتماء، الانتماء للعقيدة، لا للقبيلة، ولا للقرابة، ولا للأرض، وبذلك تحرروا من ربقة العبودية لروابط وأواصر أدت بهم إلى التشرذم والضعف.

2-   الحميّة:

كان العربي في الجاهلية يثور لأتفه الأسباب، وينفعل انفعالاً مدمراً، فلا يقتصر على مجرد الكلام، ولكنه انفعال يمتد إلى الفعل كالقتل والاعتداء والبغي، ومِنْ ثَمَّ جر القبيلة معه – نتيجة لتصرف فردي أحمق – إلى عداوات وثارات في حروب يطول أمدها، كحرب "البسوس" من أجل ناقة رعت في أرض محمية، أو "داحس والغبراء" نتيجة لسباق خيل غلبت فيه فرسٌ أخرى.

فجاء الإسلام ليغير مفهوم الحمية والشدة، ليلفتهم إلى معنى آخر، وليوقف نزيف الدم. قال (r): "ليسَ الشَّديدُ بالصُّرَعَةِ، إِنَّما الشَّدِيدُ الذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ"([8])، وهذا التغيير استخدم فيه الأسلوب المباشر، وكذلك كل آية أو حديث تبدأ بـ "ليس" فهي موطئة لتغيير في مفهوم ما على الأغلب.

3-   التهافت على المال:

وكان أهل الجاهلية يتهافتون على المال، ولا يعبأون بمصدره من حل أو حرمة، من طريق فيه عز أو طريق موبوء بالمخازي والعار، فأكل الربا أضعافاً مضاعفة، وفتح مواخير البغاء واستثمار الجواري فيه، وأكل مال الأيتام، وعضل النساء للذهاب بصدقاتهن، والتذلل على أعتاب الحكام والأمراء لأخذ الصلات والأعطيات، والتكسب بالشعر كذباً ونفاقاً، أو هجاءً ابتزازياً... إلخ.

ولم يقتصر الحرص على المال على الأساليب السابقة، بل قد وصل إلى الغارات لا على الأعداء وحسب، بل تعدى ذلك إلى الجيران، والأقارب، كما قال شاعرهم:

وأحياناً على بكرٍ أخينا

 

 

إذا لم نجد إلا أخانا

 

فَيُصَبِّحون القبائل الأخرى على غفلة، فيقتلون الرجال، ويسبون النساء والأطفال، ويسوقون الإبل والمواشي والأغنام، ويسلبون كل ما يقدرون عليه، حتى لو كان عقالاً يعقلون به البعير أو مزوداً يعلفون فيه الخيل والحمير.

ولذا نشأ سادتهم على التطلع يميناً وشمالاً فإن وجدوا مغنماً هبوا إليه، وكان السؤال والتعرض لأهل المال لا يشكل عندهم حرجا.

فجاء الإسلام ليغير مفهوم الغنى، وأن الغنى ليس بكثرة ما يملك الفرد من عقار ومتاع وأموال. ولكنه في العفة والإباء وعزة النفس. قال (r): "ليسَ الغِنَى عن كَثْرَةِ العَرَضِ، ولكنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ"([9]).

فتغير المفهوم، وامتثل لذلك أهل الورع والمروءات. فكان الواحد يبذل ولا ينتظر الأخذ، ويتعفف عن المال العام، حتى لو كان له حق فيه.

4-   الأخلاق السلوكية:

كان الجاهليون يهتمون بالمحسوسات، وما له احتكاك مباشر بالكسب، والحياة الدنيا فقط، فهي عمرهم هذا، ووقتهم هذا، فلا بعث، ولا نشور، ولا حياة أخرى بعد القبور. وبناءً عليه فالنجاح والفوز لمن علا في هذا الكون، والسعادة لمن عَبَّ منها وسع طاقته، حتى ولو آذى الآخرين، فلا يهم، لأن الأصل أن يسعد هو، وهو فقط.

فجاء الإسلام ليغير المفاهيم باتجاه السلوك الخُلُقي، وليهتم بالأخلاق أولاً، وليقر في الأذهان أن السلوك الطيب يولد إحساساً طيباً، ومِنْ ثَمَّ مجتمعاً متحاباً متراصاً منتجاً إيجابياً. والعكس صحيح، فالسلوك السيء يولد قلقاً متصلاً وشداً للأعصاب، وتحفزاً للاقتتال، وترقباً وتوجساً وخيفة تدفع المرء لحبك المؤامرات، وتديير الوقيعة و... و... وكلها سلبيات تشغل أفراد المجتمع عن عظائم الأمور. قال (r): "أتدرون من المفس؟" قالوا: المفس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فَطُرِحَتْ عليه، ثم طُرِحَ في النار"([10]).

إذن مفهوم الإفلاس تغير، لم يعد محصوراً في المال المرتبط بالحياة الدنيا، ولكنه أصبح صالح الأعمال المرتبطة بالآخرة الأهم والأبقى، وهناك يشعر المرء بمقدار الخسارة الحقيقية، والإفلاس الحقيقي الأعظم.

دور المفاهيم في تشكيل المجتمع الإسلامي وصياغته:

وقد بدأت تطورات صياغة المجتمع الإسلامي وتكوينه في حياة الرسول (r)، واستوى المجتمع على سوقه بالمفاهيم الجديدة في حياة الصحابة، وما انقضى جيل الصحابة وظهر جيل التابعين إلا والصورة الوضيئة للمجتمع الإسلامي قد استقرت ورسخت بمفاهيمها الجديدة، وما انقضى القرن الهجري الأول إلا وأمة الإسلام ملء السمع والبصر، لها شوكة يحسب حسابها، وقد استولت على بقاع واسعة من أرض وممتلكات أعظم دولتين في ذلك الزمان.

هذه الصياغة الجديدة ظهرت في سلوكيات أفراد المجتمع، ومِنْ ثَمَّ ارتقى المجتمع، وسنكتفي بإيراد بعض السلوكيات كنماذج لأخلاقيات جديدة نتجت عن تغيير المفاهيم في المجتمع الإسلامي.

1-   مُصعب بن عُمَيْر (t) يرى أحد الأنصار في معركة بدر يأسر أخاه أبا عزيز بن عُمير فيقول مصعب للأنصاري: شد يديك به، فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك. فقال أبو عزيز لأخيه مصعب: أهذه وصاتك بك يا أخي؟! فقال مصعب: إنه – أي الأنصاري – أخي دونك([11]).

2-   عمر بن الخطاب (t) يتذكر الأخ من إخوانه في الله بالليل، فيشتاق إليه، فيقول في نفسه: ما أطولها من ليلة، فإذا أصبح الصباح، صلى الفجر، ثم بكَّر إليه فاعتنقه([12]).

3-   أبو هريرة (t) يشتري جارية سوداء كأنها شيطان، ويطلب من ابنه أن يردفها خلفه على الحمار، فيمتعض ابنه ويستنكف لمكانة أبيه بين الناس فينهره أبو هريرة ويقول: لو انتسبتْ وانتسبتُ لا نلبث أن نلتقي أو نجتمع في جد واحد([13]).

4-   كلف رسول الله (r) أُسامةَ بن زيد (t) بقيادة الجيش الذي سيثأر لشهداء مؤتة، وكان من جنود ذلك الجيش كبار الصحابة سناً وقدراً أمثال عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله... وأسامة في مثل سن أولادهم. إلا أن الجيش لم يسر إلا بعد وفاة النبي (r) واستأذن أبو بكر أُسامةَ في أن يبقى معه عمر بن الخطاب ليعينه على تدبير أمر الخلافة فأذن له. إلا أن عمر بن الخطاب – وهو أمير المؤمنين – كان إذا لقي أسامة قال له: السلام عليك أيها الأمير، لقد مات رسول الله (r) وأنت عليَّ أمير([14]).

5-   معاوية بن أبي سفيان (t) وهو أمير المؤمنين، يزوره أُسامةُ بن زيد، فيكرمه معاوية، ويجلسه بجواره، فيمد أسامة رجله، فيتضايق معاوية ويقول: يرحم الله أمَّ أيمن، كأني أنظر إلى ظُنبوب ساقها بمكة. فيضحك أسامة ولا يعبأ بملاحظة معاوية تلك، ويقول: فعل الله بك يا معاوية وفعل، هي – والله – خير منك([15])... هكذا أعز الإسلام أسامة وأمه وأباه.

6-   كان عمر بن الخطاب وهو أمير المؤمنين – إذا حضر ببابه سادة مكة وضعفاء المهاجرين الأُول أذن للضعفاء السابقين من المهاجرين، ولم يأذن – أو أَخَّرَ – سادة العرب في الجاهلية من مسلمة الفتح، ولا يبالي، فقد غير الإسلام مفهوم القدر والمكانة فجعلها للتقوى وللأسبقية في نصرة هذا الدين، لا في الحسب والنسب([16]).

7-   وكان علي بن الحسين (زين العابدين) خارجاً من المسجد، فلقيه رجل فسبَّه، وعليٌّ (t) ساكت، فثار العبيد والموالي ليضربوا الرجل، فقال عليّ: مهلاً، ثم قال للرجل: ما سُتر عليك من أمرنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحيا الرجل، فألقى عليه خميصةً، وأمر له بألف درهم، فكان الرجل يقول: أشهد أنك من أولاد الرسول (r) ([17]).

المفاهيم وواقعنا المعاصر:

مما لا شك فيه أن واقعنا المعاصر يعج بالمفاهيم الخاطئة، والتي تؤدي بأصحابها إلى ارتكاب الأخطاء، أو السلوك المعيب، وبالتالي أدت إلى تراجع في حياة المجتمع، أو ركود سلبي – في أضعف الاحتمالات – وكلها مؤشرات ليست في صالحنا، وسأشير إلى بعض هذه المفاهيم.

1-   مفهوم الرجولة عند الشباب – لا سيما في سن المراهقة – مرتبط بالتمرد على الوالدين عند بعض الشباب، وعند البعض الآخر بتعطاي الدخان أمام الفتيات، فترى الواحد منهم يحتفظ بسيجارته حتى إذا دنا من باب مدرسة للبنات، أو تجمع لفتيات أخرجها وأشعلها ولوث البيئة.

2-   مفهوم الرجولة عند بعض الرجال أخذ مظهراً آخر، هو حمل السلاح – مسدس أو غيره – مرخصاً أو غير مرخص، ثم الاستعراض به في الأفراح والأعراس... وقد يقوده هذا الإحساس إلى التهور، فيدخل فيما لا يعنيه، ويرتكب به حماقة لا تحمد عقباها.

3-   مفهوم الحب انحصر عند الكثيرين في الهيام والغرام والأحلام والسهر وشرود الذهن والزفرات الحرى... إلخ أما الدفء العائلي، والاستقرار النفسي فلا يسمى عندهم حباً؟!

4-   مفهوم الكرم أصبح قريناً بالسفه في الإنفاق، فإن كانت هناك حفل أو وليمة فلا بد أن يكون الطعام ثلاثة أضعاف حاجة المدعويين، ويلقى ما زاد عن حاجتهم في القمامة. ولقد كان رسول الله (r) جواداً كريماً، بل أجود بالخير من الريح المرسلة، ومع ذلك، ما رفعت سفرته وعليها طعام قط.

5-   مفهوم التدين، انحصر عند بعض الشباب من الذكور في لبس الجلباب القصير وإعفاء اللحية وعند الشابات من الإناث في لبس الجلباب وتغطية الرأس. ثم ارتكاب ما يخالف ذلك في السلوك.

فكيف تلتقي اللحية وتعاطي الدخان مثلاً، أو الحجاب الشرعي واستعمال العطور والمساحيق عياناً لكل ناظر؟!

ولا أريد أن أسترسل في سوق نماذج كثيرة لمفاهيم خاطئة يعج بها واقعنا المعاصر وفي حاجة لتغيير، فإن شرح ذلك يطول. وحسبي أن شرت لبعضها، وفي فطنة القارئ ما يغني عن الاسترسال.مربع نص:  

               

([1]) المنطق ومناهج البحث، ص 59.

([2]) المعجم الوسيط مادة فهم ومفهوم.

([3]) ديوان الأعشى ص 17.

([4]) متفق عليه. مشكاة المصابيح ج 2 ص 166 حديث رقم 3121.

([5]) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر. انظر رياض الصالحين باب تعظيم حرمات المسلمين ص 121.

([6]) قطعة من حديث أبي هريرة. رواه أحمد في المسند 2/361.

([7]) رواه أحمد وأبو يعلى بإسناد حسن، والحاكم وقال: صحيح الإسناد. انظر الترغيب والترهيب، الترغيب في الحب في الله تعالى 4/21 رقم 23.

([8]) متفق عليه من حديث أبي هريرة. رياض الصالحين. باب العفو والأعراض عن الجاهلين ص 278.

([9]) متفق عليه من حديث أبي هريرة. اللؤلؤ والمرجان، كتاب الزكاة ص 221 رقم 624.

([10]) رواه مسلم. رياض الصالحين. باب تحريم الظلم  ص 117.

([11]) غزوة بدر الكبرى. لمحمد أحمد باشميل ص 176 – 177.

([12]) أخبار عمر للطنطاويين ص 346.

([13]) صفة الصفوة 1/692.

([14]) سير أعلام النبلاء 2/501.

([15]) سير أعلاءم النبلاء 2/507.

([16]) أخبار عمر للطنطاويين ص 174.

([17]) صفة الصفوة 2/100. والنقول السابقة كلها نقلتها من مصادرها بتصرف يسير.