مفهوم الأمانة في الإسلام

لما أراد الله سبحانه وتعالى استخلاف الإنسان في الأرض خلقه على هيئة معلومة  أهلته للنهوض بمهمة الخلافة حيث خصه بملكة العقل التي تمكنه من تحقيق عمارة الأرض على الوجه الذي أراده خالقه جل وعلا ، وهو ما أشار إليه الوحي في قوله تعالى : (( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة )) وقوله : (( وعلّم آدم الأسماء كلها)) فبالجعل والتعليم مكّن الخالق سبحانه  وتعالى الإنسان من مهمة الخلافة في الأرض دون غيره من المخلوقات التي  خلقت لتكون مسخرة له .

والاستخلاف في الأرض أمانة عظمى قلدها الله عز وجل الإنسان وخصه بها دون غيره مصداقا لقوله تعالى : (( إن عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا )) ، فهذا النص القرآني يشير إلى أن الإنسان قد خص دون سواه من المخلوقات بحمل أمانة الاستخلاف لما أودع فيه الله عز وجل من مؤهلات لم تودع في غيره، وهو ما جعلها تشفق من حمل هذه الأمانة وتأبى حملها ،بينما حملها الإنسان ،فكان حاله معها إما مضطلعا بها على الوجه الأكمل أو مضيّعها ظلما منه أوجهلا ، ويكون في حال  تضييعها عن عمد  ظلوما ، و في حال التقصير في حملها والتفريط في الأخذ بأسباب الوفاء بها جهولا ، وقد جاء التعبير عن الحالتين  في قوله تعالى بصيغة المبالغة. ومعلوم أن الظلم هو اعتداء على حق الغير ، وأن الجهل انتفاء العلم بما يتعين علمه ، وبهما تضيع أمانة الاستخلاف .

ولقد نقل لنا القرآن الكريم قبول الإنسان حمل هذه الأمانة في قوله تعالى : (( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين )) . فهذا النص القرآني يؤكد العهد الذي قطعه الإنسان على نفسه بأن يحمل أمانة الاستخلاف .

وأمانة الاستخلاف هي أمانة الدين ، وعنها تتفرع جميع أنواع الأمانات المادية والمعنوية التي تستقيم الحياة بأدائها إلى أهلها. ولقد أمر الله عز وجل بأدائها إلى أهلها في صيغة أمر ملزم فقال : (( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها )) أي إلى من هم أهل لها أو إلى مستحقيها ، وهي حقوقهم . ولقد جرت العادة عند كثير من الناس اعتبار الأمانات ما كانت مادية أو عينية فقط مع إغفال الأنواع المعنوية والتي لا تقل أهمية عن الأمانات المادية بل تفوقها أهمية في كثير من الحالات ،كما أنه لا تقل خطورة تضييعها عن خطورة تضييع الأمانات المادية أو العينية . وليس من قبيل الصدفة أن يقترن أمر الله عز وجل بأداء الأمانة مع أمره بالحكم بالعدل بين الناس في قوله تعالى : (( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعمّا يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ))، ذلك أن العدل أمانة من الأمانات التي قلد بها الإنسان أو حملها . والحكم هو الفصل بين طرفين متنازعين، وذلك بإظهار المحق منهما من المبطل . والعدل هو التسوية التي تنال بها الحقوق ويحصل بها الأمن بين الناس ،ويسود الاستقرار، وتصلح أحوالهم ، ويمتنع بها الجور، وهو الميل عن التسوية إما زيادة أو نقصانا أو إفراطا وتفريطا . والعدل هو وسط بين الإفراط والتفريط ، ذلك أن الإفراط هو إعطاء الإنسان فوق ما يستحق ، والتفريط هو الإجحاف في إعطائه ما يستحق .

ولا يمكن أن تؤدى الأمانات إلى أهلها ومنها أمانة العدل إلا بشرع الله عز وجل المنزه عما يعتري الشرائع الوضعية من عيب سببه تأثر هذه الأخيرة بالأهواء البشرية . وشرع الله عز وجل يراعي مصالح النوع البشري على اختلاف أجناسهم وألوانهم، بينما الشرائع الوضعية توضع لأجناس دون أخرى ولاعتبارات مشوبة بالأهواء البشرية ،ومع ذلك يصفها البعض بأنها كونية ،وفي هذا الوصف ما فيه من مبالغة يكذبها واقع الحال في عالم  اليوم حيث تكون بعض الشرائع الوضعية فوائد قوم في حين هي مصائب آخرين ،والأمثلة على ذلك كثيرة، ويكفي التمثيل لها بحق النقض المعروف بالفيتو، فهو خير شاهد على العيب الذي يشوب ما يضعه البشر من شرائع .

وقد يعتقد كثير من الناس أن أداء الأمانات إلى أهلها، ومنها أمانة العدل هي مسؤولية الحكام فقط ، والحقيقة أن الإنسان يجب عليه أداء أمانات تلزمه باعتبار موقعه الاجتماعي مهما كان ، وباعتبار مهامه ، وباعتبار علاقاته  مع غيره، فعلى سبيل المثال لا الحصر يجب على الإنسان المؤمن أداء أمانة الله عز وجل وهي مجموع الأمانات المترتبة عن أمانة الاستخلاف في الأرض أو أمانة الدين ، وهي ذات صلة بأمانات الخلق المختلفة ، ذلك أنه عليه أداء أمانة الزوجية ، وأمانة الأبوة ، وأمانة القرابة والرحم ، وأمانة الجوار ، وأمانة العمل الموكل إليه ، وأمانة المواطنة ، وأمانة الإنسانية ... ولا يوجد في حظيرة الإسلام من لا تلزمه أمانات عدة مادية ومعنوية .

والمؤسف أن يهمل الإنسان المؤمن بعض الأمانات ويضيعها ، ويتملص من تحمل مسؤولية تضييعها ، ويلقي باللائمة في ذلك على غيره ، وعلى  سبيل المثال لا الحصر نذكر كيف يضيع الآباء والأمهات وولاة الأمور أمانة تربية أبنائهم  وبناتهم، و في المقابل يتهمون المجتمع والشارع والمؤسسات التربوية بالتقصير في واجب تربيتهم ، وتتهم المربون بدورهم الآباء والأمهات  بالتقصير في واجبهم . وهكذا تضيع أمانة تربية الناشئة من خلال تملص كل الأطراف المأمورة شرعا بتحمّلها .

إننا نشكو اليوم جميعا مما يسود مجتمعنا من آفات بسبب إهمال أمانة تربية الناشئة ،ولكن لا أحد منا يشعر بوخز الضمير بسبب التقصير في أداة هذه الأمانة من موقعه ومسؤوليته . ولم يعد مقبولا من أحد أن يتذرع بأنه لا يستطيع أداء هذه الأمانة أو يدعي أنه قد بذل كل ما في وسعه من أجل أدائها دون جدوى وبلا طائل، علما بأن أمانة تربية الناشئة عبارة عن سلسلة ذات حلقات متصلة  فيما بينها، ولا يمكن تعويض أية حلقة تهمل ،ذلك أن الناشئة تمر بمراحل في الطفولة والشباب ،تقتضي كل واحدة منها برامج تربوية معينة وتتكامل فيما بينها .

إننا نستغرب كيف يضيع مسؤول كبير أمانات أوكلت إليه، لكننا لو استعرضنا التربية التي خضع لها في صباه وشبابه سنجد أنه  لم يخضع لتربية سليمة ،وأن والديه قد قصرا في تربيته ، ذلك أن من ينشأ في وسط أسروي تضيّع فيه الأمانات سيشب  لا محالة على ذلك ، وتترسخ لديه قناعة بأن ما عليه أسرته هو الأصوب، فعلى سبيل المثال إذا كان الأب يضيع الأمانات، فيستغل سيارة الإدارة أو وقودها أو أجهزتها وغير ذلك ... لأغراضه الشخصية والأبناء يعاينون ذلك ،فإنهم سيتربون على اعتبار تلك الأمانات المضيعة مكاسب وامتيازات من حقهم الاستفادة منها ، وسيواصلون تضييع الأمانات التي توكل إليهم حين يكبرون  ويتقلدون المسؤوليات  جريا على عادة من رباهم على ذلك.

ونختم في الأخير بحديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه : " أربع إذا كن فيك ،فلا عليك ما فاتك من الدنيا : صدق الحديث ، وحفظ الأمانة ، وحسن الخلق ، وعفة مطعم " . فالأب الذي يصدق الحديث ، ويحفظ الأمانة ، ويكون حسن الخلق ، ويطعم أبناءه الحلال، يتربون على هذه الأربع ، ويكون قد أدى أمانة تربيتهم كما يجب وبرئت ذمته أمام خالقه.

وسوم: العدد 784