شمس الحقيقة

رسالة المنبر 

 المحاور:

- يمضي الإنسان من حياته عمراً طويلاً وهو يبحث عن الحقيقة، وقد يصل إليها، أو يصل إلى جزء منها، وقد لا يصل إلى أن يموت. 

- ‏ من المعلوم لدينا نحن المؤمنين أنه ما خفي علينا من الحقائق في حياتنا الأولى (الدنيا) سيظهر لنا بتمامه وكماله بعد الموت. 

- ‏الحقيقة هي دليلنا الأول لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، فهي المعرفة اللازمة لما بعدها من سلوك إيجابي نافع. 

- ‏الآخرة دار الحقيقة بامتياز، وعلى ضوء ما ينكشف فيها من حقائق متسترة تكون الأحكام العادلة؛ (يومئذ تُعرضون لا تخفى منكم خلفية). 

 ينقسم الناس في بحثهم عن الحقيقة وسعيهم للوصول إليها إلى أقسام:

١. منهم من اجتهد في الوصول إليها ودفع أغلى ما يملك لتحقيق هذه الغاية. 

٢. ومنهم من وصل إلى غايته بسهولة ودون بحث ولا تفتيش. 

٣. ومنهم من قصّر في البحث عنها أو تقاعس في الوصول إليها. 

٤. ومنهم من لا يريد الوصول إلى الحقيقة لأنه يعلم ما يترتب عليها من تبعات وكُلف وتضحيات. 

- أما الصنف الأول فله الأجر المضاعف إن أدرك الحقيقة، ولا إثم عليه إن مات دون أن يصل إليها. 

- ‏وأما الصنف الثاني فالأجر ليس له وإنما لمن وضع الحقيقة بين يديه (كأبويه، ومعلميه، ..). 

- وأما الصنف الثالث فهو آثم لتقصيره، ولا يعذر جاهل بجهله؛ إن كان جهله نتج عن تقصير لا عن عجز مطبِق. 

- ‏وأما الصنف الرابع فهو مجرم في حق نفسه وغيره وحسابه عند الله عسير، وكأنه لا يدري أنه يدفع كلفة باهظة الثمن لإصراره على التعامي والتغابي والحيدة عن الحقيقة. 

• هذا كله في طريق البحث عن الحقيقة، قبل الحديث عن حجم تفاعل الناس مع الحقيقة بعد معرفتها، فمن صور تفاعل الناس بعد إدراكهم للحقيقة:

١. منهم من يتمثلها تمثلاً صادقاً في نفسه، بل ويسعى لتبليغها بوضوح تام لغيره، فهو يعيش لأجلها وقد يموت في سبيلها، وهكذا كان صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من سمي الباحث عن الحقيقة (سلمان الفارسي رضي الله عنه).

٢. منهم من يتمثلها لكنه لا يدعو لها (صالح غير مصلح). 

٣. منهم من يأخذ منها ما يحب ويدع ما يكره (حال كثير من منافقي الأمس ومسلمي اليوم !!). 

٤. منهم من يعتاش عليها أكثر مما يعيش لها. 

٤. منهم من يعرض عنها ولا يصغي لها. 

٥. منهم من يحاربها ويحرض الناس ضدها. 

 لسائل أن يسأل: ما السبيل لمعرفة الحقيقة في زمان تلاطمت فيه أمواج الكذب والخداع والمداهنة والتزوير والغش؟ 

- ‏وللجواب على هذا السؤال لابد من الوقوف على المبادئ والمعايير والمحددات الآتية:

١. لولا أهمية الحقيقة وشرفها ومنزلتها العظيمة ما عملت أدوات شياطين الإنس والجن بشكل متواصل على إخفائها ومواراتها والتدليس على الناس بها. 

٢. لو كان من غير الممكن الوصول إلى الحقيقة ما كلفنا الله تعالى بالوصول إليها، ولا بالتحقق من متطلباتها وما تحمله من توجيهات وتشريعات وآثار. 

٣. لدى الدول والأنظمة والعلماء والنخب من أدوات الوصول إلى الحقيقة أكثر من غيرهم؛ لأجل ذلك يزداد أجرهم بكشفها وبيانها ودعوة الناس إلى تمثلها، ويتعاظم إثمهم إن مارسوا دور الكذب والتدليس والخداع، وهذا ما نلمسه اليوم (غالبا). 

٤. لأجل الحقيقة أنزل الله تعالى الكتب، وأرسل الرسل، وأثبت المعجزات، وعاقب الأمم المعرضة عن رؤية الحقيقة، الجاحدة لها، قال تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً). 

٥. في فطرة كل إنسان بذور خير يمكنها أن تحمل صاحبها على بلوغ الحقيقة، إن كان شجاعاً في مخالفة هواه. 

٦. في كتاب الله المنظور (الكون والطبيعة) ما يدلك على الحقيقة؛ إن كان بحثك صافياً وتدبرك وافياً، أما التشويش والاجتزاء فلا يوصلك إلا إلى تيه وضياع، وصدق الله: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا). 

٧. يدلك ناقل الخبر على طبيعة ما يحمل من حقيقة أو زيف، ويدعو ذلك إلى التحقق وعدم التسليم، أما الثقات فلا يكذبون في نقل الحقائق، وخبر الثقة عندنا مقبول حتى لو كان آحادا، لاسيما إن جاءنا بطريق موصول غير منقطع، أما التبين فمن خبر الفاسق كما هو معلوم: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا)، وإعلامنا اليوم يتطلب منا أن نتبين وإلا وقعنا في ظلم قلب الحقائق. 

٨. في ربط مقدمات الأمور بنتائجها ما يساهم في كشف الحقيقة والوصول إليها، فما من دخان بلا نار ولا نار بلا جمر أو رماد، والمكتوب نقرأه من عنوانه، وللأسباب مسبباتها، ومن جاءك مخلوع العين شاكياً، فلربما ترك وراءه غريمه الذي عجز عن الوصول إليك لفقده كلتا عينيه في الخصومة نفسها.

- قد يشهد البعض بخلاف ما رأى زوراً وبهتاناً، وهو يصوم ويصلي ويحج!!، فيخفي حقيقة ما رأت عيناه؛ خوفاً (من حاكم مستبد أو أرعن فاجر) أو طمعاً (في صحبة أو رتبة وراتب)، فمثل هؤلاء لعنوا في الدنيا والآخرة، لتدليسهم على الناس، كأمثال (بعض) رجال الدين والإعلام والسياسة وحيتان الاقتصاد ممن عرفوا وانحرفوا؛ (يُحرفون الكَلِم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذُكِّروا به ولا تزال تطَّلع على خائنة منهم). 

 عندما نريد الحكم في مسألة أو نعطي رأينا في قضية لابد لنا من تحصيل معلومات موثوقة، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وقد نصل في المحصلة إلى ثلاثة مستويات من مستويات البحث قبل الحكم وهي:

١. الظن .. والظن الذي لا يوصلنا إلى الحقيقة، لا يبنى عليه حكم، قال تعالى: (إن الظن لا يغني من الحق شيئا). 

٢. غلبة الظن .. وغلبة الظن تجعلك تميل إلى حكم دون قطع وجزم وحزم، فقد تلجأ إلى التعزير إن كنت قاضياً، مع بقاء ملف القضية مفتوحاً من باب: ادرءوا الحدود بالشبهات. 

٣. اليقين .. وهو الجزم في الحكم دون تردد بسبب ما وصلت إليه من حقائق من خلال البحث والتحري، وأعظم الحقائق ما وصلك باعتراف الجاني دون أي إكراه. 

- قد يأتيك المستقبل بما يكشف لك من حقائق مدفونة، فحبال الكذب قصيرة، والصبر مع التحري مطلوب، وما أجمل ما قيل هنا:

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً 

ويأتيك بالأخبار من لم تزوَّد

- الحقيقة لا تُطلب لذاتها، فنحن لا نطلبها لأجل التندر والثقافة والاستمتاع، بل هي بمثابة مؤشر وبوصلة لنا، وإذا كان البحث عنها والوصول إليها مكلفاً، فإن تمثلها والعمل بمقتضاها أكثر كلفة، ومن هنا قيل: عرفت (الحقيقة) فالزم، ومن ذاق عرف، ومن حُرم انحرف. 

 من الحقائق التي تحتاج منا إلى بحث متواصل دون كلل ولا ملل، وأن يكون لنا موقف واضح منها؛ مهما ترتب عليها من تبعات بكل شجاعة وثبات هي:

١. حقيقة وجود الله ومدى قدرته وتأثيره في الكون. 

٢. حقيقة وجودنا وسبب هذا الوجود وحكمته. 

٣. حقيقة دورنا وواجبنا تجاه أنفسنا والآخرين. 

٤. حقيقة الموت وما بعده من أحوال. 

٥. حقيقة ما يجري حولنا وما يراد لنا وما يحاك ضدنا، ومن معنا أو علينا. 

٦. حقيقة ما نرى ونسمع من أخبار وآثار. 

٧. حقيقة ما جرى في التاريخ وما سيجري في المستقبل. 

٨. حقيقة بعض الشخصيات والرموز والأنظمة والعلماء والزملاء والأهل. 

٩. حقيقة النافع من الضار في عالم المأكولات والمشروبات والشراكات والصداقات وعموم الاختيارات.

١٠. حقيقة أعدائنا ودوافعهم ومراتبهم ونقاط ضعفهم وقوتهم. 

- وحده الله الخالق سبحانه الذي يعرف حقيقة ما في نفوسنا، قال تعالى: (والله يعلم المفسد من المصلح)، وقال سبحانه: (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة)، ولكننا نستطيع التمييز بشكل نسبي أحياناً .. ومن أدوات التمييز؛ تلك الفراسة التي وهبها الله تعالى للمؤمن في كشف المنافقين: (ولتعرفنهم في لحن القول)، وإلا فإن حقيقة هؤلاء المجرمين كامنة؛ (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم).

- ‏ أكثر الناس ظلماً لأنفسهم أولئك الذين عطلوا أدوات البحث والمعرفة، وأجهزة الاستقبال لديهم، لكي لا تصلهم أشعة شمس الحقيقة فيأخذون من دفئها وضيائها، قال تعالى: (وإني كلما دعوتهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا)، وأسوأ من هؤلاء حالاً؛ من منع غيره أن يسمع الحقيقة، قال تعالى: (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون).

- ‏دفع البعض أرواحهم ثمناً لكشف وبيان الحقيقة؛ ومنهم غلام الأخدود، وكل من وقف لظالم أو مستبد كذبوا على الناس (سحروا أعين الناس واسترهبوهم) .. في الوقت الذي اعتاش فيه آخرون على الكذب والمداهنة والخداع والتزوير عبر قنوات الإعلام والتواصل والتوجيه المختلفة .. فكم يا ترى ينفق المنحرفون المجرمون على استئجار أبواق رخيصة مهما ارتفعت أجرتها؛ لتنسب الشرف للوضيع، والأمانة للص، والصدق للكذاب، والشجاعة للجبان؟!

- ‏يقولون بأن أهل فلسطين والشام ومصر واليمن والعراق قد أهدروا دماءهم ودمروا بلادهم بلا نتيجة .. والصحيح أنهم حققوا نتائج كثيرة، ولعل من أشرفها كشف كثير من الزيف والخداع وبيان كثير من الحقائق .. صحيح أنهم لم يتمكنوا من إحقاق الحق (حتى الآن) لكن يكفيهم شرفاً أنهم كشفوا الحقيقة .. حقيقة أنظمة عالمية متواطئة وحكومات مستبدة وطوائف فاجرة وتجار دماء وسلاح وعلماء دنيا وغش تراكم عبر السنين. 

 وختاماً:

أن مداد العلماء ودماء الشهداء وأموال الكرام من الأغنياء وعرق الطيبين من البسطاء؛ شكلت معاً خليطاً لكشف الحقيقة التي طالما زورها، وعبث بها، وشتت أنظار الناس عنها، وهوّلها وخوفنا منها، المنتفعون من بقاء العتمة والظلام .. فرحم الله من ساهم في تعرية الباطل والفساد، وبيان النور من الظلمات، وبارك الله فيمن قاوم الضبابية والرمادية ومزج الألوان، وسعى سعيه الجاد في صناعة حالة من الوضوح وفرز الألوان؛ (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة).

وسوم: العدد 786