تسونامي التَّغَيُّر (1)
كنت ختمت مقالي السابق (المساحة الكبرى) بهذه الكلمات: (أعتقد أنَّ أخطر ما يواجه هذا الدين ويهدده أن يعيش علماؤه واقع القرون السابقة وأحوال أهلها، وظروفهم كما عاشها العلماء السابقون، وأن يتحدثوا إلى أبناء في القرن الحادي والعشرين، ويفتوهم في الأمور المتغيرة، كما تحدث وأفتى علماء تلك العصور).
نحن نعيش ما يمكن تسميته تسونامي التَّغَيُّر. العالم تَغَيَّر ويَتَغَيَّر تَغَيُّرا كبيرا، وطفر طفرة اتسع مداها، في جميع المجالات: السياسية، والاجتماعية، والأسرية، والاقتصادية، والثقافية:
ففي الأسرة: استئجار الأرحام، والتحاكم إلى الفحص الطبي لإثبات النسب عند التنازع، وتغيير جنس المولود، والاستنساخ، والتلقيح الصناعي، وشهادة الجينات، ... بل وإنكار التنوع الجنسي.
وقامت الدول على أسس متعددة: شورى، أو بيعة، أو انتخابي، وأصبح للعالم نظام دولي يحكم تلك الدول، وإن كان هناك دول تخالف هذا النظام.
وسيادة هذه الدول لم تعد سيادة كاملة، ففي عصر العولمة تنازلت الدول عن بعض سيادتها، مختارة، أو مضطرة، لدول أخرى، أو شركات كبرى، والدول كلها أصبح بعضها جزءًا من بعض. وأصبح للعالم نظام ينظم علاقات الدول بعضها ببعض.
والاقتصاد ـ وما أدراك ما الاقتصاد ـ غرق العالم في بحر من التعاملات المستحدثة حتى إنَّ علماء القانون أصابهم التعب، وأعياهم اللحاق بها وتكييفها. المضاربات في أسواق البورصة، وعقد العقود التجارية عبر الشبكة، وشراكات وإجارات منتهية بالتمليك.....
والإنسان ما عاد ابن مجتمعه بل هو ابن العالم الافتراضي، هو بيننا بجسمه، وهو بعقله وروحه في عالم آخر.
بل حتى الموت اختلف مفهومه فبينما كان المعروف أن الموت موت القلب جاءنا الآن ما سموه (موت الدماغ).
العالم أسرَعَ وَيُسرِع في خطواته، وَوَضَع وَيَضَعُ أمام العلماء واقعًا يحتاجون معه إلى معرفة حقيقة وواقع هذه الحوادث المستجدة، فإذا جهل العلماء هذا الواقع، أو تجاهلوه، وظلوا يرددون ما كتبه العلماء السابقون متفقا مع واقع عاشه أولئك العلماء فلن يستوعب ابن القرن الحادي والعشرين هذا الكلام.
لذا أعتقد أنه يجب أن يتغير نظرنا لهذا العالم والتعامل معه بناء على هذا التغير.
فليس مناسبا الآن حين نحلم بدولة إسلامية أن نحلم بخلافة إسلامية كخلافة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ ومن بعده ثم بناء على هذه الخلافة يجب أن تستأنف الفتوحات!
و ليس مناسبا الآن أن يؤيد عالم نظام الاسترقاق للأسرى ويريد إعادة تاريخ الإماء الأسود.
وليس مناسبا الآن أن نتحدث عن دار إسلام ودار جرب ودار أمان، وجهاد طلب.
لأني أعتقد أن التمسك بهذه الأمور وأمثالِها ـ وأمثالُها كثير ـ غياب عن الواقع، وغيبوبة في الماضي.
لذا لزامًا على العلماء أن يتكيفوا مع التَّغَيُّر المستمر، وفق ما تقتضيه النصوص الشرعية، ومقاصد الشريعة، وفقه المآلات، بشرط عدم تطويع النصوص وَلَيِّها لتوافق الواقع، أو غض النظر عنه وتجاهله.
وسيأتي ـ إن شاء الله ـ في المقال القادم توضيح وبيان.
وسوم: العدد 787