ذكريات علي الطنطاوي مع الأكراد
عام 1940 م
قال الشيخ علي الطنطاوي في ذكرياته عن الأكراد :
(لما كان مدرساً في بغداد وبدأت الدعوة للقومية بالظهور وحاربها هو وبعض أصدقائه من المدرسين )
قالوا لنا: ما دمتم لا تفرقون بين المسلم العربي، والمسلم غير العربي، فإن في شمال العراق أكراداً مسلمين فاذهبوا فعلّموهم، نُقل الأستاذ عبد المنعم خلاّف إلى السليمانية فاستقال وأنهى عقده ورجع إلى مصر، ونقل الأستاذ أحمد مظهر العظمة إلى أربيل، ونقلت أنا إلى كركوك.
وقعت لي حوادث لما جئت إلى كركوك تتصلُ بموضوع القوميّة. ذلك أن مدير الثانوية في كركوك وكان رجلاً طيباً، وزع الدروس على المدرسين، وباشروا أعمالهم، وأنا قاعد عنده في غرفة الإدارة، لا يكلفني بعمل. وكلما سألته لماذا لا أقوم بعملي كان يستمهلني.
ثم علمت السبب. عرفت أن كل المدرسين الذين جاؤوا قبلي لتدريس اللغة العربية، كان الطلاب الأكراد يقومون عليهم فلا يسلمون من ضربهم وإيذائهم، والطلاب هناك ذو بسطة في الأجسام، وذو قوة. علمت أنه إنما يحول بيني وبين التدريس خوفاً عليّ مما يتصور أنه يمكن أن يقع لي، فاغتنمت غفلة منه، ودخلتُ أكبر الفصول واخترقت مقاعد الطلاب حتى صعدت منبر التدريس، نظرتُ في وجوههم فإذا عيونهم محمرة، وإذا الغضب يبدو على سماتهم، وإذا هم يضمرون نية لا يستطيعون أن يُخفوا مظاهرها، فقلتُ لهم: اسمعوا الذي أقوله لكم يا أبنائي.
كان العرب في جاهلية فبعث الله لهم محمداً عليه الصلاة والسلام ليدعوهم إلى الله، ليدلهم على طريق الجنة، ليأخذ بأيديهم إلى صعود مدارج الفلاح والنجاح. وأنزل الله عليه قرآناً يقول فيه: (إنما المؤمنون إخوة)، فأنا ما جئت من بغداد إليكم لأعلمكم العربية، من أجل أهل بغداد، ولا خدمة لهذه البدعة التي سموها قوميّة، لا.
ولكن جئت أُعلمكم العربية، لأنها لغة نبيكم محمد، ولغة الكتاب الذي أُنزل على نبيكم محمد، ولتجتمعوا به فتعود الأخوة الإسلامية فتمحو هذه الدعوة الجاهلية.
ألا تحبون محمداً؟، قالوا: نعم، نحبه. عليه الصلاة والسلام. قلت: ألا تُريدون أن تقرؤوا كتاب الله؟ قالوا: نعم ، وإننا لنقرؤه،
قلت: الله أمر بتدبر القرآن، فكيف تتدبرون القرآن إن لم تعرفوا العربية التي أنزل الله بها القرآن؟ فيا أبنائي، أنا ما جئت إليكم باختياري ولكنهم نقلوني عقوبة لي كما زعموا، لماذا نقلوني؟ لأنني أبيت أن أدعو بدعوة الجاهلية، وهذه الدعوة التي تُفرّق المسلمين، وتجعل الأمة الواحدة أُمماً، دعوة جاهلية. هذه التي قال عنها الرسول عليه الصلاة والسلام "دعوها فإنها منتنة" فهل تريدون أن تتعلموا العربية لتفهموا كتاب ربكم، وأحاديث نبيكم؟ أو أنكم تمشون مع هوى نفوسكم، وتقابلون ضلالتهم بضلالة منكم مثلها أو أشد منها؟
أُقسم لكم أن الطلاب تأثروا حتى كادوا يبكون، ثم حملوني على أعناقهم وبدأوا يهتفون لي.
وقعت لي حوادث أُخرى مشابهة لهذه دلّتني على أن المسلم يبقى مُسلماً، وأن هذه الدعوات وهذه المذاهب طلاءٌ خارجي، لا يلبثُ أن يُمحى، ولا يمكن أن يثبت وأن يُقاوم العقيدة. فالعقائد لا تُقاومُ أبداً.
وسوم: العدد 790