كلمة إكبار وتقدير وإجلال واعتراف بالجميل في حق من علموني اللسان العربي المبين وكانوا سببا في عشقي له وولهي به

في ملتي واعتقادي أن أقبح عقوق بعد عقوق الوالدين هو عقوق الذين علّمونا   ، وعقوق هؤلاء ألا يعترف لهم بفضل ، وألا يذكروا بخير في حياتهم وبعد مماتهم . ويعجبني كثيرا دعاء المسلمين المشهور بالرحمة لمن علّمهم  بعد الدعاء بالرحمة للوالدين .

ومعلوم أن عشق المتعلمين لفن من فنون العلم يكون بسبب من علمهم إياه ، كما أن نفورهم يكون بسبب من نفرّهم منه . وغالبا ما يتحدث الناس  بعد كبرهم عن من كانوا سببا في حبهم بعض المواد الدراسية أو من كانوا سببا في نفورهم منها.وقد  يتحدث البعض عن التوجيه المعروفة مساطره في منظومتنا التربوية المغربية، لكنهم لا يلقون بالا لتوجيه فعّال له أثره الكبير في نفس المتعلمين، ويكون سببه المدرسون الذي نجحوا بخبرتهم وحنكتهم في التأثير عليهم لاختيار توجه لا ناقة ولا جمل فيه لمساطر التوجيه المعتمدة في منظومتنا التربوية . وكثيرا ما يعبر البعض عن أسفهم الشديد لاختيارهم توجها فرضته عليهم تلك المساطر ، ولو أنهم تركوا وشأنهم، لكان لهم مسار آخر في حياتهم من وراءه تأثير مدرسين حبّبوا لهم مواد بعينها فتعشّقوها، لكن مساطر التوجيه صرفتهم عنها صرفا فأسفوا لذلك شديد الأسف ، وندموا أشد الندم .

ولم أشعر شخصيا أنني أسأت الاختيار حين قررت اختيار التوجه الأدبي في مسار دراستي وتحديدا اختيار التخصص في اللغة العربية وآدابها في المرحلة الجامعية مع أنه عرضت لي اختيارات أخرى في حياتي الدراسية، ولم ألتفت إليها بالرغم مما كان فيها من إغراء ،لأنني تشرّبت حب لغة الضاد على أيدي فضلاء كرام حبّبوها إليّ حب العشق والهيام .

وخطرت لي فكرة تسجيل كلمة إكبار وتقدير وإجلال واعتراف بجميلهم وفضلهم  ، ومع أن هذه الفكرة لم تفارقني أبدا إلا أن حديثا دار بيني وبين أحد الفضلاء بخصوص أحد من كان لهم علي فضل في حب العربية ،وهو الأستاذ الفاضل المحترم السيد محمد الفكيكي أستاذ ومفتش اللغة العربية بمدينة وجدة  خصوصا ،وبالجهة الشرقية عموما كان سببا في إقدامي على كتابة هذا المقال .

ولقد استعرضت ذاكرتي  كل الذين حببوا إلى لغة الضاد أمواتا وأحياء ، فحضرني أولهم وهو شيخ الكتاب الفقيه الفاضل سيدي محمد الداودي رحمه الله تعالى  الذي علمني الحروف الهجائية ، وحفظت على يديه أحزابا من كتاب الله عز وجل ، والتحقت أول مرة بالمدرسة ،وفي جعبتي ما علمني، فلم أجد  بعد ذلك أبدا صعوبة في تعلم اللغة العربية من التعليم الابتدائي حتى التعليم العالي .

 وحضرني بعد ذلك معلم  القسم الأول الابتدائي السيد الفاضل العلمي، ولعله بحكم سنه يكون قد رحل إلى الدار الآخرة عليه رحمة رب العالمين ،وقد كان رجلا مهيبا ،وبفضله ميزت بين لغة القرآن الكريم ، ولغة الكتاب المدرسي ، فبينما كنت أشعر بهيبة الأولى وقدسيتها كنت أجد الثانية مسلية وممتعة .

وحضرني بعد ذلك المعلم الفاضل السيد منصور المامون حفظه الله ورعاه والذي كان سببا في اتقاني الإنشاء بلغة الضاد ، وحبّب إلي القراءة الشفهية في الفصل والتي كنت ألح إلحاحا على ممارستها والتنافس  في ذلك مع زملائي أشد التنافس لأنه كان يبدي ارتياحا لقراءة المجيدين ، الشيء الذي حبّب إلينا لغتنا الجميلة.

وحضرني بعد ذلك المعلم الفاضل السيد ميلود لكرد أطال الله عمره الذي طوّع لي قواعد اللغة العربية تطويعا وعبّد لي طريقها، فلم أتعثر فيها طيلة مشواري الدراسي لأنه أحسن وضعها في ذاكرتي ، وجعلني أصول وأجول بها على الأقران ، فجزاه الله عني كل خير.

وحضرني بعد ذلك الأستاذ الفاضل المبجل السيد تازغين  رحمه الله تعالى الذي علّمني كيف تكون الذاكرة اللاقطة وحبّب إلى الحفظ والاستظهار، فكنت أتلقف النصوص من فمه في الفصل وأعيدها عليه ، وكان رحمه الله يطرب لذلك طربا كبيرا، فاللهم جدد عليه الرحمات ما تعاقب الليل والنهار .

وحضرني بعد ذلك الأستاذ الفاضل المحترم السيد مصطفى قريش  أطال الله عمره ، والذي بجّحني ،فبجحت إلي نفسي حين كان يثني على ما كنت أنجزه من فروض في اللغة العربية متفوقا على الأقران، وأكسبني ثقة لا مثيل لها في النفس.

وحضرني بعد ذلك الأستاذ الفاضل الكريم السيد محمد رحمون حفظه الله ، والذي علمني التأنق في التعبير كتابة ومشافهة ، وكان يشرفني بقراءة مواضيعي الإنشائية أمام زملائي في القسم ، وكنت أتشوق إلى تلك اللحظة وكأنني بطل من الأبطال الذين  يعلون منصة التكريم .

وحضرني بعد ذلك الأستاذ الفاضل المحترم السيد عبد القادر مشخاشخ  أطال الله عمره ، والذي انتقل بعد  مهمة التدريس إلى ممارسة المحاماة ، وقد علمني فن النقد وفن المرافعة في الحكم على النصوص الأدبية ، وربط صلتي بعباقرة الشعر العربي القدماء والمحدثين .

وحضرني بعد ذلك الأستاذ الفاضل المحترم السيد محمد الملاح  حفظه الله ، والذي مارس التدريس ثم التأطير والمراقبة  بعد ذلك ،وقد حبب إلي مطالعة الكتب، وكان يجود عليّ بها ،ويشجعني على كتابة تقارير وعروض عنها بعد قراءتها ، علما بأنني لم أكن أقرأ مؤلفا كاملا من قبل  لضيق ذات اليد . وكنت شديد الإعجاب بتأنقه في الحديث باللسان العربي ، وكانت نفسي تلّح  علي ّفي الحذو حذوه ، ووقر في نفسي أن اللسان العربي لا يمارس إلا بتأنق كتأنق الأستاذ  الفاضل الملاح .

وحضرني بعد ذلك الأستاذ الفاضل الوقور السيد محمد الفكيكي  أطال الله عمره ،والذي علمني فن الجدل في تحليل النصوص الأدبية حيث كانت  الحصص الدراسية معه عبارة عن سجال بين المتعلمين حيث يحاول كل منهم أن بفحم غيره بالأدلة الدامغة على سداد رأيه وصواب تحليله . وتعلمت من السيد الفكيكي الواقعية في العمل، والتنظيم والتخطيط بتقديم الأهم على المهم، والخروج دائما بنتيجة  إجرائية ملموسة  فيها فائدة ، وما كان يرضيه أبد أن ينتهي السجال أو النقاش بين يديه  إلى لا شيء يفيد . وتعلمت منه الجرأة والشجاعة على الإفصاح عن الرأي دون تردد ، وبأدب وتواضع .

وحضرني بعد ذلك الأستاذ الفاضل الكريم السيد موسى جفال المومني وأرجو أن يكون على قيد الحياة ، وهو من القطر الأردني الشقيق كان مدرسا لمادة الفلسفة ، وقد استهوتني لغته  العربية المشرقية الجميلة، وزادتني حبا في لغة القرآن الكريم . وقد تعلمت منه الشيء الكثير ، وكان بالنسبة لي الأب الروحي الذي أخذ بيدي لولوج عالم القرآن الكريم فهما وتدبرا ، وله بعد الله عز وجل الفضل في هدايتي وكانت يومئذ تتقاذفني أمواج تيارات فكرية أحمد الله عز وجل أنها لم تجرفني .

وحضرني بعد ذلك فضيلة الأستاذ العلامة الدكتور السيد الشاهد البوشيخي  حفظه الله وأطال عمره الذي تعهد ما بذره الأستاذ الفاضل موسى جفال في نفسي من خير . وقد تعلمت منه الشيء الكثير ، تعلمت منه فن النقد المنهجي ، واستهوتني  كثيرا طريقته الرائعة في المحاضرة  ،لأنه كان  يضع الكلمات حيث يجب أن توضع مستلهما في ذلك  أسلوب القرآن الكريم ومستشهدا به  في كل وقت وحين، ووقر في نفسي أن المتكلم باللسان العربي لا مندوحة له عن الاستشهاد بكلام الله الذي أعطى هذا اللسان روعته، وهو بمثابة الملح من الطهام ، وقد تعلمت منه فن البحث العلمي حين أشرف على  أول بحث أنجزته في نهاية السنة الرابعة من دراستي الجامعية .وتعلمت منه الرصانة والتدقيق تفكيرا وتعبيرا . ولو استرسلت في الثناء على هذا العلامة  الجليل لما وفيته حقه ناظما  كنت أو ناثرا.

وحضرني بعد ذلك فضيلة العلامة الدكتور عبد الله الطيب المجذوب السوداني  تغمده الله عز وجل بواسع رحمته ، فذهلت لغزارة علمه ، وقوة ذاكرته ، وكنت أراه مكتبة زاخرة متحركة ، وما عرفت معنى الموسوعي حتى سمعته يحاضر، فيتحف من يستمع إليه بشتى فنون المعارف على طريقة علماء السلف . وكان رحمه الله هو من حبب إلي معاشرة كتب التراث ، وفتح لي آفاقا لم يسبق لي ارتيادها من قبل ، وجعلني أعشق الشعر العربي القديم عشق الواله  . ولقد فتنت بعلمه وحفظه وصار مثلي الأعلى ، وما أظن أن هذا العصر عرف مثله وعليه يصدق قول المتنبي : "ومن قصر البحر استقلّ السواقيا ". ولا زال كتابه المرشد يلازمني على الدوام وقد أفدت منه كثيرا طالبا ومدرسا ومفتشا .

وحضرني بعد ذلك فضيلة الأستاذ العلامة الدكتور السيد عبد السلام الهراس رحمه الله تعالى ، والذي كان أبا ومربيا قبل أن يكون أستاذا محاضرا ، وإليه يرجع الفضل في عشقي الأدب الإسلامي الأندلسي حيث كان يجول بنا في حدائق الشعر الأندلسي المستلهمة لحدائق الفردوس المفقود التي كانت مصدر إلهام الشعراء حينئذ . ومنه رحمه الله تعلمت الجرأة في قول الحق في وجه من لا يقبلون به . ولقد كانت سيرته العلمية مغرية أتشوق إلى حديثه عنها وعمن عاصر من كبار المفكرين . وإذا كان غيره يتحدث عن كتب الرجال، فإنه كان يتحدث عن مجالستهم ومحاورتهم . ولقد كان رحمه الله عالما مغربيا أصيلا . وقد استمرت صلتي به طويلا حيث كنت أتابع بشغف وإعجاب كبيرين عموده على الصفحة الأخيرة من مجلة المحجة الغراء . وأنى لي أن أوفيه حقه شكرا وتنويها وهو من هو علما وورعا ؟

وحضرني بعد ذلك فضيلة الأستاذ الدكتور السيد محمد الكتاني أطال الله عمره ومتعه بالصحة والعافية ،والذي عرفت معنى النهضة الأدبية العربية من خلال محاضراته الشيقة عن المدارس والاتجاهات الأدبية العربية ،ومنه تعلمت أنها لم تكن مجرد تقليد للمدارس الغربية بل كانت أصيلة بكبار أدبائها . وهو الذي حبب إلي أمير الشعراء وكان كثير الثناء عليه ، وحبب إلي أدباء المهجر. وكانت لغته العربية أنيقة وهو يحاضر وأنيقة وهو يؤلف . ولن أوفيه حقه ثناء لعظيم فضله علي .

وحضرني بعد ذلك فضيلة الأستاذ الدكتور  السيد الخمار الكنوني رحمه الله تعالى ،وهو الأديب والشاعر الذي تعلمت منه كيف يتذوق الشعر المعاصر ، وكانت محاضراته شيقة للغاية ،وقيمة مضافة لما اكتشفته من أدب وشعر القدماء . وما أجمل أن يتعلم المرء النقد من شاعر كبير في حجم المرحوم الكنوني الذي كان حديثه عن الشعر حديث خبير متمرس . ولقد كان مهيب الجانب مع دماثة خلق .

وحضرني بعد ذلك فضيلة الأستاذ الدكتور السيد محمد السرغيني  أطال الله عمره ومتعه بالصحة والعافية الذي كان يخوض بنا آفاق الآداب الغربية ، ولا تخلو محاضرة من محاضراته من إحالتنا على مؤلفات فكرية وأدبية غربية . ولقد كان سببا في إقبالي على عالم الأدب الحديث الذي كان فنه المفضل . ومع اشتغاله بالأدب الحديث كان ذا ثقافة عربية أصيلة تحضره بين الحين والآخر وهو يحاضر ، ومنه تعلمت أن الفكر الإنساني لا تحده الحدود الجغرافية ، ولا يفرق بينه تراخي الزمن حيث كان يكشف لنا عن صلات القدماء بالمحدثين والمعاصرين ، ويربط بينهم ربط خبير .

وحضرني بعد ذلك فضيلة الأستاذ السيد عبد القادر زمامة أطال الله عمره الذي اكتشفت بسببه روائع الشعر المغربي ، وما كنت أعرف ذلك من قبل . وكان يتغنى بتلك الروائع ويتحدى بها روائع الشعر المشرقي ، ويحثنا على حفظها . وعنه تعلمت عشق النسيب في شعرنا المغربي الأصيل . ولقد كان موسوعيا تزخر محاضراته بفنون الحديث وروائعه . وكان كثير المرح شديد الغضب إذا استغضب وسمحا إذا ما سكت عنه الغضب  .

وحضرني بعد ذلك فضيلة الأستاذ الدكتور إبراهيم السولامي أطال الله عمره ،وكان نموذجا في الجدية راسخ القدم في العلم ، قوي الحجة ، شيق الحديث وهو يحاضر . وكنت أترقب مداخلاته الممتعة  وهو يناقش الأطروحات بأسلوبه المتميز، والرصين، والممتع ،والشيق  بدعابته ، وكان سمحا مع ما يبدو عليه من صرامة  .

وحضرني بعد ذلك  فضيلة الأستاذ الدكتور السيد فخر الدين قباوة وأسأل الله تعالى أن يكون بخير وقد دمرت الحرب بلده الشام الغالي. لقد كان عالم لغة فذ علمني حب نحو وصرف لغة الضاد ، وكان شديد الغيرة على هذه اللغة لا تضاهيها غيرة . وكان محققا كبيرا يقتحم آفاق التحقيق الصعبة  ، و يركب مراكبه الشاقة ، وقد قرب منا  فهم أمهات المؤلفات بتحقيقه الرصين الشيق . ولا أجد ما أثني به عليه سوى الدعاء الصالح له ، وإن ثوابه عند الله عز وجل .

وحضرني بعد ذلك فضيلة الأستاذ الدكتور حسن لمنيعي أطال الله عمره الذي تعلمت منه معنى المسرح ،وكيف نشأ مسرحنا العربي نشأة لها جذور في ثقافتنا العربية ، وأنه لم يكن عالة على غيره . ومنه عرفت الكثير عن المسرح الغربي أيضا ،وعن مدارسه واتجاهاته ،وهو بذلك خبير . ونظرا لتواضعه كان الطلبة يحفون به بعد نهاية محاضراته ويبادلهم الحديث رافعا الكلفة بينه وبينهم .

وحضرني بعد ذلك  فضيلة الأستاذ الدكتور السيد محمد العلمي أطال الله عمره ،والذي وصفه العلامة الدكتور أمجد الطرابلسي رحمه الله تعالى بمجنون العروض ، فله الفضل الكبير في إقبالي على علم العروض والوله به، وكان مفتاحا لولوجي عوالم الشعراء ووسيلة لفهم أشعارهم من خلال إيقاعاتها .

وحضرني بعد ذلك فضيلة الأستاذ الدكتور محمد الشاد أطال الله عمره الذي حبب إلي ألفية ابن مالك  في النحو، وكان يتقنها حفظا وشرحا ، وله  الفضل في ربط صلتي الوثيقة  بمؤلف شرح ابن عقيل الذي كان أول كتاب اقتنيته في السنة الأولى من التعليم العالي ، والذي صاحبني بعد تخرجي وممارستي للتدريس بشعبة التعليم الأصيل ، وكان الأستاذ الشاد قدوتي  في تدريس ألفية ابن مالك .

وحضرني بعد ذلك  فضيلة الأستاذ الدكتور محمد المومني أطال الله عمره الذي حبّب إلي خصائص ابن جني ، وكان يبدع إبداعا في شرحه والكشف عن عبقرية صاحبه في الاشتقاق، الشيء الذي حفزني على اقتني هذا المؤلف  لأجعله من  أعز المؤلفات الأنيسة في الوحدة .

هؤلاء الفضلاء  وغيرهم ممن لم أذك غير عاق ولا منكر فضلهم ، وأنا ألمس منهم العفو والمعذرة إليهم يرجع الفضل بعد الله عز وجل في عشقي للسان العربي المبين ، وكل واحد منهم أسدى إلي معروفا سيطوقني ما حييت ، ولا أقوى على شكره ، فالله عز وجل وحده المعول عليه في أن يجازيهم عنّي كل خير ، وأسأله سبحانه الرحمة لهم جميعا يوم العرض عليه .

وسوم: العدد 791