في حِمى الخرافة
حين يتوارى العقل تنتشي الخرافة ويُعربد الوهم. كيف لا وعِقالُهما العقل؟ قد يغدو العقل متواريا خجولا تَقتُله الحيرة ويَعتصره القلق. فيكون عليه أن يُسلّم بما لا يَفهم، ويعمل بما لم يَعلم، وأن يرى ولا يُفسِّر، ويُحدِّق ولا يُعلِّل. وذلك كمالُ الإيمان وتمامُ التسليم عند أقوام. تتدثر الخرافة بإهاب من التدين، وقد يُعلَّل التسليمُ بتسامي الروح وارتقاء مدارج العرفان. أليس للعقل عقال؟ تلك حدود العقل وذلك مبلغه ! كذلك يزعمون. وحين تُنيخ الخرافةُ العقلَ تُباغته سكرات الموت. فإذا ما بزغ وميضُ التعقل سأل العقلُ المحتضَر: أأنا المكرَّم؟ ويحي، ما لي كالبهيمة؟ ألستُ مناط التكليف؟ ينتابه الرَّيب: محالٌ أن يغرق المكرّم في حَمْأة الجهالة. أليس بالعقل يكون الإنسان إنسانا؟ فإنْ هو ذهب عقلُه لم يَفضُل العجماءَ بشيء، وكان كخشاش الأرض أو أحقر. لكنّ المناوئين يقولون: رُبّ أمر لا يمكن تعليله، وليس للعقل قوةُ الاطلاع على سرّه، فلا يُدفع أمرٌ لا يُعقل معناه. ولا فرق عندهم بين ما لا يُعقل معناه ولا عملَ يترتّب عليه ولا حُكم، وما لا يُعقل معناه ولا ينفك عن شؤون الناس وأعمالهم وأحكامهم ومعاشهم!
أذكر أني خرجت ذات ليلة برفقة ابني نتأمل نجوم السماء ونتحيّن وميض الشهب. فلقيَني أحد الأصحاب فقال: أنزهةٌ بالليل؟ أما علمتَ أنه لا خروج للصِّبية بعد العِشاء؟ قلت: وما الضير في ذلك؟ قال: ألا تخشى عليه أم الصبيان؟ قلت: ومتى يجوز للصبيّ أن يَشْهد خسوف القمر؟ حادَثتُه قليلا ثم ودّعته وأنا أغمغم: أهذا مُدرّس فيزياء حقا؟ وكأيّنْ مِن نُصحٍ يحذّرني العَين، وينبّهني أن أتحرّزَ ألا تصيب الأولاد. وليت شعري كيف أفعل ذلك؟ أليس الحافظ هو الله؟ وأنّى لي أن أَميزَ العائن من غير العائن؟ أيدرَك ذلك بالفراسة؟ أهو علم يُتعلّم؟ بل ما حقيقة العين ابتداء؟ ومَن ذا بوُسعه أن يجزم أن ما أصاب زيدا عَين؟ وأن ما نزل بعمرو حسدُ حاسد؟ تلك أمور لو صحّت لكان علمها عند الله. وليس لأحد أن يفسّر شيئا من أحوال الخلق بما لا قِبَل للناس بإدراكه، ولا أحد معه شيء من الوحي ينير له حقيقة الأمر. ولأنّ العَين كذلك فهي في حُكم المعدوم. لكن قوما زعموا أنّ لهم بصرًا بالعين، ومتى تُصيب وتميت ومتى تؤذي وتفعل وتفعل، حتى إنهم دعوْا إلى ستر محاسن من يُخشى عليه العين. فلا غروَ أن نحارب الجمال والوسامة، ونطلب القبح والدمامة! سيكون علينا والحال هذه أن نُخفيَ كل جميل من الطيور والإنس والحيوان والنبات والجماد، فلا تظهر غير البشاعة. سيقولون لك: "العين حق"، وحين تسألهم عن معنى ذلك تهيم الشروح وتتيه التأويلات، وتَكثر صيغُ التمريض والفِعل الذي لم يُسمّ فاعله. وفي الأحوال كلها لا يأتيك الجواب إلا على استحياء. وليس ثمة غير التخمين والرجم بالغيب. فأيّ شيء يستفاد من تخمين وحسبان؟ وأي حكم يُنى على ذلك؟ سألت أحد المتفقهين: ماذا لو أن عائنا أصاب رجلا بأذى؟ أيُقتصّ منه؟ أفي ذلك حدّ أو تعزير؟ قال: لا، وإنما يُستتاب العائن ويغتسل للمعين. قلت: فماذا لو كرّر فعلته وأصاب الرجلَ بمكروه؟ قال: يجوز أن يُحبس في بيته ويُضمَن رزقُه خشيةَ أذيّته للناس. قلت: فكلُّ عاطل يصير عائنا إذن! لكن بأيّ قرينة يُتّهم العائن وما صدر عنه قول أو فعل؟ وماذا لو أن جمعا من العائنين تبارزوا بالعين فقتل بعضهم بعضا، وجُرِحَ مَن جُرح، وسُملت أعينٌ وقُطعت أيدٍ وأرجل؟ أفي ذلك قصاص أو دية؟ فإنه إن لم يكن في ذلك قصاص ذهبت هذه الأرواح والدماء هدرا. قال: من قَتل أحدا بعينه عامدا قُتل به. قلت: وأنّى لنا أن نعرف إن كان عن عمد أو عن غير عمد؟ أطْرقَ متأملا فسألته: لكن قلْ لي على أيّ أصل بنى هؤلاء الفقهاء جوازَ حبس العائن؟ أفي ذلك قرآن أو سنة صحيحة؟ قال: قاسوا ذلك على منع رسول الله (ص) آكلَ الثوم من إتيان المسجد حتى لا يؤذي المصلينَ برائحته، فالعائن أوْلى أن يَلزم بيته. ولقد منع عمر بن الخطاب المجذومَ من الاختلاط بالناس خشيةَ العدوى. قلت: إن الثوم والجذام أمور حسية مدرَكة منضبطة، والعين معنوية غير مدرَكة ولا منضبطة، فكيف قاسوا ما لا ينضبط على ما ينضبط؟ ثم إن رائحة الثوم تزول والمجذوم قد يبرأ أو يموت فما نفعل بالعائن؟ أيبقى حبيس بيته أبد الدهر؟ فما أحارَ الفقيهُ إليّ جوابا لكنه قال: فذلك الذي وجدناه في أسفار العلماء. قلت: أرأيت لو أن طبيبا حاذقا أخطأ خطأ فادحا وهو يُجري عملية جراحية يسيرة لمريض، فأدى الخطأ إلى موت المريض، فالتجأ أهل الميت إلى القضاء يطلبون كشف الحقيقة ومعاقبة الطبيب. لكنّ دفاعَ الطبيب زعم أن الخطأ نتيجةُ عين. وجاء بشهود إثبات من الممرضين والأطباء يشهدون أن زيدًا الطبيبَ هو من أصابه بعينِه، فهما من الأقران وكفَرَسيْ رهان وبينهما تنافس وتحاسد. فما عسى القاضي يفعل؟ أتُراه يقبل شهادة الشهود وتكون حُجةُ العين عنده معتبَرة؟ وماذا لو حكمَ ببراءة الطبيب الحاذق وأدان الطبيب العائن؟ ثم قلت للمتفقّه: يا هذا، لو كانت هذه حقيقةُ العين لضاع الحق واختلط الحابل بالنابل، ولقُطعت أرحام، ولفسدت ذاتُ البين، وساد البُغض والضغينة. فمَن ذا يصلُ رَحِما أو يزور عائنا مِن عينِه تنبعث سِهامُ الشرّ كله؟ ومَن ذا يُطيق روحا خبيثة تزيل النعمة عن صاحبها؟ وما ذنبُ عائن بغير إرادته؟ كيف يَغرَم ما أتلفَه بعينه إن كان يَعين وهو لا يقصد إلا استحسانا؟ ما جريرتُه ولا تكاد عينُه تنظر إلى سقف أعجبَه إلا خرّ على أصحابه، ولا استلذّ طعاما إلا أحدث للطاعمِ غصّة؟ وماذا لو أن العائنَ أصاب نفسَه بعينِه فقتلها؟ أيكون ذلك قتلا للنفس كمن يتردّى من شاهق؟ ألا ترى والحال هذه أننا أُحوِجنا إلى استحداث "قضاء للعين" على شاكلة "قضاء الأسرة"، وأنه لا مناص من قُضاة خبراء في هذا الباب؟!
وحين تعجز العينُ عن موافقةِ عالَمِ الطبيعة وتفسير أحوال العباد يُنتدَب السحرُ لهذه المهمة الجليلة. سيُسوِّغ السحرُ الفشل، ويُنظِّر للعجز والكسل، ويَشرح التيه والضلال، ومصائب الناس وبَلاياهم. جادلني جارٌ لي يُصرّ على أن للسحر حقيقة فقال: أما سمعتَ عن سَحرة فرعون وسحرهم العظيم؟ قلت: وماذا كان مصيرهم؟ قال: قُطِّعت أيديهم وأرجلُهم من خلاف ثم صُلِّبوا. قلت: فأين كان سحرُهم العظيم؟ وأيّ سحرٍ هذا الذي لا يُيسّر لهم الفرار إن لم يسعفهم على التنكيل بفرعون وجعله عبرة لمن يعتبر؟ ما هذا العجز والهوان مع شدّةِ القطع والمبالغة في الصلب؟ لقد كان فرعون أوعى منا وأعقل إذْ لم يؤمن بسحرهم وأيقن أنه محض تخييل، فنكّلَ بهم وهو يعلم ألا قدرة لهم على خرق نواميس الكون. قال الجار: وما تقول في تسخير الجن؟ أوليس يسلّطُ السحرةُ الجنَّ على بعض الناس فيتلبّسون بهم؟ قلت: وكيف يتلبّسون بهم ويؤذونهم وهم أضعف من الإنس؟ قال: ومن أين لك أنهم أضعف منهم؟ قلت: أوَما قرأت قوله تعالى: "إن كيدَ الشيطانِ كان ضعيفا"؟ لكنه تعالى قال عن الإنس: "وإنْ كانَ مكرُهم لتزولَ منهُ الجِبال". قال: وأنت أمَا قرأت أن الشيطان يوسوس في صدور الناس؟ قلت: فمِن أين لك أن الشيطان يملك شيئا آخر غير الوسوسة؟ أوليس قال عز وجل: "إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون". بل إنه لا سلطان له حتى على الكافرين، وإنما يستجيب الكافر للشيطان مختارا مريدا، لا مجبَرا مُكرَها. واسمع الشيطان يقول: "وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي. فلا تلوموني ولومُوا أنفسكم"، فهذا اعترافُه والاعتراف سيد الأدلة. ثم قلت لجاري: دَعْك من هذا وقل لي، لو كان للعين والحسد والسحر أثر في دنيا الناس وحقيقة، فلمَ لا نُسلّط أمهر العائنين عندنا على بني صهيون؟ لمَ لا نُسقط صواريخهم بالعين والحسد؟ ولمَ لا نَعكس وِجهتها فتقع في تل أبيب بدل أن تدُكّ غزة؟ ولمَ لا نضرب بسهام أعيننا لاعِبي كرة القدم فنجعلهم أضحوكة العالمين، ثم نفوز بكأس العالم؟ ولمَ لا نحرّر الأقصى بشيء من السحر والتمائم والطلاسم؟ وما يمنعنا أن نكلّف سَحرتَنا أن يُسخّروا جِنّهم أن يُنزلوا بأمريكا البلاء المبين؟ بل ما بال أكثرِ السحرة عالةً يتكفّفون الناس مقابلَ تغرير ودجل؟ ما لهم لا يَسطون على البنوك بسحرهم؟ كم بالحريّ أن تتأمل ثم تسأل: لو كانت هذه العقائد تصحّ فعلامَ وضع الله السنن في كونه؟ ولأيّ شيء أمَر الإنسانَ باتخاذ الأسباب؟ ألَا فاعلمْ أن العقائد الباطلة لا تُنهض أمة! ومادام في الدنيا مغفل فالمحتال بخير. والاحتيال ضروب وفنون، وكذلك المغفلون أصناف وأجناس. ولئن تكاثرت صنوف الغفلة فإنها إلى أصل واحد ترجع، ذلك هو أفولُ العقل.
قد تساورُك الشكوك أحيانا فتسأل: أيّ عصر هذا؟ وأيّ عقل؟ وأيّ فهم؟ جارُنا العزيز مسحور، وابن خالتنا قتلتْه العَين، وثريُّ البلدة أذهبَ الحسدُ نعمتَه. وأقوام احترفوا "العلاج بالقرآن"، وآخرون زعموا تفسير الأحلام، وطائفة من الكسالى والمحتالين اكتشفوا مهنة "الراقي الشرعي"، والجن لا يكفّون عن غزوات التّلبُّس والبحث عن سكن، وهذا يوم نحس، وفلان يُتطيّر منه، وهلمّ خرافات ودجلا. وصدق الله تعالى: "وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون". ثم تسأل: وأين العدل الإلهي؟ أين " كلّ نفس بما كسبت رهينة"؟ أليس من الإيمان الاعتقادُ الجازم ألا سلطان لأحد على أحد؟ أليس للإنسان ما كسب وعليه ما اكتسب؟ أمَا من عدل الله أنه لا تزر وازرة وزر أخرى وأنه ليس للإنسان إلا ما سعى؟ ألم يقل سبحانه "وقل اعملوا"؟ أمَا كان أوّل ما نزل من القرآن "اقرأ"؟ أليس العمل والقراءة إعمالا لأسباب الفلاح؟ فما بال أقوام ابتُلوا بالدجل؟ غريبٌ أمرُ أمة أُمِرت بالقراءة والعمل فإذا هي تغرق في أوحال الجهالة والكسل.
لكنّ نسائم الحق تنزل على قلبك بردا وسلاما، فتوقِن أن كل ما خرج عن عالم الأسباب المدرَكة وليس للإنسان قوةُ التصرف فيه فلا أثر له في دنيا الناس، ولا بنو آدم مكلفون بفهمه أو تسخيره، ذلك أنه لا تكليف بما لا يطاق. أما غيرُ ذلك فهو إبطالٌ لسنن الله في خلقه، وتعطيلٌ لموازين الكون، ونقضٌ لخواصّ الطبيعة وقوانينها، ونفيٌ للسببية التي تمنع من شاء أن يدّعيَ ما شاء، وتُلزم المدعيَّ بالبينة، وتُبطل إفك الأفاكين، وتُفحم القائلين بلا دليل، وتُثبت عدل الله أنْ جعل الناس سواسية إزاء سننه الكونية، وتُجلّي رحمته أنْ جعل في الكون موازين القسط.
وسوم: العدد 796