الدولة السورية.. المارقة
بدأ استخدام مصطلح الدولة المارقة (Rogue state) أو الدولة الخارجة عن القانون للدول التي يعتبرونها تهديدًا لسلام العالم. ووفق المعايير التي وضعها بعض المنظرين، فإن الدولة التي تحكمها الحكومات الاستبدادية، وتقيد بشدة حقوق الإنسان، وترعى الإرهاب، وتسعى إلى نشر أسلحة الدمار الشامل، تصبح دولة مارقة. استخدم المصطلح بكثرة في الولايات المتحدة (على الرغم من أن وزارة الخارجية الأميركية توقفت رسميا عن استخدام المصطلح في العام 2000)، لكن الرئيس دونالد ترامب، في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2017، أكد هذه العبارة، عند إشارته إلى إيران.
ما تعتني به هذه المقالة أن الدولة المارقة، بمعنى من المعاني، تعادي القرارات الدولية وتتحدّاها، وأحيانا تستهين بها عبر فعل العكس تماماً لمضمون القرارات الدولية، فمنذ بداية الثورة السورية وقرارات مجلس حقوق الإنسان وقرارات مجلس الأمن الدولي، تطالب الحكومة السورية بكثير من المطالب السياسية والحقوقية، لكن النظام السوري كان دوما يتجاهلها ويتحدّاها. فمع استمرار الحكومة السورية في قمعها المتظاهرين السلميين، وقيامها بعمليات تعذيب وقتل خارج نطاق القضاء على نطاق واسع، صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة مرة أخرى في 3 أغسطس/ آب 2012 بأغلبية 133 صوتاً أيضا على القرار 66/253، والذي دان بشدة "استخدام السلطات السورية المتزايد الأسلحة الثقيلة، بما في ذلك القصف العشوائي من الدبابات وطائرات الهليكوبتر، في المراكز السكانية، وعدم سحب قواتها وأسلحتها الثقيلة إلى ثكناتها، الأمر الذي يتعارض والفقرة 2 من قرار مجلس الأمن 2042 (2012) والفقرة 2 من قرار المجلس 2043 (2012)"؛ حيث بدءا من يوليو/ تموز 2012، بدأ نظام الأسد باستخدام سلاح الجو والطائرات العمودية وطائرات الهليكوبتر في إسقاط البراميل المتفجرة على المدنيين في تحدٍّ للقرار الدولي.
وعندما دان القرار "مواصلة السلطات السورية والمليشيات الموالية للحكومة انتهاك حقوق
"العنف الذي مارسه الأسد كان، في جزءٍ منه، ردا على لامبالاة الغرب"
الإنسان والحريات الأساسية بشكل خطير منهجي واسع النطاق، من قبيل استخدام القوة ضد المدنيين والمذابح وعمليات الإعدام التعسفي وقتل المتظاهرين والمدافعين عن حقوق الإنسان والصحافيين واضطهادهم، والاحتجاز التعسفي والاختفاء القسري والحيلولة دون الحصول على العلاج الطبي والتعذيب والعنف الجنسي وسوء معاملة الأشخاص، بمن فيهم الأطفال، وأي انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان ترتكبها جماعات المعارضة المسلحة"؛ في أول إشارةٍ إلى انتهاكات حقوق الإنسان من المعارضة السورية، لكن الطريف، أو المؤلم في الموضوع، أن القرار نفسه طالب في فقرته السابعة "السلطات السورية بأن تتقيد تقيدا تاما بالتزاماتها بموجب القانون الدولي، في ما يتعلق بالأسلحة الكيميائية والبيولوجية، بما في ذلك قرار مجلس الأمن 1540 (2004) المؤرخ 28 نيسان/إبريل 2004، وبروتوكول حظر الاستعمال الحربي للغازات الخانقة أو السامة، أو ما شابهها، وللوسائل البكتريولوجية الذي تم التوقيع عليه في جنيف في 17 يونيو/ حزيران 1925، وتطالب السلطات السورية كذلك بالامتناع عن استخدام أي أسلحة كيميائية، أو بيولوجية، أو ما يتصل بها من مواد أو نقلها إلى جهات فاعلة من غير الدول والوفاء بالتزاماتها بحصر جميع الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، وما يتصل بها من مواد وتأمينها"؛ لكن نظام الأسد، وفي استخدام السلاح الكيميائي ضد المدنيين في الغوطة الشرقية، في أقل من عام من صدور القرار. وفي أغسطس/ آب 2013، بما يعكس باستمرار استهتار نظام الأسد بالقرارات الدولية، لا سيما المتعلقة منها بحقوق الإنسان.
أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد ذلك القرار 68/182 بتاريخ 18 ديسمبر/ كانون الأول 2013، والذي انتقل إلى مرحلة جديدة في إدانة نظام الأسد "استخدام الأسلحة الكيميائية الذي يحظره القانون الدولي، ويشكل جريمة خطيرة، وله أثر مدمر في المدنيين، وخصوصا المذبحة التي وقعت في غوطة دمشق، وتشير في هذا الصدد إلى التقرير المؤرخ 16 سبتمبر/ أيلول 2013 الذي أعدته بعثة الأمم المتحدة للتحقيق في مزاعم استخدام الأسلحة الكيميائية في الجمهورية العربية السورية، الذي يقدّم أدلة واضحة على أن صواريخ سطح - سطح قد أطلقت في 21 أغسطس/ آب من الأراضي الواقعة تحت سيطرة الحكومة على مناطق المعارضة، باستخدام ذخائر مصنوعة بصورة احترافية، وتحتوي على غاز السارين"؛ وفصل في فقرته الثانية أنواع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها النظام السوري بحق المدنيين، حيث "استمرار الانتهاكات الجسيمة والمنهجية والواسعة النطاق لحقوق الإنسان والحريات الأساسية وجميع انتهاكات القانون الدولي الإنساني من جانب السلطات السورية ومليشيات الشبيحة المرتبطة بالحكومة، بما في ذلك التي تنطوي على استخدام الأسلحة الثقيلة والقصف الجوي والذخائر العنقودية والقذائف التسيارية، وغيرها من أشكال القوة ضد المدنيين، وشن الهجمات على المدارس والمستشفيات وأماكن العبادة، والمذابح وعمليات الإعدام التعسفي، والقتل خارج نطاق القضاء، وقتل واضطهاد المحتجين والمدافعين عن حقوق الإنسان والصحافيين، والاحتجاز التعسفي، والاختفاء القسري، وانتهاكات حقوق المرأة، والتدخل بشكل غير قانوني للحيلولة دون الحصول على العلاج الطبي، وعدم احترام وحماية العاملين في المجال الطبي، والتعذيب، والعنف المنهجي الجنسي والجنساني، بما في ذلك الاغتصاب في أثناء الاحتجاز، وسوء المعاملة"، وهو ما يشكل سابقةً على مستوى الجمعية العامة للأمم المتحدة أن تصدر قراراً بأغلبية 128 دولة، يحمل هذا المستوى من الاتهامات الجسيمة التي يرتكبها نظامٌ سياسي بحق شعبه.
بعدها، استمرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في كل عام تقريبا في إدانة انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها الحكومة السورية بحق المدنيين، كما أصبحت القرارات تتضمن فقراتٍ
"استهتر نظام الأسد بالقرارات الدولية، لا سيما المتعلقة منها بحقوق الإنسان"
تدين الجماعات المسلحة لاستخدامها العنف وانتهاكات حقوق الإنسان، وخصوصا تنظيم الدولة الإسلامية حتى ديسمبر/ كانون الأول 2016، عندما قرّرت الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبسبب فشل مجلس الأمن الدولي، في إحالة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية إلى محكمة الجنايات الدولية، قرّرت تأسيس ما أصبحت تُعرف بالآلية الدولية المحايدة المستقلة (IIIM) للمساعدة في التحقيق والملاحقة القضائية للمسؤولين عن الجرائم الأشد خطورةً، وفق تصنيف القانون الدولي، المرتكبة في الجمهورية العربية السورية منذ مارس/ آذار 2011، والتي تهدف إلى "استقاء وتجميع وحفظ وتحليل الأدلة على انتهاكات القانون الدولي الإنساني وانتهاكات وتجاوزات حقوق الإنسان وإعداد ملفات لتيسير وتسريع السير في إجراءات جنائية نزيهة ومستقلة، وفقا لمعايير القانون الدولي، في المحاكم الوطنية أو الإقليمية أو الدولية التي لها، أو قد ينعقد لها مستقبلاً، الاختصاص بهذه الجرائم وفقا للقانون الدولي".
زاد نظام الأسد مستوى العنف تدريجياً، لكي يتمكّن من تقييم ردود الفعل الدولية على استخدامه القوةَ، وخصوصاً ردود فعل الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الأوروبيين، فمن اللافت قيام النظام السوري بزيادةٍ تدريجية لجرعة العنف، الأمر الذي يَفترض لجوءه إليه لتحاشي تشبيهه، أو رسم تقاطعاتٍ بينه وبين النظام الليبي من الممكن استغلالها لتبرير إنشاء منطقة حظرٍ جوي في الحالة السورية. وبناءً عليه، فقد بدأ النظام باستخدام المدفعية الثقيلة في أثناء حصاره حمص في فبراير/ شباط عام 2012. ولدى فشل ذلك في إثارة أي رد فعلٍ دولي، بدأ بالاعتماد على القوة الجوية، لتخفيف الضغط عن قواته المنهكة، فبدأ أولاً بهجماتٍ محدودةٍ بالمروحيات، ومن ثم تصاعد نحو استخدام الطائرات الحريبة المقاتلة لقصف المناطق التي يسيطر عليها الثوار. ومع عدم حدوث أي رد فعلٍ دولي، تم استخدام قذائف وصواريخ السكود، ففي ديسمبر/ كانون الأول عام 2012، تم استخدامها للمرة الأولى ضد أهدافٍ عسكريةٍ، وَمن ثم تم استخدامها لقصف المناطق السكنية. وتلاها استخدام البراميل المتفجرة، قنابل النابالم والقنابل العنقودية. ومن ثم، توجه النظام نحو استخدام الأسلحة الكيميائية، على نطاقٍ ضيقٍ أولاً، يسمح له بإنكار قيامه باستخدامها، ومن ثم أسرف في استخدامها في منطقة الغوطة، جوار دمشق، في 21 أغسطس/ آب عام 2013. أيضاً.
وهكذا يمكن القول إن العنف الذي مارسه الأسد كان، في جزءٍ منه، ردا على اللامبالاة التي وجدها من الغرب والمجتمع الدولي.
وسوم: العدد 796