فِتْنَةُ المُصْطَلَحَاتِ 3-8
فِتْنَةُ المُصْطَلَحَاتِ .. وَ هَرْطَقَةُ الغُلاةِ -3
(العلمَانيَّةُ الكهنوتيَّة)
كنت وعدتكم أن يكون موضوع هذه الرسالة عن (الحكم الرشيد) ولكن وجدت من الموضوعيَّة أن تكون عن (العلمانيَّة الكهنوتيَّة) لعلاقتها وتزامنها تاريخيَّاً مع مصطلحي (الاشتراكيَّة الماركسيَّة والديمقراطيَّة الليبراليَّة) فماهي قصة العلمانية ..؟ تَولَّدت العلمانيَّة أي الدنيَّويَّة من رحم الظلاميَّة الكهنوتيَّة الكنَسيَّةُ .. حيث أقامت تعاليم الكنيسة المسيحيَّة جدراً منيعة بين النَّاس وشؤون دنياهم ومصالحهم .. وحرَّفت قيم الرسالة المسيحيَّة الربانيَّة الساميَّة.. فشرَّع رجال الدين المسيحي الكهنوتي قيماً دينيَّة ما أنزل الله بها من سلطان.. وذلك لتربيَّة الأجيال على ما ينسجم مع أهوائهم الكهنوتيَّة السلطويَّة المقيتةِ .. وقد وثقَّت دائرة المعارف الفرنسية الكبرى في العلوم والآداب والفنون ذلك .. حيث جمعت ما يزيد عن مائة تعريفٍ للدين مما أصدرتها السلطات الكهنوتيَّة بهذا الشأن .. ونختار لكم اثنين منها وهما:
1. " الدين هو الطريقة التي يحقق بها الإنســان صلاته مع قوى الغيب العلــويَّة ولا علاقة له بشؤون الدنيا".2. " وأن الدين هو ما يشمل على كل معلوم وكل سلطة لا تتفق والعلم".
وواضح من هذا الفهم للدين بأنَّ الكنيسة حصرت الدين بشؤون عالم الغيب, وأنَّه يتصادم مع العلم والبحث العلمي.. فأقامت بذلك جداراً بين الدين والتقدم الحضاري لحياة الناس من حولها.. فجاء الرد الطبيعي والمنطقي بالثورة الصناعية .. وبذلك نفض الغرب عن كاهله هذا الإرث البغيض الذي حبسه عن الحياة وميادين التقدم والارتقاء .. إلاَّ أنَّ السلطة الكهنوتيَّة استدركت على خطيئتها التي عزلتها عن الكثرة من أتباعها.. الذين التحقوا بركب حركة العلم والصناعة ..فأصدر( المجمع المسكوني الكنسي الثاني ) في عام 1965 م قراراً يقول:
" العلمانيون هم جُندٌ مِنْ جُنودِ الكنيسةِ ولكنْ بِوسائل أخرى"
وبذلك أنهت الكنسية الكاثوليكية عزلتها عن أبناء ديانتها وطوت حقبة من الصراع المرير مع قسم كبير من العلمانيين.. إلاَّ أنَّ قسماً آخر من العلمانيين رفضوا التزاوج مع الكنيسة .. لاقتناعهم بأنَّ لا سبيل للتعايش معها ولا بد من المضي في الانفصال عنها.. فنحتوا مصطلح الحداثة وهكذا ظهرت العلمانيَّة بمسمى جديد هو تيار الحداثة الذي أصابه ما أصاب بني جلدته من الخيبة والفشل .. وفي المقابل نحن المسلمين عندما كنّا نفعّل قيم الدين ومقاصد رسالة الإسلام الحياتيَّة.. ونؤكد التلازم والتكامل بين محاريب العبادة الروحية , ومحاريب العبادة العمرانية ..تقدّمنا في ميادين الإبداع والارتقاء .. وعندما تخليَّنا عن هذا التكامل وعطلّنا العلاقة بين الدين والدنيا على غرار ما فعلته الكنيسة الكهنوتية أصابنا ما أصابنا مما لا نُحسد عليه.
فِتْنَةُ المُصْطَلَحَاتِ .. وَ هَرْطَقَةُ الغُلاةِ – 5
(الحُكْمُ الرَشِيدُ – ج2)
في عام 1992م ، تمَّ لقاء في حاضرة الفاتيكان مع فخامة رئيس دولة الفاتيكان ورئيس الكنيسة الكاثوليكيَّة البابا يوحنا بولس الثاني.. وبحضور وفدين كبيرين من المسلمين والمسيحيين قلنا لهم : " نحن ما جئنا لنؤسلمكم ..! ونأمل ألا تحاولوا تنصيرنا ..! إذًا لماذا جئنا ..؟ نحن جئنا لأننا نرى أن المسير البشرية في خطر.. وإسلامنا يأمرنا ويحفزنا لأن نعمل ما يمكن عمله .. من أجل المساهمة في ترشيد المسيرة البشرية لتكون : مسيرة عدل , وأمن , واستقرار , وسلام .. تُجّلُ بها قُدسيَّة حياةِ الإنْسَانِ وكرامتُه وحريَّتُه .. وتُصانُ معها البيئة من الفساد والإفساد .. ويتحقق على أساس منها تعايش آمن بين المجتمعات .. فهل لديكم رغبة للتعاون من أجل تحقيق هذه الغايات النبيلة ..؟ قالوا: نعم. وأردنا بذلك الخطاب التحول بمنهجية الحوار من جدليَّةِ المسائل العقديَّة والخصوصيات الدينيَّة .. إلى آفاق الاهتمام بقيم الكليات الإنسانيَّة العليا وإقامة الحياة وعمارة الأرض.. وقد تمَّ - بفضل الله تعالى – إنجاز قسطٍ كبير بهذا الاتجاه .. ففي عام 2005م أجرينا مراجعة لما أنجز من تفاهم بيننا وبين الفاتيكان.. فوجدنا أنفسنا قد وقعنا على بيانات مشتركة تتضمن الاتفاق على ما يزيد عن 47 سبعة وأربعين مادة في ميادين الحياة ..وعندما اطلع عليها سمو الأمير سعود الفيصل - رحمه الله تعالى - قال:(إنتوا فين مستخبين ..؟ إنَّ مثل هذا الإنجاز يصلح لأن يكون أساساً لميثاق نظام عالمي جديد آمن.. هذا وقد أنجزنا مثل ذلك مع مجلس كنائس الشرق الأوسط برئاسة فخامة البابا شنودة الثالث.. ومع المجلس العالمي البوذيِّ في برئاسة القس سي هاسن.. ومع المجلس الوطني الأمريكي لكنائس المسيح في واشنطن برئاسة الدكتور إدقر ومع المجلس العالمي للكنائس - جنيف.. ومع الكنيسة الأنجيليكانيَّة( كانتر بري) في بريطانيا..والمجلس العالمي الهندوسي- نيودلهي ومركز الفخر الثقافي الروسي-موسكو وغيرها. يتبع في الرسالة القادمة بعون الله.
فِتْنَةُ المُصْطَلَحَاتِ .. وَ هَرْطَقَةُ الغُلاةِ - 6
(الحُكْمُ الرَشِيدُ – ج3)
عقدت الأمم المتحدة في نيويورك القمة الألفية الثالثة العالمية للقيادات الدينيَّة والروحيَّة من أجل السلام العالمي عام 2000م، وجاء في تقريرها عن القمة: أنَّ هذه الألفية تهدف إلى تأكيد : أنَّ للأمم المتحدة والقيادات الدينيَّة رسالة مشتركة، هي العمل على تحسين الظروف البشريَّة،وعلى تحقيق الأمن والسلام لكل النَّاس في العالم، وأنَّ الهدف المباشر من القمَّة أمران:
الأول: أن تُوقِّعَ القياداتُ الدينيَّة بياناً يؤكدون عزمهم الموحَّد من أجل السلام.
الثاني: أنْ تُتخذ الخطوات الأولية لتكوين مجلس استشاري عالمي دائم من القيادات الدينيَّة والروحيَّة في الأمم المتحدة، يكون مصدراً استشارياً للأمين العام وللأمم المتحدة في جهودهم المبذولة من أجل بناء سلام دائم.وتشكلت لجنة عالميَّة تمثل القيادات الدينيَّة والروحيَّة المشاركة في القمة برئاسة الأمين العام المساعد للأمم المتحدة اذاك وكنت أحد أعضائها.. وذلك من أجل وضع تصور لمشروع المجلس الاستشاري العالمي الدائم. ووضعت أفكارٌ أوليَّة على أن تجتمع اللجنة بدعوة من الأمين العام للأمم المتحدة معالي الدكتور كوفي أنان لاستكمال مهمتها.. واللجنة من الناحية الرسميَّة لا تزال معتمدة وتتجدد عضويتها ولكن - للأسف - بدون تجديد نشاطها ومهمتها لِمَ ..؟؟؟ أردت فيما ورد أعلاه وبكلّ ما ذُكر في ج1 وج2 من موضوع (الحكم الرشيد) :أنْ أشير إلى الأجواء الإيجابيَّة التي كانت سائدة في الأوساط الثقافيَّة والدينيَّة والسياسيَّة بشأن التحول بالمسيرة البشريَّة نحو الأفضل.. ولكن وللأسف ظهر مقابل تلك الأجواء الآمنة أجواء مضادة ومخيفة فبرزت مقولتان خطيرتان تهددان كلَّ ذلك وتدمرانه وهما:
· مقولة صراع الحضارات للبروفيسور صامويل هنتنجتون - جامعة هارفرد.· ومقولة نهاية التاريخ للبروفيسور فرانسيس فوكوياما - جامعة هارفرد.
وهكذا وجدت المسيرةُ البشريَّةُ نفسَها أمام خيارات ثقافيَّة متناقضة وخطيرة .. مما ألح بضرورة العمل على تنمية ثقافة قيمِ الحب والمودة والسلام وصناعة الحياة للحيلولة دون استفحال ثقافة الكراهية والعدوان وصناعة الموت.. فبزغ فجر (الحكم الرشيد). فما هي قصة الحكم الرشيد ..؟ .
فِتْنَةُ المُصْطَلَحَاتِ .. وَ هَرْطَقَةُ الغُلاةِ - 7
(الحُكْمُ الرَشِيدُ - ج4)
تحدثت في الرسائل السابقة عن حالة الاضطراب الثقافي والديني في مسيرة التاريخ البشريِّ المعاصر.. وقلت: أنَّ الغربَ بعامة وأوروبَا بشقيّها الغربي والشرقي عانت ولا تزالُ من تطرفيّن مقيتين .. تطرفٌ دينيِّ أراد أنْ يحبسَ النَّاسَ في أروقةِ الكنائس ويحجبَهم عن الحياة..وتطرفٌ علمانيِّ دنيويِّ أراد المفاصلةِ التامةِ بين الدين والحياة.. بل ذهبَ الشقٌ الماركسي من أوروبا إلى أكثرَ من ذلك فقرّر: أن الدينَ أفيون الشعوب .واليوم وفي إطار الحوار الفكريِّ والسياسيِّ، والتحارك والتدافع الحكيم بين أتباعِ الأديانِ والثقافات والحضارات والقوى السياسيَّة الإقليميَّةِ والعالميَّة.. انبثق مع بداية الثمانينات تيارٌ إنسانيٌّ عاقلٌ يعمل جاهداً على وضع حدٍ للتناقض والصراع المقيت بين الدين والدنيا.. وبين الروحي والمادي .. وبين المعبد والسوق في ميادين الحياة.. وبدأ ت الأوساط الدينيَّةِ والثقافيَّةِ والفكريَّةِ والسياسيَّةِ تتحدث عن ( الحكم الرشيد Good Governance ) ليكون بديلاً عن المصطلحات التصنيفيَّة المُفرقة مثل: (العلمانيَّة Secularism)و(الديمقراطيَّة Democracy) و(الاشتراكيَّة socialism) و( الحكم المدنيِّcivil governance ) و( الحكم الدينيِّ Theocracy) وليصبح (الحكم الرشيدGood Governance ) منهجاً عالميَّاً تتكامل في إطاره كل ما تضمنته المصطلحات المشار إليها آنفاً من إيجابيات ولِتُحترم وتُجلُّ مع منهجه :
1. قُدسيَّةُ قيمِ الإيمانِ والعدلِ والأخلاقِ.2. قُدسيَّةُ حياةِ الإنْسَانِ.3. قُدسيَّةُ كرامةِ الإنْسَانِ.4. قُدسيَّةُ حُريَّةِ الإنْسَانِ.5. قُدسيَّةُ مصالحِ الإنْسَانِ.6. قُدسيَّةُ رسالةِ المرأةِ في الحيَاةِ.7. سلامةُ البيئةِ بشقيَّها( الجغرافيِّ والاجتماعيِّ)
فالحكم الرشيد: هو كل نهج أو عمل يكون معه الإنسان والمجتمع البشريَّ بعامة أقرب إلى العدل منه إلى الظلم.. وإلى الصلاح منه إلى الفساد.. وإلى الحب منه إلى الكراهيَّة .. وإلى الأمن منه إلى الخوف .. وإلى السلم منه إلى الحرب .. وإلى الحياة منه إلى الموت.. وإلى التعايش منه إلى التخاصم ..وإلى التعاون والتنافس في البناء والتنمية منه إلى صناعة الفساد والدمار. وذلك بعيداً عن كُلِّ التصنيفات الدينيَّةِ والروحيَّةِ والمذهبيَّةِ والماديَّةِ والفكريَّةِ والثقافيَّةِ والسيَّاسيَّةِ والاقتصاديَّةِ والاجتماعيَّةِ والفلسفيَّةِ وغيرها. وبعيداً عن الالتزام بوسائل وآليات ومسميَّات وشعارات محددة. فالكل حر في اختيار الوسائل والأليات والمسميَّات والشعارات التي تناسب زمانه وأحواله في تحقيق الغاليات التي حددتها الكليات والجوامع الإنسانيَّة السامية السبعة النبيلة أعلاه..
فِتْنَةُ المُصْطَلَحَاتِ .. وَ هَرْطَقَةُ الغُلاةِ -8
(الحُكْمُ الرَشِيدُ – ج5)
الحكم الرشيد: هو كل جهد أو منهج بشري يتحول بثقافة الأجيال من جدليَّة مَنْ يَحْكُمُ ..؟ إلى موافقات كيفَ نُحْكَمُ ..؟ من أجل بلوغ المقاصد الإنسانيَّةِ الساميَّةِ النبيلةِ التي عبَّرت عنها الكُليَّات والجوامُعُ الإنْسَانيَّةِ الكبرى : قُدسيَّةُ قيمِ الإيمَانِ والعَدْلِ والأخلاقِ ، قُدسيَّة حَيَاِة الإنْسَانِ وكرامَتِهِ، وحُريَّتِهِ ، ومَصالِحِهِ ،وقُدسيَّة رسالةِ المرأة في الحياةِ ، وسلامة البيئَةِ بشقيها( الماديِّ والمعنويِّ). فتحقيقُ هذه الغايات أو تحقيق درجات من فضائلها أو الاقتراب منها.. لهو المعيَّارُ الأساسُ السليمُ الذي تُقاسُ به درجاتُ رُشد أو خيَّريَّةِ أو صلاحي أيّ نِظَامٍ يَسوسُ حَيَاةِ المُجْتَمَعاتِ والأقرادِ. دون أيّ اعتبارٍ لِمُسميَّاتِ الأنظمةِ أو وسائلِها أو آلياتها وشعاراتها.. مادامت متسقةً ومنسجمةً مع مضامين غايات الكليَّات والجوامع القيميَّة الإنسانيَّةِ المذكرة أعلاه. الحكم الرشيدُ : هو كل نظام حكم يقومُ على التعاقد والتراضي بين فعاليَّات المجتمع.. للعمل معاً كُلٌ وفق إمكاناته وقدراته ومهاراته لتحقيق آمالهم وطموحاتهم في ميادين الحياة ..وذلك على أساس عقد اجتماعي تكون الكليَّات والجوامع القيميَّةِ الإنسانيَّة السبعة أعلاه أساسه وأعمدته .. مع كلُّ أمرٍ أو قاعدةٍ أو قانونٍ أو تشريعٍ تمليه فعاليَّات مهمة الاستحلاف في الأرض.. وتوجبه حركة الاستجابة لمستجدات تحديات الزمان والمكان في ميادين الحياةِ. والمنتدى الإسلامي العالمي للحوار وهو من المؤسسات الفكريَّة العالميَّة ..الذي ساهم منذ البداية في بلورة ونحت مصطلح (الحكم الرشيد).قَدّمَ رئيسه كاتب هذه الدراسة رؤيةً بشأن تحديد معاني ومقاصد مصطلح ( الحكم الرشيد ) فيما يلي جوانباً منها:
الحكم الرشيد : يقيم مصالحة بين الدين والدنيا.. وتكاملاً بين المعبد والسوق.. ويستفيد من قيم الشرائع المتنوعة الدينيَّة والروحيَّةِ والثقافيَّة والفلسفات البشريَّةِ ..من أجل بناء دولة حضاريَّة إنسانيَّةٍ عادلةٍ آمنةٍ.. تساهم في إقامة تعايشٍ بشريٍّ أخويٍّ عادلٍ آمنٍ راشدٍ .. يتمتع بخيرات الأرض من غير احتكار ولا هيمنة. يتبع في الرسالة القادمة بعون الله تعالى.
وسوم: العدد 801