في الاختطاف وتحويل الوجهة
كنّا في الماضي لا نسمع بالاختطاف إلاّ في علاقة بالطائرات والإرهاب. لكنّ سنّة التطوّر وتلاحق الأحداث اقتضت أن يصبح الاختطاف ذو أشكال متعدّدة. فلم يعد الاختطاف مقتصرا على خطف الطائرات والأشخاص فحسب. بل طال اليوم كل شيء مادّي ومعنوي من مثل خطف دول وشعوب بأكملها وتحويل وجهتها من حالة الحرية والكرامة إلى حالة الاستبداد والاستعمار، ومن خطف البرامج والمشاريع إلى خطف وقتل الأحلام والآمال. فلقد خطف المخلوع بن علي وعصابته حرية وأحلام وآمال الكثير من المناضلين الإسلاميين وغيرالإسلاميين. فحوّلوا حياتهم من الاستقرار والأمن إلى العذابات والرعب والكوابيس المخيفة بالليل والنهار. بل إنّهم اختطفوا برامجهم ومشاريعهم ونسبوها لأنفسهم بعدما زجّوا بأصحابها في السجون والمعتقلات.
ولم يسلم من ذلك حتّى اللّون المميّز لحركة النّهضة ألا وهو اللون البنفسجي الذي أصبح هو اللون المميز لحزب المخلوع ("التجمّع الدستوري الديمقراطي"). وكان ذلك بقصد تغييب وفسخ كل ما له صلة بحركة النهضة تماما مثلما غيّبوا المنتمين إليها وحشروهم وراء جدران السجون وفي المنافي لسنوات طويلة. كما طال الاختطاف كذلك النضالات والعذابات والمآسي. ففي حوار في قناة نسمة وظّف الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل سنوات الجمر لصالحه حيث قال "نحن في الاتحاد العام التونسي للشغل في فترة أيام الجمر وفي سنوات الاستبداد ...". في الوقت الذي كان فيه الاتحاد في فترة وفاق ورخاء طيلة حكم المخلوع بن علي. ومعلوم أنّ الاختطاف يتّخذ عدّة أشكال ومظاهر. فمنه ما هو مباشر ومنه ما هو بالمناولة. فبعد أن اختطفت فرنسا تونس واستعمرتها لعشرات السنين سلمتها لخاطف جديد بالمناولة وذلك بعد أن أرهقتها تكاليف الخطف أو الاستعمار المباشر. فما كان لبورقيبة إلاّ أن أوغل في الخطف والتنكيل والاستبداد. وحوّل وجهة البلاد من الهوية العربية الإسلامية إلى وجهة التغريب والفرنسة والاستلاب الثقافي والكفر والجحود وكل مظاهر التفسّخ الأخلاقي الذي لا نزال نعاني منه إلى اليوم.
ومن الاختطاف ما يسمّى اختطاف بالتداول. وأستحضر هنا حادثة من أيام الدراسة في الجامعة. حيث كنّا نستعير كتب الرياضيات والفيزياء من مكتبة الكلية. إلاّ أنّ بعض الكتب الجيدة كنّا لا نجد لها أثرا على الدوام في المكتبة، لأنّ بعض الطلبة كانوا يختطفونها بالتداول. حيث يستعير الطالب كتابا وعندما يحين موعد إعادته يصطحب معه زميله الذي يستعيره من جديد في نفس اللّحظة التي يعود فيها الكتاب إلى المكتبة. وبتلك الطريقة يظلّ الكتاب متداولا ومخطوفا من طرف طالبين فقط طيلة السنة الدراسية. وبهذه الطريقة ذاتها اختطفت البلاد، حيث اختطفت واستعمرت من طرف المستعمر الأجنبي ثمّ تداول على خطفها بالمناولة بورقيبة ثمّ بن علي. وعند قيام الثورة وهروب المخلوع بن علي لم يعثر المناوئون للثورة والمستكينون للاستبداد وللاستعمار واللّاعبون من وراء الستار على خاطف جديد يسلّمونه قيادة البلاد وباءت محاولاتهم استقطاب الجنرال رشيد عمّار لهذه المهمّة بالفشل. فقرّروا عندئذ الانخراط بأنفسهم في عملية التداول على الخطف ولو بالنّيابة إلى حين ظهور مختطف محترف يسلّمونه مفاتيح البلاد. ومن هنا ظهر الرباعي المنقذ والرّاعي الرسمي للحوار الوطني والذي يقوده الاتحاد العام التونسي للشغل. وكلّلت هذه العملية بالنجاح. وتحصّل الرباعي على جائزة نوبل للسلام من كبير المختطفين الدوليين. وفي الحقيقة فإنّ الاتحاد العام التونسي للشغل أراد من خلال هذه العملية الاعتراف بالجميل لولي نعمته طيلة فترة الاستبداد النوفمبري فأراد أن يحافظ له على العرش مؤقتا، إلى حين بلوغ أحد أبنائه سنّ الرشد حتّى وإن كان ليس من صلبه. حيث يكفيه فقط أن يكون من صلب الاستبداد والاستعباد الذي تشبّع به. ولذلك لاحظنا أنّ أغلب التجمعيين احتموا بخيمة الاتحاد العام التونسي للشغل الذي أضحى خير خلف ل"خير" سلف ولو بالنّيابة إلى حين. وأضحى كلّ من يريد الحصول على امتياز أو مصلحة أو ترقية يحوّل وجهته إلى الاتحاد العام التونسي للشغل (أليس الاتحاد أكبر قوّة في البلاد كما يردّدون ؟ ). وكلّ من كانت له بطاقة اشتراك في التجمّع الدستوري الديمقراطي استبدلها باشتراك في الاتحاد العام التونسي للشغل. وتلك هي طبيعة الانتهازية والوصولية والانبطاحية التي تربّى عليها الشعب وأجبر على التشبّع بها منذ الاستقلال المزعوم أو بالأحرى المخطوف.
وتحت خيمة هذا "الاختطاف" الإطاري نشطت كل أنواع تجارة الاختطاف(كلّ واختصاصه و"كل قدير وقدره"). فالإعلاميون والفنّانون الفاسدون ووكلاؤهم خطفوا ألباب النّاس وحوّلوها إلى عقول مستهلكة لا تميّز بين الغثّ والسمين. إذ أنّهم شرّعوا إلى كلّ أنواع الفساد والرذيلة والمجاهرة بما ينافي الأخلاق الحميدة. ولعلّ آخرها ظهور ممثّل سوري على خشبة المسرح البلدي بالعاصمة عريانا كما ولدته أمّه في إطار أيام قرطاج المسرحية. أمّا التّجّار الفاسدون والمستكرشون والمهرّبون فإنّهم خطفوا ثروات وأموال الشعب وهرّبوها إلى خارج البلاد وأغرقوا البلاد بكل أنواع السلع المستوردة بطرق غير قانونية بما كان له أثر بليغ على تدهور اقتصاد البلاد وتدنّي قيمة الدينار وارتفاع نسبة التضخّم وما إلى ذلك من مظاهر الأزمة الاقتصادية.
ووصل الاختطاف إلى حد خطف وشل إرادة نواب الشعب في المجلس التأسيسي ومنعهم من إصدار قانون تحصين الثورة(الذي يمنع رجال النظام السابق من الترشّح لانتخابات 2014). ففي نفس اليوم الذي قرّر المجلس التأسيسي عرض ومناقشة قانون تحصين الثورة تمّ على الساعة السابعة وعشرين دقيقة صباحا اغتيال المناضل والسياسي شكري بالعيد. وعندما أزمعت القوى السياسية الفاعلة في البلاد على إعادة الكرّة بعد بضعة أشهر قتل الخاطفون السياسي-أو الرهينة- الثاني وهو النائب محمد البراهمي. بما يعني أن الخاطفين اختطفوا الرهائن في عالم افتراضي وساوموا على حياتهم في صورة ما لم يستجب لهم في الإجهاض على قانون تحصين الثورة("منطق نلعب ولاّ نحرّم"). وبالنتيجة فإنّ البلاد بكلّ مكوّناتها أضحت مختطفة من لوبيات الفساد والإفساد بعدما تمّ التخلّي عن قانون تحصين الثورة بما مكّن المنتسبين لهذه اللّوبيات من "اقتحام" وخطف مجلس النّواب الذي أصبح أقرب إلى سوق عكاظ.
وبالنهاية فإنّ أخطر ضروب الاختطاف هو ما تعلّق بخطف العقول وخطف الإرادة. فكيف يسمح لنفسه من يتوفّر على عقل رشيد بأن يخطفه كلّ من اللّوبيات وأصدقاء السوء ويقودونه إلى مصير مجهول بدون بذل أدنى جهد من التفكير العقلاني. وفي هذا المعنى يقول الله تعالى " ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ( 27 ) يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا ( 28 )لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا ( 29) " (الفرقان)
وسوم: العدد 803