الحلم الروسي بالوصول إلى المياه الدافئة
محمد علي شاهين
فشل إيفان الرهيب رابع قياصرة روسيا في الوصول إلى المياه الدافئة، في القرن السادس عشر لإخراج روسيا من عزلتها، وربطها بخطوط الملاحة العالميّة، وطرق التجارة.
وأصبح من ثوابت السياسة الروسيّة تنفيذ وصيّة بطرس الأكبر ـ المؤسّس الحقيقي للإمبراطورية الروسيّة ـ التي تدعو للوصول إلى المياه الدافئة، والتوغّل حتى بلوغ ساحل الخليج.
وفي القرن التاسع عشر ازدادت حدّة الصراع بين الدول الأوروبيّة على تقاسم تركة الرجل المريض، وزادت أطماع الامبراطوريّة الروسيّة للوصول إلى المتوسط نتيجة ضعف الدولة العثمانيّة، وانتهت الحرب الي نشبت بين الدولتين في عام 1877م، بالتوقيع على معاهدة (سان استيفانو) التي حقّق فيها الدب الروسي مكاسب كبيرة بعد انتصاره، حيث نصّت بعض بنود المعاهدة على بقاء البوسفور والدردنيل مفتوحين لروسيا زمن السلم والحرب.
وكانت الامبراطورة كاترين الثانية تحلم بالحصول على موطئ قدم للأسطول الحربي الروسي في موانئ البحر الأبيض المتوسط.
واستطاع الاتحاد السوفييتي السابق التسلّل إلى المياه الدافئة، تحت دعوى تزويد سوريّة ومصر بالسلاح، مستغلاً هزيمة الأنظمة العربيّة في فلسطين، وهزيمة حزيران عام 1967 لتعزيز وجوده، بينما كان الإنقلابيّون في سوريّة يقرعون طبول الحرب، لتبرير وجودهم غير الشرعي في السلطة، وفرض حالة أمنيّة دائمة، تتسلّل من خلالها الأقليات إلى مفاصل الدولة لتحقيق مشاريعها الخبيثة.
وما عجز القياصرة عن تحقيقه بالقوّة، تمكّن زعماء الكرملين، وقادة روسيا الاتحاديّة من بعدهم تحقيقه بشكل هادئ، بالتواطؤ مع الحكام العسكريين الموالين، والوصول إلى ميناء طرطوس بسهولة ويسر،
وكان الثمن أن يتحالفوا معهم ضد شعوبهم، ويفتحوا لهم خزائن السلاح، ويدعموا أنظمتهم الانقلابيّة في المحافل الدوليّة، ويغضّوا الطرف عن انتهاكاتهم لحقوق الإنسان.
وكما كان متوقعاً فقد تمسّكت روسيا الاتحاديّة بحليفها الأسد، ووقفت ضد تطلّعات الشعب السوري الذي يتوق للحريّة والانعتاق من نظام فاسد، جرّع السوريين غصص الآلام على مدى حكمه الطويل، لأنّه ضمن للروس مصالحهم في ثروات سوريّة، وخاصّة بعد الاكتشافات الهائلة للبترول والغاز في المياه الإقليميّة السوريّة، حيث تبيّن نتيجة البحث لشركة نرويجيّة في المياه السوريّة وجود احتياطات نفطيّة مهمة تتجاوز ثلاثين مليار برميل نفط في ثلاثة عشر حقلا، ومنحها القواعد العسكريّة البحريّة التي تحلم بالسيطرة عليها.
وها هو ذا القيصر الصغير بوتين يفعل المستحيل للمحافظة على موانئ شرق البر المتوسط، ومنع سقوط حليفه الأسد، ولو خسرت روسيا مصداقيتها وسمعتها الدوليّة، وخاصّة بعد تهديد شبه جزيرة القرم بطرد الأسطول الروسي من موانئها على البحر الأسود، إلى البحار الشماليّة التي تتجمد تسعة أشهر في السنة.
ويبدو أّن بوتين لم يستوعب الدرس السوري في أوكرانيا الدولة السوفيتيّة السابقة، يوم فضّل مصالح روسيا على حقوق الأوكرانيين المشروعة، وجعلها مجرد منطقة عازلة مع الغرب، وحديقة خلفيّة لموسكو، وممراً للغاز الروسي إلى أوروبا، فيمّموا وجوههم نحو الاتحاد الأوروبي، وهدّدوا بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي.
وكما خرجت تركيّا من محنتها معافاة متجاوزة منطق المسألة الشرقيّة يوم تداعى الأكلة على قصعتها، ستخرج سوريّة من كبوتها قويّة عزيزة موفورة الكرامة، وستستعيد مكانتها اللائقة بين شعوب العالم.
وإذا كان إيفان أشدّ أشرار العالم وأقساهم وأعنفهم قد تحوّل إلى وحش متعطش للدماء، فقد أولع القيصر الصغير بمشاهد قتل السوريين بالكيماوي والبراميل المتفجّرة وصواريخ سكود، وتشريدهم داخل البلاد وخارجها، واستخدم حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن عدّة مرّات للحيلولة دون اتخاذ موقف صارم من انتهاكات حقوق الإنسان، والضرب على أيدي القتلة ومصّاصي دماء الشعوب، كلّما وصلت القضيّة السوريّة لإحدى منعطفاتها، منتهزاً تردّد أوباما، بعد الدرس التي تلقته أمريكا في أفغانستان والعراق، والأزمة الماليّة التي تعصف بأوروبا، وهو يعتقد بأّن الوصول إلى المياه الدافئة هو السبيل لتحقيق حلم إيفان وبطرس وكاترين.