تاريخ لن يُكتب

د. محمود نديم نحاس

د. محمود نديم نحاس

مهما توسعت كتب التاريخ فلن تتحدث إلا عن الأحداث الكبرى، ولن تذكر دقائق كثير من الأمور. لكن من فوائد الإنترنت أنها أتاحت لكل واحد أن يكتب ما عنده من معلومات، فلربما يأتي بعض الباحثين لاحقاً وينبش عن الدقائق والتفاصيل. إنما الكم الهائل من المعلومات في الإنترنت يجعل عملية الوصول إلى كل شيء ضرباً من المستحيل.

من التاريخ الذي لن يُكتب تاريخ الأفراد الذين لم يحتلوا مناصب عالية. لكنهم احتلوا مكانة مرموقة بين أهلهم وذويهم ومحيطهم. ولاشك أن كل قبيلة وكل عشيرة وكل أسرة تحتفظ بتاريخ رجالها، إن لم يكن على الورق ففي الصدور.

كتب صديق ينعي عمته السورية التي وافاها الأجل عن ثلاثة وتسعين عاماً. وأضاف بأنها اضطرت للهجرة من بلدها هرباً من البراميل المتفجرة التي يتم إسقاطها من الطائرات فتهدم البيوت وتقتل البشر! فماتت غريبة عن وطنها. وحتى هذه اللحظة ليس في رسالته شيء خاص، فهذا حال الملايين من المهجرين والمشردين السوريين! لكنه أضاف بأن عمته هذه سبق أن اعتُقلت يوم كانت في الستين من عمرها، وخضعت لتعذيب شديد. نعم تعذيب شديد لامرأة في الستين! إلى أن نفر الدم من قدميها، وكُسر أنفها تحت التعذيب. وكل ذلك لانتزاع اعترافات يريدها المحقق، وزاد في تعذيبها لأنها لم توافق على الاتهامات الموجهة ضدها، فخرجت غير مُدانة! لكنهم اعتقلوا ولدها الطيار الحربي فأمضى في السجن ربع قرن، هي سنوات شبابه، ليخرج بعدها بريئاً غير مُدان!

لم تنتهِ قصتها هنا. فبعد أن خرجت من السجن لم يهن لها عزم ولم تلن لها قناة، بل ازداد صبرها وجلَدها على مقارعة الظلم والطغيان، فبدأت بالاتصال بأمهات السجناء، وقادت مظاهرة نسائية في مدينة حلب للمطالبة بأبنائهن وبناتهن المعتقلين والمعتقلات! وتمكّنت بعد سعي حثيث من زيارة بنت أختها المعتقَلة رهينة عن زوجها الذي أرادوا اعتقاله فلم يجدوه! ثم إنها سافرت مرات ومرات من حلب لزيارة ولدها الذي كان في سجن تدمر سيء السمعة، ولم يكن يُسمح لها بأكثر من دقائق معدودة فقط، كانت تكفيها لتطمئن عليه وتعطيه ما حملته معها من مأكولات كانت تشتهيها له. وكم مرة سافرت وتحملت مشاق الطريق وآلام الشيخوخة لترجع حزينة خائبة لم يُسمح لها برؤياه. فيالها من أم حنون ومربية فاضلة صابرة محتسبة مهاجرة.

أي أخلاق عربية تلك التي يعاملون بها الناس؟ وأي تاريخ صنعوا لأنفسهم؟ يسجنون امرأة في الستين من عمرها، ويسجنون ابنة أختها رهينة عن زوجها، ويضطرونها للهجرة والتشرد وقد وهن العظم منها وتجاوزت التسعين؟

في يوم هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم حاصرت قريش منزله، فلما وجدوا علياً رضي الله عنه نائماً في فراشه انصرفوا عنه ولم يمسوه بأذى! أما اليوم فأخذ الرهينة شيء يسير على من لم يقرأ قول الحق تبارك وتعالى (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ)!.