الإسلام في أفريقيا الحلقة (52)
مؤرخ إفريقية ومحدثها
أبو العرب محمد بن أحمد بن تميم التميمي
عقد أبو العرب العزم على مجاهدة بني عبيد والخروج عليهم، في أيام أبي يزيد الخارجي، فعقد - كما يقول ابن سعيد الخراط - وفقهاء القيروان اجتماعاً في الجامع لهذا الغرض، والخروج مع أبي يزيد إلى المهدية، وكان من أعيان الفقهاء - إضافة إلى أبي العرب - أبي الفضل الممسي، وأبي سليمان ربيع بن سليمان القطان، وأبي عبد الملك مروان، وأبي إسحاق السبائي.
وتكلم الفقهاء في الخروج وتناظروا حتى قال أبو العرب: اسكتوا.. اسكتوا.. فسكت الناس، فقال: حدثني عيسى بن مسكين عن محمد بن عبد الله بن سنجر يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يكون في آخر الزمان قوم يسمون الرافضة فإن أدركتموهم فاقتلوهم فإنهم كفار)). فلما تم الحديث كبَّر الناس وارتفعت أصواتهم ثم خرجوا واعترضوا عند الجامع وفي السماط وعلى كثير منهم المصبغات وابن القصطيلة المغبّر يقرأ: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه).
وتمادى الشيوخ بأجمعهم إلى باب أبي الربيع فضربوا أخبيتهم عند اليهودية ثم خرجوا.. ولما حاصروا المهدية سمع الناس على أبي العرب - في الموضع - كتابي الإمامة لمحمد بن سحنون رحمه الله، فقال أبو العرب عند ذلك: كتبت بيدي هذه ثلاثة آلاف كتاب وخمس مئة كتاب فو الله الذي لا إله إلا هو لقراءة هذين الكتابين علي في هذا الموضع أفضل عندي من جميع ما كتبت.
توفي الشيخ الفقيه المؤرخ رحمه الله في ذي القعدة سنة (333هـ/941م) بالقيروان ودفن بباب سلم. وصلى عليه أحمد بن أبي الوليد صاحب الصلاة والخطبة بعد أن قال لابنه ابي العباس: تقدم صل على أبيك، فقال: لا أفعل، هو أوصى أن تصلي عليه، فتحول إلى مروان وإلى أبي إسحاق السبائي فقال لهما: تقدما فصليا، فقالا له: أنت أحق، فصلى عليه جمع عظيم. وقيل: صلى عليه ولده.
وكان ابن أبي الوليد، صاحب الصلاة والخطبة في أيام أبي يزيد مبغضاً في بني عبيد كثير التنبيه على أحوالهم. لقد كان أبو العرب سليل أسرة عربية شهيرة بالقيروان، وجده تمام بن تميم أمير تونس هو الذي ثار على محمد بن مقاتل العكي بالقيروان سنة (183هـ/799م)، لسلوكه السيء وتصرفه الاستبدادي.
فقد أثار العكي بتصرفاته الحمقاء حفيظة الجيش وكبراء الأمة، فهجم عليه (تمام) هجمة مضرية بجيش من جنود الشام وخراسان، ودخل القيروان في 25 رمضان سنة (183هـ/799م)، وألحق بالعكي هزيمة شنعاء، وقد فرَّ على إثرها إلى طرابلس واستولى تمام على مقاليد الحكم دون أن تصله موافقة الخليفة العباسي، وتصدى لثورة تمام (إبراهيم بن الأغلب). حاكم الزاب، واسترد القيروان وأعاد العكي إليها من جديد. وقبض على تمام وسير إلى بغداد وتوفي مسجونا.
لقد كان لحياة الأسرة التميمية أثر كبير في تكوين شخصية أبي العرب، حيث اغترف العلوم على يد فقهاء أجلاء، كان من بينهم: شجرة، وسليمان بن عمران، وبكر بن حماد.
ولد أبو العرب بالقيروان بين سنة (250 و260هـ/864 و873م)، وتوجه إلى طلب العلم من نعومة أظافره، ويصور لنا رفضه لمقاليد الإمارة التي كان يعيشها أهله، وانصرافه إلى طلب العلم بقوله: أتيت يوماً وأنا حدث إلى دار محمد بن يحيى بن السلام فرأيت عنده الطلبة، ورأيت أمراً أعجبني، وركنت إليه نفسي، فعاودت الموضع، وكنت آتي إليه، والطرطور على رأسي، ونعلي أحمر في رجلي، في زي أبناء السلاطين.
وكان الطلبة ينقبضون مني من أجل ذلك الزي، فقال لي رجل يوماً بجواري: لا تتزيا بهذا الزي فليس هو زي طلبة العلم وأهله. وزهدني، فرجعت إلى أمي فقلت: نلبس الرداء وثياباً تشاكل لباس أهل العلم والتجار، فأبت عليَّ وقالت: إنما تكون مثل آبائك وأعمامك. فاحتلت حتى اشتريت ثياباً وجعلتها عند صباغ في باب أبي الربيع، فكنت إذا أتيت من القصر القديم أتيت بذلك الزي الذي تحبه أمي ووالدي، فإذا وصلت إلى باب أبي الربيع ودخلت حانوت الصباغ خلعتها ولبست الثياب الأخرى، فكنت كلما ترددت فعلت ذلك، ثم قال لي رجل من أصحابي: أراك تأتي هذا المجلس فتسمع فيه العلم ولا تكتب شيئاً مما تسمع يكون عندك، ما هذا حقيقة طالب العلم. فقلت له: والدي راغب عن هذا وعن المعونة عليه وما مكنني من شيء اشتري به الرق، فقال لي: أنا أعطيك جلداً تكتب لنفسك وتكتب لي جلداً عوضاً منه. فرضيت له بذلك فكنت اكتب لنفسي ما شئت وأكتب له في جلوده ما يحب حتى يسر الله عز وجل ما اشتريت به الرق وما قويت به في طلب العلم.
وكتب أبو العرب بيده ما ينوف على ثلاثة آلاف كتاب. وكان ضابطاً كثير التقيد لكتبه، عالماً بما فيها.
وكان يصنع الشعر ويجيده، فمن شعره قوله:
إذا انقطع الصديق لغير عذر … فزاد الله خلته انقطاعـــا
إلى يوم التناد بلا رجـوع … فإن رام الرجوع فلا استطاعا
إذا ولى أخوك قفاه عنـك … فول قفاك عنه وزده باعــا
وناد وراءه يارب تمــم … ولا تجعل لفرقته اجتماعــا
ويمدح المؤرخون عامة أبا العرب ويقولون عنه: إنه كان ثقة عالماً بالسند والرجال من أبصر أهل وقته بها، كثير الكتب حسن التقييد، وكانت له مكتبة تحتوي على ثلاثة آلاف وخمس مئة كتاب خطها بنفسه. واشتهر بين مواطنيه بأنه رافع لواء التاريخ بإفريقية. وألف ستة عشر كتابا في مختلف العلوم.
ويقال أنه أخذ عن مئة وخمسين مدرساً، وأخذ عنه تلامذة كثيرون.
توفي العالم المؤرخ محمد بن أحمد (أبو العرب) رحمه الله في الثاني والعشرين من ذي القعدة أو ذي الحجة سنة (333هـ/944م) ودفن بباب سلم بالقيروان.
وسوم: العدد 804