ما زالت المظاهر مذ كانت تخدع المنبهرين بها ولا يغيب خداعها عن الأكياس
المظاهر هي الصور التي تبدو عليها الأشياء أو هي أشكالها الخارجية ، ولها حلتان إما أن تكون مطابقة لحقيقة تلك الأشياء أو تكون خادعة وغير معبرة عن حقيقتها . والإنسان مذ كان على وجه البسيطة وهو منبهر بمظاهر ما يحيط به ، وحاله لا يخلو من أحد أمرين : إما أن يكون مدركا لحقائق ما يحيط به انطلاقا من المظاهر ، أو يكون منخدعا بها لا يصل إلى كنه حقائقها
ومن المظاهر الخدّاعة ـ بصيغة المبالغة ـ المظاهر التي يكون عليها بنو البشر . ولما كان ما يلبسونه جزءا من مظاهرهم ، وأشكالهم الخارجية ، فإن اللباس يلعب دورا كبيرا في انخداعهم به ، وذلك باعتمادهم عليه للحكم على أنفسهم ، وتصنيفها في مراتب قد لا تناسب ما هم عليه في حقيقتهم ، فيضعون من حقه أن يرفع ، ويرفعون من يجب أن يوضع .
ولما كان الإنسان على وعي تام بالدور الذي يلعبه اللباس في التضليل عما هو عليه حقيقة ، فإنهم إذا أرادوا التمويه على حقيقتهم، اعتمدوا اللباس الذي يساعدهم على ذلك حيث يرتدي وضيعهم أوحقير أو بسيطهم أو تافههم أو جاهلهم ... ملابس شريفهم أوعظيمهم أو مهمهم أو عالمهم ، ليتشبه به، فيخدع بذلك غيره ممن يسهل انخداعهم بالمظاهر، فينزلونه المنازل التي لا يستحقها . وقد يحصل العكس حين يرتدي العظيم أو العالم ... لباس البسطاء أو العوام عامدا أو دون قصد منه ، فينزل منازل لا تليق بمكانته . وفي الحالتين يندم المنخدعون بالمظاهر خصوصا الأشكال الخارجية التي تعكسها الثياب حين يماط اللثام عن حقائق من انخدعوا بمظاهرهم .
و من الحكايات التي وصلت إلينا عن القدماء أن ملوكهم وعظماءهم كانوا يتنكرون في أزياء الصعاليك لمعرفة أحوال الرعية لحجب ثياب هؤلاء حقيقتهم . وكانت أيضا خدعة المظاهر خصوصا اللباس مما يعتمد لاختيار شريك أو شريكة الحياة ، فيبدو الزوج على سبيل المثال لمن يطلب يدها في لباس بسيط ، وهو ذو مكانة ، فتزدريه لهندامه ، فيكون ذلك اختبارا لها ، فيتجنبها ، ولا يقبل على مغامرة الاقتران بها ، وقد بدا منها ما بدا من تعال وغرور وكبرياء ، ويصح العكس أيضا حيث تبدو ذات المكانة بمظهر الإنسانة البسيطة ، فيميل عنها من يخطبها انخداعا بهندامها ، فيضيع على نفسه فرصة الاقتران بزوجة تكون حلم وأمل الكثيرين ممن يعرفون حقيقة قدرها ومقدارها.
وفي عصرنا وهو عصر تنافس في اقتناء الأزياء حيث تقام لها معارض خاصة يحضرها على وجه الخصوص المترفون ، يزداد الانخداع بالمظاهر حيث يصنف من يلبس زيا كلفته عالية في مرتبة عالية وهو أرخص في حقيقته مما يلبس ، وينخدع بلباسه خلق كثير من المنبهرين .
ومن المشاهد اليومية المألوفة أن الشاب قد يتعقب الفتاة وقد ارتدت اللباس الباهظ الثمن ، ويظنها منحدرة من أسرة موسرة ، وأنها تسكن حيا راقيا ، وقد تحدثه نفسه بالتفكير فيها كمشروع زوجة طامعا في ثروة ولي أمرها ، لكنه يصدم صدمة قوية حين تعرج به إلى حي من أحياء مدن الصفيح ، فيدرك حينئذ أنه قد خدعه مظهرها . ومقابل هذا المشهد قد تنخذع الفتاة بشاب يرتدي بذلة باهظ الثمن ومن آخر طراز ، فتظنه من أبناء الأعيان الذين يسكنون القصور ،وتتمنى لو كان فارس أحلامها حتى تفاجأ يوما ما بأنه من صعاليك حي صفيحي، فتتيقن أنه كانت ضحية مظهر خادع .
ومن المشاهد المألوفة أيضا أن من يقفون على أبواب الإدارات على سبيل المثال لا الحصر من بوابين وحراس ينخدعون كثيرا بالزوار لاعتمادهم على الأزياء في تصنيفهم والحكم عليهم ، وقد يخدعهم الجاهل وهو يرتدي لباس العالم ، أو يخدعهم من لا وظيفة ولا منصب له وهو يرتدي لباس أصحاب المناصب ، فيهشون في وجهه ، ويبالغون في إظهار الاحترام له ، ويفسحون له المجال ، ويبلغه هندامه الخادع إلى أعلى مسؤول في الإدارة ليكتشف بعد ذلك أنه إنما خدعهم بلباسه . وفي المقابل قد يعترضون شخصا على قدر كبير من الأهمية علما أو سلطة أو ثروة ...لأن هندامه خدعهم ، فيصنفوه دون قدره ، ثم يندمون شديد الندم بعد معرفة حقيقته التي أخفاها عنهم اللباس الخادع .
وتجنبا لمثل هذه المواقف المحرجة يحرص البعض عن التزام ما يناسب أقدارهم من أزياء خصوصا في الأماكن التي يحتمل أن يقع فيها الانخداع بالمظاهر ، وإن كان أهل الأقدار العالية لا يهتمون بذلك لوثوقهم بحقيقة أقدارهم ، ومعرفة الناس بها في نهاية المطاف بعد زوال الانخداع بالمظاهر ، ويعتبرون الظهور بما دون أقدارهم من ملابس تواضع منهم يزيدهم رفعة وشرفا .
وأقبح انخداع بالمظاهر يقع فيه الناس هو التسرع في الحكم على أهل العلم والفكر حين يصنفونهم دون مراتبهم وينزلونهم دون منازلهم بسبب الانخداع بملابسهم ، وقد تحدثهم أنفسهم وهم تحت تأثير الانخداع بالخوض في علومهم وتخصصاتهم خوض من لا علم ولا خبرة لهم بها ، فيعرضون بذلك أنفسهم للإهانة والسخرية ، ويندمون على ذلك أشد الندم .
ومن صور الانخداع بمظاهر أهل العلم والمعرفة والفكر أن يزدري الشيوخ والكهول الشاب العالم الراسخ القدم في تخصص من التخصصات بسبب سنه حيث يستكثرون وهم واهمون أن مثله يمكن أن يبلغ درجة عالية في العلم والمعرفة ، فتحدثهم أنفسهم بأنهم بحكم سنهم لا يمكنهم الجلوس منه مجلس المتعلمين ممن يعلمهم ، فيندمون أشد الندم على ذلك بعد معرفتهم بحقيقة علمه ومعرفته . وفي المقابل قد يزدري الشباب الشيخ الذي اشتعل رأسه شيبا وفض فوه، وهو ذو علم ومعرفة بسبب سنه ، ولا يصدقون أن من يكون في مثل سنه يتقن من العلوم والمعرف والفنون ما لا يتقنونه ، ويستنكفون بسبب انخداعهم بالمظهر عن الجلوس إليه والحديث معه حتى إذا أطلعهم على بعض ما في جعبته ندموا أشد الندم على ما كان منهم ، وأحسوا بضآلة أقدارهم أمام قدره.
ومن الانخداع بالمظاهر المثير للسخرية والمؤسف في نفس الوقت أن يزدري أصحاب بعض التخصصات غيرهم ممن لهم تخصصات أخرى يجهاونها كل الجهل ، فيرى على سبيل المثال الطبيب حين يزوره صاحب اختصاص لا علم له به أن قدره فوق قدره ، فلا يرعى له قدرا ، ويعامله معاملة العوام والسوقة ظنا منه أن من يزورنه على قدر واحد ، وأن قدره كطبيب فوق كل قدر ما دام الناس يزورنه للتطبيب ، ولا يكلف نفسه حتى السؤال عن أقدار من يزورنه ، فيخاطبهم وهو يجهل حقيقة أقدارهم بما لا يليق بمنازلهم ، و يجعله ذلك صغيرا في أعينهم ولولا طبه لما حظي منهم بأدنى التفاتة لسوء تعامله معهم . وقياسا على مثال الطبيب تأتي أمثلة أخرى لأصحاب تخصصات أخرى، فينخدعون بمن يحتكون بهم لأنهم يعيشون وهم رفعة أقدارهم فوق أقدار غيرهم.
وأكثر الناس انخداعا بالمظاهر الذين بيدهم سلطة ، فيرون كل الناس دونهم بسبب تلك السلطة ، وتصدر عنهم تصرفات مشينة تجعلهم أمام حرج كبير حين يكتشفون أنهم أساءوا إلى من هم أشرف وأعظم قدرا بسبب مكانتهم العلمية والمعرفية .
والأكثر من هم انخداعا بالمظاهر أهل الثراء الذين يرون كل من دون ثرائهم أقل شأنا وقدرا ، وقد تحدثهم أنفسهم بالتعالي على أهل الأقدار الرفيعة علما وسلطانا وازدرائهم بسبب الاغترار بثرواتهم ، فيتجاسرون عليهم وهم جهال وأميون ظنا منهم أن ثراءهم يرقى بهم إلى مستوى أهل العلم والمعرفة ، وقد تحدثهم أنفسهم بمساومتهم بما في أيديهم من ثروة وإطماعهم بها ليكونوا لهم بطانة ، وليقال عنهم إن هؤلاء جلساء أولئك ، وقد يعرضون أنفسهم للسخرية المرة وهم يدلون بدلاهم الفارغة فيما لا قبل لهم به من علم ومعرفة في حضرة أهل العلم والمعرفة أثناء جلساتهم العلمية والمعرفية ، ويحاولون الظهور بمظهر من يجاريهم في علمهم ، وفي اعتقادهم أن ثرواتهم تسد مسد علم ومعرفة غيرهم .وقد يغرهم ما يجدون عند بعض أهل العلم والمعرفة من حظوة طمعا في بعض ما يملكون ، فيقوى ذلك من غرورهم ، والناس منهم يسخرون وهم لا يشعرون .
وتوجد نماذج أخرى كثيرة من الانخداع بالمظاهر من غير الأزياء ، تجعل المنبهرين بها يندمون أشد الندم حين يكتشفون أنهم كانوا ضحايا الانخداع بها ، بينما لا يغيب عن العقلاء الأكياس الاحتياط من الانخداع بها .
وأخيرا نأمل أن يتنبه المنبهرون بالمظاهر إلى عيبهم في الحكم على الناس من خلالها ، وأن يكون دأبهم الحرص على معرفة الحقائق والوصول اليها عوض الاكتفاء بالحكم على المظاهر المضللة التي تجعلهم موضوع سخرية وندم، ولات حين مندم .
وسوم: العدد 806