ولد الددو وسيد قطب..وبلوغ مجد العلم والأدب
ما قرأتُ عن مفسر أجمع عليه علماء عصره بأنه رائد التفسير الأدبي كسيد قطب فهو سيد المفسرين وقطب الرحى الذي جعل من ظلاله مهوى للأفئدة وجنانا للأرواح ومتعة للقلوب، ولست أعلم حافظا في عصرنا بلغ الذروة في حفظ العلوم والمجد السامق في رتبتها كحافظ موريتانيا محمد بن الحسن ولد الددو فهو باقعة العصر ودرة الزمان..
اشتغل سيد قطب بالأدب أكثر حياته وألف المؤلفات ونسج المنسوجات فلما سافر إلى أمريكا مبتعثا قدّر الله له أن يتغير 180 درجة بعكس طه حسين الذي عاد من الابتعاث ليؤلف" مستقبل الثقافة في مصر" وبعكس عشرات بل مئات وألوف المبتعثين من بلاد المسلمين إلى أمريكا وأوروبا ودول الشرق، لقد عاد سيد قطب ليكون رجلا آخر يحمل رسالة خالدة فحاربته السلطات وأدخل غياهب السجون وعاش مرارة المعتقلات مع التعذيب الجسدي حد سلخ الجلد مع ستة أمراض مزمنة وذبحة صدرية ومغص كلوي مستمر وفي زنزانة طولها مترين في متر ونصف وبدون باب أمام دورة المياه في شدة البرد والحر والحشرات والزواحف والروائح الكريهة وهذا كفيل بالانتحار أو الموت والانهيار في مدة أسبوع لكن عاشها سيد قطب خمسة عشر سنة أو قريبا منها آمنا مطمئنا تأتيه الفتوح الربانية والإلهامات النورانية رغدا بإذن ربه، وقد جعل سيد من تلك الزنزانة المظلمة ظلالا فيحاء سماها " في ظلال القرآن".
أبدع السيد قطب في ظلاله أيما إبداع ويخيل لمن يقرأ كتابه أن سيد قد كتبه في شرفة برج عاجي، أو وسط حديقة غناء، أو خطه وهو متكئ على أريكته في بيتٍ فسيح، وفي الحقيقة ما هو إلا حصيلة تلك الأيام والليالي السود التي جعل منها شموسا ووسط تلك الأمراض التي انقلبت صحة وعافية، وفي تلك الزانزانة الضيقة التي جعل منها فضاء فسيحا..وفي ذلك الظلام الذي حوله نورا، والكهف الذي جعله قصرا، والجحيم الذي صيره نعيما، وفي تلك الحالة النفسية القاتمة التي سرعان ما جعلها قوة ونشاطا ومتعة..
*أبدور مشرقات أم غرر في ليالٍ داجياتٍ أم طرر*
كانت كلماته شموعا فانقلبت شموسا، وكانت كلماته هامدة فأصبحت حياة، وكان جهده بطيئا فلما أعدموه تحوّل نشاطا ملأ الأرض وسمع الحياة وبصرها.
كان تفسيره عبارة عن تأملات يعيشها في الليل مع القرآن فإذا أصبح الصباح كتب تلك التأملات، وقد أقبل فئام من علماء الأمة على كتابه يرتوون من فيضه وينهلون من معينه ويتذوقون الجمال الأدبي الرائق في تلك الظلال التي لم ينسج أحد على منوالها..
فتفسيره بمثابة النهر الفياض، وقِطَع الرياض، تعيش فيه كما تعيش بين الجداول المظللة، والغصون المهدلة، والقطوف المذللة، وقد أحيت الأمة خبره ونشرت أثره.
والحافظ الجامع محمد بن الحسن ولد الددو قلمي لا يرقى إلى مرتبة الحديث عنه وماذا أقول عمّن جمع علوم والآخرين، إنه الشيخ الذي حفظ القرآن في السادسة وتلقى عن أمه القراءات العشر ونال الإجازة فيها فتى يافعا، وأجيز في الصحيحين، والسنن الأربع والموطأ ومسند أحمد والدارمي وسنن البيهقي والدارقطني والمعاجم والمسانيد والمستدكات والأجزاء الحديثية وكتب لم نصل حتى إلى معرفة أسمائها في أول شبابه، ولازم جده محمد عالي كبير علماء شنقيط وأتقن على يده أربعين فنا من فنون العلم، فلما مات جده صحب أخواله فبرع على أيديهم وطاف العالم الإسلامي مفيدا ومستفيدا فابتهجت به وجوه المعالي، وتبسمت له الثغور اللآلئ، فاستوى على عرش الاجتهاد وما سُئل عن مسألة إلا ويجيب فيها إجابة شافية كافية مستحضرا الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والفروع الفقهية والشواهد الشعرية، والمفاكهات الندية..
فهو صاحب المزايا التي تحار فيها الأعين النواظر، والسجايا التي تتقاصر أمامها الروابي النواضر، يستحق لقب شيخ الإسلام بشهادة العلماء الأعلام، وإني لأعجب ممن جهل عظيمَ قدره فسبّه وهو الذي طرّز من من نسيج فكره للعلم والرزانة حللا وبردا، وظهر علمه ظهور الشمس في رائعة النهار، وافتخر به مصرُه على باقي الأمصار، الذكي النبيه، الذي ليس له من أقرانه شبيه، طاول الثريا علمُه، وسحر الألباب نثرُه ونظمُه، رضع ثدي العلوم بنَهَم منذ أن كان طفلا، واجتهد في كل الفنون حتى ارتقى المرتقى الأعلى، وعُرِف في كل الأقطار بأنه آية الإعجاز، وأصبح مشارا إليه ببنان الحقيقة والمجاز.
عاش السيدان صنوفا من المحن والابتلاءات وواجها أيضا صنوفا من الهجمات الإعلامية الشرسة وكيلا من التهم الباطلة، وتعرضا أيضا للسجون والمعتقلات، وسيلا جارفا من الأمراض والأوجاع والأسقام داخل وخارج السجون، فهذا الشيخ الددو كان يقاد للسجون والمعتقلات ومكاتب التحقيقات ومعه جندي خاص به يحمل الحقن المغروزة في جسده لما يعانيه من أمراض وآلام تضاعفت عليه في سجون الطغاة وقد دام سجنه أكثر من سنتين وحوكم وحقق معه مرات عديدة وذلك بسبب انتقاده لحكومته التطبيع مع اليهود وقد أغلقت السلطاتُ جامعته التي يرأسها ومركز تكوين العلماء الذي أنشأه ويدرّس فيه ويؤمه طلبة العلم من كل الأقطار، ويواجه صنوفا من التحريض الممنهج ولا يزيده الأمر إلا ثباتا ورسوخا فمن سجون وأمراض ومعتقلات إلى حملات تشويه وحرب ضروس لمراكزه ومؤسساته العلمية، وكذلك الحال مع سيد قطب فقد سجن بسبب كتابه " العدالة الاجتماعية في الإسلامية" وكتب أخرى جاهر فيها بالعداء للصليبية الماكرة وتحدث فيها عن سلوك الحكام طرق تضييع الأمة ومسخ هويتها وكان في كل مرة السجن بانتظاره حاله كحال ابن تيمية وأحمد بن حنبل والعز بن عبدالسلام وكبار علماء الأمة ولو سلك مسلك المدح والتطبيل لأصبح وزيرا للمعارف كما هو حال من يذمه..
أيها الساب الشاتم لجناب سيد:
والله لو رأيت وجه ابن باز وهو يتمعّر غيظا ويقلب كفيه حزنا يوم مقتل القطب لأفزعك الأمر وصُعقت من الفاجعة وعلمت حقا أن الأمة كلها أصيبت به يوم إعدامه وأنه كان فلتة من فلتات الزمان ونفحة من نفحات الدهر.
كان سيد قطب في السجن يتعرض لأبشع صنوف العذاب كما صرح بذلك واعترف المحققون فيما بعد وتعرض لصنوف الإغراء مقابل رسالة اعتذار فقط يخطها بيمينه فما لان ولا مال بل كان يردد :" لن أعتذر عن العمل مع الله".
وفي الليلة الأخيرة التي قضاها السيد في زنزانته.. وقبيل الفجر بساعة طرق باب الزنزانة سجّان يخبره بالتسكين الجديد الذي سينقل إليه.. فقال له سيد بلسان الواثق بربه "نعم إنه تسكين جديد، ولكن ليس في السجن الحربي، وإنما هو تسكين في جنة الفردوس"! وذهب معه واثق الخطى رافع القامة، وأدخل غرفة الإعدام فصلى الفجر وكان قد رأى رؤيا منامية بشره فيها الرسول أنه سيفطر عنده في الجنة ثم أُخرج من تلك الغرفة لساحة الإعدام والمكان موحش والجنود مدججون فوضعت الحبال في يديه وقدميه.. فقال سيد للسجان "دع عنك الحبال سأقيد نفسي بيدي، أتخشى أن أفر من جنات ربي"! وما هي إلا لحظات حتى تأرجحت رقبته وصعدت روحه للسماء..
ذهب سيد لربه وبقي مجده العلمي وتراثه الأدبي حيا بين الناس وبقي أجمل الثناء المسطر عليه وأصبحت الأمة من وقته إلى اليوم تترحم عليه حتى من يخالفه الرأي يذكره بأجمل الصفات وما أظن أحدا في عصرنا بلغ المجد الأدبي كسيد قطب، نعم هناك أدباء خدموا الإسلام لكن تفوق عليهم القطب بثمرة جهوده وتاج كتاباته - الظلال الذي جعله مرتعا خصبا وواحة ندية ومعينا عذبا زلالا لكل متعطش لحياض القرآن..- فحقّا هو السيد في حياته، القطب بعد مماته.
وأما ولد الددو فما أظن أحدا بلغ مجده العلمي وقد تحدث بهذا حتى حاسدوه فهو عالم مجتهد قلّ أن تجد نظيرا له مع قوة في الحجة، وبراعة في الأسلوب، وذكاء في الاستحضار، يزين ذلك بأدب مع الحكام وقول للحق وعدم الخوف من أي كان.
شيخ دثر الله بالكمال إهابه، فلو رآه ليث غابة هابه، كأنما هو مُحَدَّث، هو البحر في تدفقه، والسماء في علوه، والنجم في بعده، قرأ كتب التفسير وكررها حتى أصبح حجة في التفسير فهو شيخ المفسرين، وأحاط بشروح الحديث فكأنما هو صاحب الفتح أو أمير المحدثين، وأتقن المصطلح والبلاغة والمنطق والجدل وعلوم الآلة حتى أصبح قدوة المنظرين، وأتقن كتب الفقه والفروع فلا يقارن به إلا ابن الأمير أو ابن الوزير أو وابن حزم وأضرابهم من المجتهدين، وأما اللغة فهي مرتعه الخصب وميدانه الرحب أخذها كابرا عن كابر..
نهل العلوم في شنقيط ثم درس في الحجاز فجمع علم المشرق والمغرب مع جودة سبك وتفتق ذهن وذاكرة نقادة، وقريحة وقادة..
*انظر جميع خصاله وفعاله..فجميعها عبرٌ لمن يتصفحُ..عجبا لقوم يكفرون بها ولو...عقلوا -وما عقلوا- الصواب لسبّحوا*
يشرح الشيخ ولد الددو ألفية ابن مالك فيطربك ويشجيك ويمتعك بأنظام الطرة فكأنما تعرض أمام عينيه، ويشرح ألفية العراقي وموطأة ابن المرحل والشاطبية والمتون التي فوق الألف دون العودة لمرجع وكأنه هو المرجع بذاته، ويغوص في الشعر الجاهلي فكأنما هو شاهد على أحداثهم ووقائعهم، ويعرض عليك العلل الحديثية، والمستجدات في فقه النوازل وأحكام المعاملات المالية وفقه الأسهم والبنوك والأرصدة ومسائل البيوع والشركات والسلم والحرب وأصول العلوم ومفاتيح الفنون فتندهش لقوة ذهنه وسيلان علمه، وهو يحفظ القصيدة من مرة واحدة فتجد في ذاكرته مئات القصائد لشعراء الجاهلية وصدر الإسلام إلى اليوم مع أنه ما تعمد حفظ الكثير منها..وليس أحد يحصي ما حفظ حتى هو بنفسه ويزيد ما حفظه من المتون عن عشرين ألف بيت تقريبا..
يستشهد من القواميس ولسان العرب وتُصحح القواميس على نطقه، ويجمع لك كل أو أغلب ما قالته العرب عن مثل أو معنى أو لفظة..
يصدق عليه قول الشاعر:
*هذا وحيد الدهر قطب أولي العلا...شمس الملا شرقا بدتْ أو مغربا..قد قرّ في عرشِ العلوم سُمُوه..فلذاه تراهُ على البريةِ كوكبا*
والشيخ ولد الددو قابل كبار علماء الأمة وأثنوا عليه وعلى علمه وكان ابن باز نفسه يحضر دروسه لعلو كعبه وبزوغ نجمه.
إن الشيخين سيد قطب وولد الددو حققا للأمة نتاجا علميا منقطع النظير سيظل هذا النتاج إرثا للأجيال وحديقة غناء وروضة عامرة بثمرات العلم والأدب اليانعة ولو تعامى عن ذلك الحاسدون وسيد قطب في غنى عن دفاعي عنه فقد أُلفت فيه عشرات الكتب كان آخرها رسالة ماجستير تشرفت بالاطلاع عليها تحدث كاتبها عن عقيدة سيد قطب وقد أنصفه صلاح الخالدي في كتابه "سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد" وأقول لمن جهله هل جهلت ثناء أكابر علماء العصر عليه كابن باز وابن عثيمين وبكر أبو زيد والجبرين الذين تدعي أنهم أساتذتك وقد وصفوه بأجمل الصفات ولقبوه بشهيد الإسلام على عثرات عنده لا يقدح فيه بسببها؟
وكيف تجرؤ على وصفه بالإرهابي الكبير وما يملك غير قلمه وملابسه التي كان يكتب عليها تفسيره فتأخذها أخته فتنقل خطه ثم تغسلها وتعيدها إليه خوفا من ( كرابيج) الجلادين وكيف يكون إرهابيا من يترحم عليه علماء الأمة وصالحوها وأخيارها ؟
وكيف تُنزِّل عليه قوله تعالى "وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار" وهي لا تليق إلا بفرعون وقومه ومن على أضرابه وشاكلته..
(أعوذ بالله من الخذلان..)
إنه مهما تجرأ بعض الشاتمين لرموز الأمة بالمجاهرة بذلك إلا أن هذا الأمر يزيد من إظهار هؤلاء الأعلام وقوة علمهم وبراعة أدبهم وسطوع شموسهم فماذا ستقول الأمة اليوم عنك وماذا سيسطر عنك التاريخ وأنت تفضل أم كلثوم وعبدالحليم حافظ والمطربين على هامة بلغت السماء مجدا ورقيا وأدبا ودأبت على العيش في ظلال القرآن والكتابة فيه...؟
هما الذهب كلما حُكّ ازداد لمعانا والعود كلما أحرق نَفحَ طيبا.
*وإذا أتتكَ مذمّتي من ناقصٍ فهي الشهادةُ لي بأنّي كاملُ*
وسوم: العدد 807